د.محمد الگيلاني
شهادتي للتأريخ: ذكريات العصر الذهبي للطب في العراق...الوحدة الخامسة، الطابق الثامن الباطني، مستشفى مدينة الطب 1979
تخرجت من كلية الطب، جامعة بغداد في عام 1979 و كنت السابع على الدورة (حوالي 280 طبيب). تم تعييني لمدة عام كمقيم دوري في مستشفى مدينة الطب (المستشفى الجامعي لطب بغداد) توزعت الاقامة 3 أشهر في الباطنية (الوحدة الخامسة، الطابق الثامن)، الاطفال (الطابق العاشر)، الجراحة (الطابق الثالث)، النسائية و التوليد (الطابق الرابع). من حسن الصدف ان يكون اول الاقامة في فرع الباطنية (للاسباب التي ساذكرها لاحقًا). عملت في الباطنية مع الاستاذ الدكتور فرحان باقر و الاستاذ الدكتور مصطفى سليم كمقيم دوري و معي كانوا الاطباء المقيمين الاقدمين الدكتور هاشم (العظيم) (لغزارة علمه و ذكاءه) و الدكتور مجيد (الذي لا يقل عنه في القابلية و الخلق) في عام 1979 كما ضمت الوحدة الخامسة ايضا الاستاذ الدكتور حامد المنذري.
تعلمت الكثير من هذه الاقامة التي افادتني كثيرا في بداية تدريبي العملي بعد التخرج و التي من بعدها استسهلت كل ما تلاها من فروع؛ الاطفال، الجراحة، النسائية و التوليد ضمن الاقامة الدورية لكونها اعطتني اساسا قويا استند عليه. الحقيقة اني تعلمت الكثير ليس فقط من اساتذتي الافاضل في الوحدة لكن من الاطباء المقيمين الاقدمين و طلاب الدراسات العليا (الدبلوم) مثل الدكتور مكي علوش الذين قضيت الوقت الاكثر معهم اثناء الاقامة.
من ذكريات تلك الايام أذكر:
1. استعمال جهاز اعطاء الانسولين insulin infusion pump و قد كان حسب ما اعلم جديد قد ادخله الاستاذ فرحان للعراق لاول مرة لعلاج الحماض الكيتوني السكري Diabetic Ketoacidosis
2. جولة المرضى الكبرى Grand Round يوم من كل اسبوع حيث يتم التحضير له بعناية من قبل الاطباء المتدربين و يشترك فيه جميع اساتذة الوحدة الخامسة مع جميع الاطباء المتدربين مقيم اقدم، مقيم دوري (مثلي) و بضمنهم طلبة الدراسات العليا الدبلوم (قبل انشاء دراسة البورد العراقي و العربي) بالاضافة الى اطباء اخرين تواقين للحضور و الاستفادة من وحدات الباطنية الاخرى في المستشفى. يقوم المقيم الاقدم بتقديم الحالة امام الاطباء اللذين يقومون بدورهم باستجواب المريض و فحصه و من ثم ابداء الآراء في التشخيص و العلاج.Grand Round Consultation. و بهذا يستفيد المريض من آراء عدة اطباء استشاريين في الوسيلة المثلى لعلاج حالته و نستفيد نحن بدورنا الاطباء المتدربين من النقاشات و الاراء العلمية! و حسب علمي كانت الوحدة الخامسة هي الوحيدة في مستشفى مدينة الطب (و ربما في العراق) التي لها هذا النشاط الرائد!
3. اجتماع اسبوعي لمناقشة الحالات الطبية و ما بعد الوفاة Medical & Post Mortem case discussions يوم من كل اسبوع هناك اجتماع في قاعة المحاضرات، الطابق الاول للحالات السريرة الصعبة و المعقدة و في بعض الاحيان مع احضار المريض الى القاعة للتمكن من سؤاله او فحصه لمناقشة الحالة او في حالات الوفاة غامضة السبب التعرف على سبب الوفاة بعد اجراء التشريح للطب العدلي Post Mortem. حيث كانت تضج القاعة بالاطباء المتدربين و الاساتذة و تدور خلالها احيانا المناقشات الحامية!!! و كنّا تواقين للتحضير و الحضور و الاستماع و التعلم من هذا الاجتماع الاسبوعي.
4. جولة ليلية على المرضى Night Ward Round كل ليلة من حوالي الساعة السادسة مساءًا نقوم نحن الاطباء المتدربين بزيارة و فحص كافة المرضى في الوحدة و من ثم نواصل مناقشة الحالات و التي قد تستمر أحيانًا خلال تناولنا سوية طعام العشاء في مطعم الاطباء في الطابق العاشر. يشارك فيها جميع اطباء الباطنية المتدربين في الوحدة. كان علينا نحن المقيمين الدوريين استكمال كافة الفحوصات التي قد تكون ناقصة استعدادا للجولة الصباحية المعتادة مع الاستشاري. تعلمت الكثير من زملائي الاطباء المقيمين الاقدمين و طلاب الدبلوم حيث ان معلوماتهم كانت محدثة up to date كونهم كانوا يحضرون لامتحانات زمالة الكلية الملكية الطبية MRCP في بريطانيا!
5. زيارة الرئيس الراحل صدام حسين تمت الزيارة في الفجر و كنت حينها مازلت لم اصل الى المستشفى من البيت و عند وصولي وجدت الابواب موصدة من قبل الحماية لحين مغادرة الرئيس. كنت عند التحاقي في مدينة الطب بعد التخرج لم اجد مبيت لي في المستشفى و لذلك طلب مني ايجاده خارج المستشفى و الحضور كل صباح! عند وصول الرئيس فجرا و قبل الدوام الرسمي اتجه الى المصاعد عند الباب الرئيسي الطابق الاول، سأله عامل المصعد الى اين سيادة الرئيس؟ اجابه الرئيس بكيفك!!! و من نباهة عامل المصعد اوصله الى الطابق الثامن (جهة اليسار) عناية انعاش التنفس Respiratory Care Unit و انعاش القلب Cardiac Care Unit حيث يتواجد اطباء الخفر في كل الاوقات 24/7. و اوصل الخبر بسرعة الى الاطباء الاقدمين د. هاشم (العظيم) و د. مجيد. و فعلا عندما و صل الرئيس الى مدخل الوحدة الخامسة و جدهم باستقباله مرحبين مرتدين للصداري البيضاء حيث رافقهم لزيارة round جميع المرضى و قاموا بشرح كامل و مفصل لحالة كل مريض في الوحدة (تاريخ الدخول، الاستشاري المسؤول، الاسم، العمر، الشكوى، التشخيص، العلاج). و قد امر الرئيس بارسال بعض المرضى التي حالتهم صعبة الى خارج العراق للعلاج على نفقة الدولة. في النهاية بدت على الرئيس علامات الرضا و الامتنان من كليهما. و قال لهما بما معناه "متى يأتي اليوم الذي تاخذون فيه مكان اساتذتكم الاطباء!؟" و كرم الرئيس الدكتور هاشم (العظيم) بابقائه في مدينة الطب و الغاء نقله الى المحافظات. اما الدكتور مجيد فقد كرمه بتعينه مديرًا لمستشفى ابن سينا!!! للتأريخ، اكثر من مريض اشادوا بالاستاذة الاطباء المعاجين لهم في الوحدة كما اشادوا بي (العبد الفقير) المقيم الدوري مما حذا بالرئيس السؤال: و اين الدكتور محمد الكيلاني!!؟
6. احالة الاستاذ فرحان باقر على التقاعد (قائمة ال 49 استشاري)!!! حصل بعد زيارة الرئيس ببضعة اسابيع و وقع علينا مثل الصاعقة!!! لماذا؟ و كيف؟ يا لخسارتنا و خسارة المرضى (و العراق!!!) أذكر في نفس يوم اعلان القرار انا كنّا في جولة على المرضى مع الاستاذ فرحان و قابلنا في الممر الاستاذ الدكتور حامد المنذري الذي شمله قرار التقاعد و قال مخاطبا الاستاذ فرحان (هسة انت بلك افتهمنا، بس اني ليش؟؟؟) كان الاستاذ الدكتور حامد المنذري استشاري امراض الدم يعمل في الولايات المتحدة الامريكية و تم استدعائه الى بغداد لمعالجة زوجة الرئيس الراحل احمد حسن البكر. عند ذلك عرض عليه العودة و الاستقرار في العراق مع المحفزات كاستيراد سيارة معفاة من الكمرك (قانون الكفاءات) و التعين في مستشفى مدينة الطب. فاستجاب لذلك. لكنه لم يحلم ان يتم التخلى عنه (للاسف) بعد ذلك بمدة قصيرة!!! الذي لن انساه ان الاستاذ فرحان في اخر يوم له زرناه في غرفته الخاصة في الطابق الثامن لتوديعه و قام باهدائي كتاب من مكتبته الصغيرة في غرفته موقعة باسمه. و قد قمت بعدها بحمل حقيبته السامسونايت من باب الاحترام و الوفاء و مرافقته الى باب المصعد مودعا اياه في اخر يوم له في مدينة الطب، اسفي و حزني!!!
لقد كانت تلك الفترة هي بلا شك العصر الذهبي للطب و دراسة الطب في العراق من قبل نخبة خيرة من الاساتذة الاطباء الاكفاء امثال فرحان باقر، سالم الدملوجي، احسان البحراني، زهير البحراني، خالد القصاب، حامد المنذري، مهدي مرتضى ٠٠٠الى اخر القائمة. اعتبر نفسي من المحضوضين الذين سنحت لهم الظروف ان اعيش تلك الفترة الذهبية و استزيد من علمهم و خبرتهم و اخلاقهم المهنية الراقية حيث كانوا لي القدوة الحسنة و النبراس في خدمة المريض التي انارت لي الطريق في حياتي العملية... والى اليوم. للاسف خسر العراق قمة اطبائه العلماء في 1979 (بدون مبرر) و منذ ذلك الوقت تراجع الطب عاما بعد عام و الى يومنا الحاضر و لم يسترد عافيته و الخاسر الاكبر هو المريض و طلبة كليات الطب... و سمعة العراق الطبية!!!
رحمة الله على استاذنا الدكتور فرحان باقر و جميع اساتذتنا الكرام و العمر المديد لاستاذنا الدكتور مصطفى سليم. شكرًا لكم جميعا على علمكم و عملكم. لكم الفضل لما انا عليه... بعد دعوات الوالدين...و عنايه الله.
د. محمد الكيلاني FRCS
جراح استشاري
671 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع