العراق ...والمنعطف التأريخي الأخطر

                                 

                    د. محمد عياش الكبيسي

ربما لم يشهد التاريخ منطقة ساخنة في العالم أشد من هذه الأرض المحيطة بالنهرين العظيمين دجلة والفرات، فعلى ضفافهما تحركت المجتمعات البشرية مبكّراً ذهاباً وإياباً، عمراناً وخرابًا، سلماً وحرباً، فكانت أرض السواد وأرض الحضارات وأرض التقلبات والانقلابات الكبرى، الأرض التي تستجيب وتتفاعل بقوة مع كل حدث في الخير أو الشر، فكل كلمة تقال هنا تثمر عملاً ومشاريع وتفاعلات لها أول وقد لا يكون لها آخر، اعتزل واصل بن عطاء مجلس الحسن في مسجد البصرة فتكوّن المذهب الاعتزالي، وخالف أبو الحسن بعض شيوخه فكان المذهب الأشعري، وصاحت امرأة في أقصى البلاد (وا معتصماه) فتحركت لها عروش وجيوش وأقلام ومنابر، وقيل: إن مولوداً للحسن العسكري قد اختفى في ظروف غامضة! فتشكلت اليوم مليشيا باسمه (جيش المهدي)! ..

بمقارنة سريعة تتضح خصوصية هذه الأرض وطبيعة أهلها، في جوارنا شعب عريق كان يحكم العالم تحت اسم (الدولة العثمانية) وهو شعب لم أرَ مثله تعظيماً للشعائر والمقدسات الدينية، تنهار هذه الدولة على يد الأوروبيين بعد سجال من المعارك استمر لقرون، فيأتي نظام علماني تغريبي يتناقض مع كل الموروث الثقافي والديني وحتى اللغوي والاجتماعي، حتى منعَ الحجاب والأذان وتعليم القرآن!.. مع كل هذا لم تحدث ثورة مفاجئة، ولا انقسام أو احتراب، مارس الناس حياتهم، بينما راح الدعاة والمصلحون يخططون بنفس عميق وطويل لاستعادة الهوية دون صخب ولا ضوضاء ولا دماء، إنهم بالضبط كمن يحفر البئر بإبرة، حتى تمكن حزب العدالة والتنمية بعد قرن كامل من التسلل إلى دفة الحكم بطريقة هادئة لكنها قوية وواعية، ورغم هذا التباين الحاد من (خلافة إسلامية) إلى (نظام علماني مناقض للإسلام) إلى (حكومة إسلامية) إلا أن الشعب التركي يعيش حياته الطبيعية ويحافظ على وحدته الوطنية وعلاقاته الاجتماعية الداخلية!..

في العراق يكفي جزء يسير مما حصل لجيراننا الترك أن يشعل ثورات مسلحة وانقسامات لا حدود لها وبكل الاتجاهات والمجالات.

إن هذا التوصيف لطبيعة المجتمع العراقي وطريقة استجابته للتحديات تجعلنا أمام حالة من القلق ليس على مستقبل العراق فقط بل على مستقبل المنطقة برمتها خاصة بعد الفوضى الشاملة التي أنتجتها السياسة الأميركية على هذه الأرض.

في سقوط بغداد الأول على يد هولاكو تم إزاحة بغداد عن موقع الريادة العربي والإسلامي، ولم يتمكن العراقيون من استعادة هذا الدور حتى بعد تحريرها وإلى اليوم، وكل النجوم العلمية والحضارية اللامعة في تاريخ بغداد كانت قبل ذلك السقوط، وهذه لم يتنبه لها أحد من الذين يعدّون ضحايا الغزو المغولي لبغداد، فالإحصاءات كلها تتحدث عن ملايين القتلى وآلاف الكتب التي غرقت في نهر دجلة حتى تغيّر بلون الدماء مرة وبلون المداد مرة أخرى، لكن الأسوأ من هذا هو الانتكاسة الحضارية الطويلة الأمد والتي لم تتعاف منها بغداد إلى اليوم.

وإذا كان المغول قد تمكنوا من إزاحة بغداد عن موقعها الريادي هذا، فما الذي فعله الأميركيون اليوم؟

يحصي المراقبون أيضاً خسائر العراق جراء العدوان الأميركي. هنالك مليون قتيل ومثلهم من الجرحى والمعاقين والتشوهات الجنينية، هنالك تدمير شامل للبنية التحتية ولمؤسسات الدولة، لكن هذه الخسائر كلها وأضعافها أيضاً لا تؤثر في مستقبل العراق كما يؤثر فيه نجاح الأميركان وبالتعاون مع جارة الشرق إيران في تحويل العراق من (دولة المواطنة) إلى (دولة المكونات).

هذه هي الحقيقة الخطيرة والتي جاءت منسجمة ربما مع تطلعات الكرد المبكرة، فلم يتطلب الأمر لديهم أكثر من تحوير الاسم من (الحكم الذاتي) وهو استحقاقهم في حكومة البعث قبل الاحتلال إلى (إقليم كردستان)، أما الشيعة فقد تصرفوا من الأيام الأولى كمكوّن منفصل بمراجعه الدينية وأحزابه السياسية وقوائمه الانتخابية، أما السنّة العرب فأمرهم مختلف، مثلهم كمثل ثلاثة أشقاء ورثوا بيتاً واحداً وبإدارة واحدة، ثم قرر اثنان منهما الانفصال بشؤونهما وإدارتهما، وبقي الثالث حائراً، ولم يبق أمامه إلا أن يفعل مثل ما فعلا، أو يتنازل لهما أو لأحدهما عن حقه واستحقاقه.

لقد نهض أهل السنّة لمقاومة الاحتلال باسم العراق كله، ولكن شركاءهم لم يقفوا معهم، بل لقد دخل الجنود الشيعة مع المحتل في مهاجمة الفلوجة وغيرها من المدن السنّية، ثم قامت الحكومة الشيعية نفسها باغتصاب المساجد وانتهاك الأعراض ولم يُنكر عليها أحدٌ لا من مَراجعهم الدينية ولا من واجهاتهم العشائرية، وهو ما يعني أن الحكومة لم تكن معزولة عن بيئتها وحاضنتها المجتمعية، إلا أن بعض الواجهات السنّية ما زالت تُحمّل الحكومة وحدها كامل المسؤولية وتعفي حاضنتها ومكونها الطبيعي، وهو مجرد تغرير للنفس وقفز على الحقيقة.

أدرك الجمهور السنّي شيئاً من هذا الواقع المر فانطلقت انتفاضتهم الشاملة في محافظاتهم الست، وإذا بتلك الواجهات تعود من جديد لتحذر من الانقسام الطائفي وتبشر بعودة الحس الوطني إلى محافظات الجنوب والتي أعطت مواثيقها المغلظة لهم بأنهم سينطلقون مع إخوانهم وشركائهم في الثورة العراقية الكبرى! ولكن وبعد مضي الخمسة شهور تقريبا ما زال السنّة لوحدهم في ساحات التظاهر والاعتصام.

إن مشكلة هؤلاء أنهم لا يريدون أن يروا الواقع إلا وفق ما يشتهون أو يحلمون، إنهم لم يفيقوا من الصدمة بعدُ، إن دولة المواطنة في العراق قد انتهت رغماً عنا، وقد دخلنا في دولة أخرى اسمها (دولة المكونات)، ولم يعد أمامنا نحن سنّة العراق من خيار إلا واحد من ثلاث: استسلام مهين للمشروع الصفوي الإيراني المستند على قوة التكتل الطائفي الداخلي، أو إعلان الحرب الشاملة التي تدمّر العراق وأهله، أو التوافق على عقد اجتماعي وسياسي يحفظ لكل مكوّن خصوصيته الثقافية والاجتماعية ضمن الدولة الموحدة.

لقد كنا نتمنى أن تبقى بغداد الرشيد عاصمة للخلافة الإسلامية، كما كنا نتمنى أن تبقى غرناطة عاصمة للإسلام في أوروبا، وأن تبقى القدس شريكة الحرمين الشريفين في شد الرحال كما أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكنا نتمنى أيضاً أن يبقى المسلمون أمة واحدة ودولة واحدة من المحيط إلى المحيط، لكن هذه الأماني كلها اصطدمت بالسنن الكونية وحركة التاريخ وضغط الواقع، وصرنا أضعف بكثير من أن نحتج مجرد احتجاج على معاهدة كمعاهدة سايكس بيكو حتى صرنا جزءاً منها بثقافتنا وسياستنا وجوازات سفرنا وكل شؤون حياتنا.

لقد عرض المجتمع الدولي على أشقائنا الفلسطينيين دولة بسيادة كاملة على المساحة الأكبر من فلسطين، لكنهم رفضوا بالإجماع، ثم تراجعوا شيئاً فشيئاً حتى قبلوا بحكومتين مجزأتين قاصرتين إحداهما في غزة والثانية في الضفة، رغم كل البطولات والتضحيات الأسطورية والتعاطف العربي والإسلامي الكبير.

وهكذا حاول سنّة العراق أن يتغافلوا عن الواقع وأن يتمسكوا بالشعارات الوطنية وأن يجربوا سياسة المناشدات والمبادرات لمد جسور الثقة مع شركائهم وربما كان آخرها مبادرة الشيخ عبدالملك السعدي والتي تم رفضها بشكل قاطع قولا وعملا، حتى قال فضيلته: إن ما جرى في بعقوبة وغيرها من مجازر ما كان إلا رداً عملياً على مبادرتي.

لقد آن لسنّة العراق أن يعترفوا بهذا الواقع المفروض عليهم وأن يدركوا أن التردد في تشكيل الإقليم السني والذي يضمن لهم المحافظة على هويتهم وخصوصيتهم الثقافية والاجتماعية ضمن العراق الموحد معناه فتح الباب الأوسع للمواجهة المسلحة والحرب الأهلية التي ستشعل المنطقة بأكملها، والتي ربما ستكون المقدمة الطبيعية –لا قدر الله- لإنتاج سايكس بيكو جديد تتغير فيه معالم الأرض والإنسان.

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

1539 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع