ثقوب في الذاكرة العسكرية البعيده

                                                              


                       بقلم/ فؤاد حسين علي

حياتي وحياتك،وحياة الخلق مليئة بالمفارقات ،وكذلك بالذكريات تمسح من خلايا الحفظ الموجوده في العقل .وقبل أن يحدث هذا المسح،أستوقفتني أحداها كانت الأكثر تنططا في مخيلتي التي تزدحم بالذكريات ،حلوها ومرها،وكأنها تريد أن تخلد في ذاكرة الغير قائدا عسكريا يستحق التخليد...تناولته بقدر من التفصيل دفعني اللهاث عائدا الى الوراء،الى العام 1977 يوم تخرجت من كلية الاركان العراقيه بدورتها 42 ،وانتظرت مع ثلاثين متخرجا حصيلة الدوره نصيبا من التنسيب على الوحدات العسكريه ،كسياق كان متبعا لتوزيع الخريجين.

جاء النصيب ضابط ركن الثالث حركات في لواء المشاة التاسع عشر،فرحت في حينه لأرتباط اللواء التاسع عشر بثورة 14 تموز 1958 ،وحزنت أخيرا لتيقني أن قادته اللذين قادوا الثوره مع اللواء العشرين قد فتحوا أبواب الأضطراب وعدم الاستقرار على عراق كان سائرا الى المستقبل بخطى بطيئه ،مقبولة بمقاسات اليوم ،أذ أنهم وعندما حاولوا الأستعجال وجدوا أنفسهم والعراق في طريق مليئ بالحفر لأيمكن الوصول الى نهايته بسلام .

   

                             سد دوكان

اللواء التاسع عشر كان مقره في منطقة شارلستن التي تتوسط في خضرتها الجميله جبل آسوس الشامخ بعلوه وجبل قره سرد المطل بهامته على بحيرة دوكان الساحره بمائها العذب وسمكها البني اللذيذ . موقع جميل ومنظر خلاب ،ينسي العسكر هموم الترقب وأعمال القتال في هذه المنطقه التي لم تهدأ منذ عشرات السنيين . الايام وقعها بطئ ،ولابد من التعود على هذا الواقع ،مرت الايام العشرون الاولى منها بسلام ،وحل موعد الاجازة الدوريه ،تبلغت بحصول الموافقه على التمتع بها مساءا ،رزمت حوائجي ،جلست أتأمل صفاء السماء ونجومها المتفرقه في هذه المنطقة الجميله ،أفكر في الغد ،وفي كيفية التمتع بأول أجازة لي بحياتي الجديده كضابط ركن...

 

       الشهيد / وليد محمود سيرت برتبة نقيب طالب في الدورة 34 كلية الأركان العراقية

رن جرس الهاتف الميداني ،تبليغ من آمر اللواء بتأجيل الأجازات الدوريه بسبب الزيارة التي ينوي قائد الفرقه السابعه العميد الركن وليد محمود سيرت القيام بها الى قاطع اللواء. أحباط مشوب بقلق الترقب والرغبه بالتعرف ،فتأجيل الأجازات في الخدمة

العسكرية أثناء الحركات الفعليه من أكثر الأمور أحباطا للعسكر،لأنها بالضد من الرغبات الشخصيه. وملاقاة قائد مثل وليد محمود سيرت فيها قدر من التوتر لأنه لأيجامل أحد في مواقف الشعور بالتقصير.والتعرف على شخصيته الفريده عن قرب فرصة لاتعوض ،لأنها شخصية عسكريه فريدة ،ومعرفيه راقيه وأجتماعيه متزنه،أنه قائد لايضاهيه آخر من جيله تلك الأيام . حل الصباح مبكر في ربيع المنطقة الخضراء –حوض شارلستن-،كل الاستحضارات قد تمت ،التوتر على أشده بين عموم الضباط .

  

                            الشهيد في السليمانية

أنه العميد الركن وليد محمود سيرت قائد الفرقه السابعه ،طائرته السمتيه المخصصه للأستطلاع تحوم في المنطقه ،أبتعدت قليلا ،ضن البعض أنه قد لأينزل في مهبط المقر،وضننت بمحاولته الألمام بطبيعة المنطقه ،قبل النزول بين عسكرها،هكذا هي عادته وباقي القاده الكبار...رغبة في الألمام بكل التفاصيل قبل الدخول في المواقف ذات الصله بها .

            

وصل القائد،أصطف الضباط في صف عريض حسب القدم العسكري ،أصبحت بمواجهته ،قدمت نفسي وفقا للسياقات العسكريه ،رد التحيه بيده اليسرى على غير العاده لأصابة يده اليمنى في أعمال قتال سابقه.قيافته العسكريه كامله،له هيبة القادة العظام ،قصر قامته أضاف له مسحة وجاهه قل حصولها بالنسبة للآخريين .أجرى جولة كان يريدها معرفيه،ركز على جغرافية المنطقه وأثرها على القتال ،وقف أمام الخرائط المسطره على لوحة الحركات ،سأل عن علامات ونتوءآت جبليه ،وأشجار متفرقه ،ومنابع المياه ،كأنه مكتشف للطبيعه وليس قائد في ميدان قتال .

تكلم قبل مغادرته اللواء عن جغرافية المنطقه وتفاصيل الارض مثل أهل الأختصاص .أثار أستغرابي ،تابعت مسيرته لآحقا ،تبين أنه قد تخرج الاول على طلاب الكلية العسكرية البريطانيه ،والأول على كلية الاركان العراقيه،يجيد الانكليزيه بطلاقه،ويفهم العربيه بأحتراف،وانه بدأ التأليف في الشؤون العسكريه بعد تخرجه مباشرة .وتبين أنه ملم بصنوف الجيش أكثر من أصحابها ،يحاججهم وينصحهم بالعودة الى المكتوب في الكراسات العسكريه ،كأنه هو من ألفها.. عاشق حقا لمهنته ،أحبها بجد ،فضلها على عائلته وأصدقاءه وأقاربه،معلم من الطراز الاول ،مربي فاضل،رياضي مقتدر،طروحاته عن التوازن والردع ،وعن الحمام الزاجل والتاريخ والاقتصاد والنفس الانسانيه ،تبهر سامعيه،فتثير أحترام العارفين لمكانته،وعدوانية الجهله لشخصه ،كلمته واحده لايتنازل عنها مهما كان الخطر ،ورأيه ثاقب في كل الظروف والمواقف ،يرشد المخطئ الى الطريق الصواب بهدوء مقلق ،يؤنب المذنب بذات الهدوء ،نزيه الى أبعد الحدود،يطبق القانون بجدية دون تحريف.

مرت الايام ،وطوى النسيان ذاك اللقاء ،وسيطرت مشاعل القتال على نهج التفكير ،وأستبشر المنتسبون بنقل قائد فرقتهم الى منصب قائد الفيلق الاول في كركوك،أنه سيبني فيلقا عسكريا بقياسات الفخر والاعتزاز . كان الكرسي الذي شهد تأجيل الأجازة الدوريه قبل عام ،موجود في نفس المكان الذي يطل على البحيرة من بعيد ،وكانت الجلسة المسائيه للتأمل هي ذاتها في ذلك اليوم،وكان جرس الهاتف يرن لأمور بينها مايتعلق بالقتال الدائر وبينها ماله صلة بالعلاقات الخاصه بين الاصدقاء ،كان هذه المره آمر اللواء شخصيا ألقى التحيه مثل كل مره يبدأ فيها الكلام ،بلغني بضرورة تسليم مابذمتي تنفيذا لأمر النقل من مقر اللواء الى مقر الفيلق ،حسب أمر صدر من قائد الفيلق،العمل في مقر الفيلق مختلف تماما ،يبدأ منذ الصباح الباكر،ولاينتهي عند المساء ،فالوقت ثمين وهو ملك للفيلق طول الايام التي يمكث فيها الضباط في المقر ،من يتعثر يعرف أنه على قائمة النقل القادمه،ومن يبدع يعي مقدار تحمله لمزيد من الأعباء ،هكذا هي أصول العمل ونهجه في الفيلق ،السرعه والدقه عوامل مطلوبه ،يؤكد عليها القائد بأستمرار .

كان العام 1979 وكان القائد اللواء الركن وليد محمود سيرت ،قد طلبني لمرافقته في جولة أستطلاع بالطائرة السمتيه شملت منطقة السليمانيه حتى الحدود العراقيه الايرانيه ،عدنا منها بعد منتصف الليل بقليل ،كنت أرقبه طوال الجوله ،شعرت وكأنه مهموم ،سألني قبل هبوط الطائره :

رائد ركن فؤاد هل مايجري في بغداد هذه الايام ،أمر طبيعي ؟

فاجئني بسؤاله....أجبته بطريقة التهرب من الأجابه ..نعم سيدي..

أدرك بفطنته النبهه حرجي،فغير الموضوع ،سائلا عن طبيعة الجوله الأستطلاعيه.

حطت الطائره في المهبط ،لم يتوجه الى الاستراحه من يوم عمل طويل ،وبدلا من ذلك طلب تمشية الامور البريديه،أنجزه بعد فتره ،أطفأ نور مكتبه ،أيذانا لباقي هيئة الركن بانتهاء يوم العمل.جاء الصباح ،نهض مبكرا قبل غيره من الضباط .توجه الى مكتبه بكامل قيافته العسكريه النظيفه ،وتوجهنا نحن كل الى مكتبه ،خلية نحل تعمل دونما كلل،أصوات أقدام مبعثره في الممر الرئيسي ،وهمس كلام مسموع بين الماشين ،منظر غريب غير طبيعي ،تنبه اليه الجميع ،فخرجوا في غالبهم من الغرف يستفهمون ،أمين سر الفرع العسكري لحزب البعث في مقدمة الماشين ،وثلاثة من أعضاء الفروع يتبعانه بطريقة لاتوحي أنهم قادمين لعقد الاجتماع الحزبي في مكتب القائد بأعتباره أحد أعضاء الفرع ،معهم ضباط من الاستخبارات تدل هيئتهم على انهم قادمين من بغداد . لحظات ترقب عاشه المقر ،كانت وكأنها سنه ،أنتهت بخروج القائد اللواء الركن وليد محمود سيرت مقيد اليدين ،يدفعه أحد الضباط القادمين من بغداد ببندقيته كلما تباطئ في المشي ،كان شاخصا بنظره صوب الضباط الواقفين وراء ابواب الغرف ،كأنه يريد أن يقول شيئا لم نكن نفهمه في تلك اللحظات القاسيه ،ولم نستطع أدراك مغزاه ،فالقائد وليد سيرت هو أبن الدوله وعضو فرع في حزبها الحاكم ،وضابط مشهور في أخلاصه للدوله ،يعامل هكذا بدون أحترام...

غلقنا ابواب غرفنا بائسيين قلقين،غادر السجانون والضحيه معا مقر الفيلق ،يمسكون صيدا ثمينا،شعرنا ساعتها أننا الضحيه ،وأننا على نفس الخط سائرون. مر اليوم ،ولم يغادرنا منظر القيود في يد القائد الذي كان أعضاء الفرع يقفون خلفه،يحسبون حسابه قبل ساعات . تعددت الاقاويل بين الضباط الذين توقفوا عن العمل وانهمكوا بالتحليل والتكهنات،وجاء العصر يحمل معه أنباء الاتهام الموجه لهذا القائد الجسور بالاشتراك في التآمر على الحزب والثوره.

لم يسعفنا الوقت لمزيد من التكهن والتحليل ،فاليوم الثاني حمل أنباء الحكم بالاعدام رميا بالرصاص على اللواء الركن وليد محمود سيرت وآخريين من رفاقه العسكريين والمدنيين بذات التهمه التي لم نصدقها في دواخلنا المتعبه ،وأن تكلمنا عن حدوثها في العلن ،مسايرة للنهج العام وتفاديا للأتهام الجاهز.. لم ينتهي الأمر بعد ،ولم تتوقف أتجاهات الحيرة ،فأعمدة التسقيط منصوبة ،وتهم التلفيق موجودة ،أيام لم تنشف فيها الدماء ،ولم ينتهي القلق من النفوس ،بدأت دوامة التحقيق مع ضباط الفيلق الاول ،في تمثيلية يراد منها التأكيد على أن مؤامرة قد حدثت بالفعل وأن اللواء الركن وليد محمود سيرت كان مشاركا فيها ،ومادام الأمر هكذا ،فلابد وأن يكون هناك ضباط وأياه مشاركون . أستدعينا الى التحقيق وبدأ المسلسل عن العلاقة بالقائد وليد سيرت ،نسي المحققون أو تناسوا طبيعة العمل العسكري ،وماهية العلاقة المهنيه بالقائد ،أستمروا بفصول التمثيليه الى نهايتها ،قسموا نتائجها لكي تكون معقولة ،بعض من أحيل على التقاعد والبعض الآخر أحيل لوظائف مدنيه وآخرين نقلوا الى أبعد نقطه في العراق . ماهو السبب؟؟ لماذا يقتل الرفاق بعضهم بعضا؟؟ لماذا يخربون جيشهم؟؟ لماذا يهينون قادتهم وعلمائهم ومفكريهم؟؟ لماذا؟؟لماذا؟؟لماذا؟؟ أسئلة كثيرة لم أجد لها الجواب في حينه ،ولربما لم أرغب في أن أجد لها الجواب الصحيح ،لأن الاجوبه الصحيحه في عراق الماضي والحاضر ولربما المستقبل ترعب أصحابها ،فيتجنبون الخوض في تفاصيلها ، تفاديا لحالة الرعب المخيف . لكنني وبعد اربع وثلاثين عاما من واقعة أستشهاد القائد العسكري العظيم اللواء الركن وليد محمود سيرت ،وجدت الجواب في عقلية الساسه الذين يجاهدون لبناء ذواتهم الخاصه ،على حساب الذات الوطنيه للعراق ،فيهدمون بسببها كل الأعمده وأن كانوا قادة عظام...

كتبت بتاريخ 20-5-2013

            

الگاردينيا:شكرا للأخ/ محمود محسن بأرساله صورة الشهيد وهو برتبة نقيب.. بارك الله فيه وجزاه الله الف خير..

شكرا لأبنة الشهيد(إيناس) لأرسالها صورة الشهيد برتبة لواء ركن..

وضعنا صورة لرتبة ( لواء ركن) لسببين الكاتب يحمل هذه الرتبة وكذلك القائد الشهيد/ وليد محمود سيرت... فقط للعلم ..

أطفال الگاردينيا

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

711 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع