في ذكرى مولد الرسول محمد (ص)

                                              

                        سيف الدين الدوري


في ذكرى مولد الرسول محمد (ص)

في العشر الاواخر من شهر رمضان نختتم وختامها مسك سلسلة رمضانيات بالسيرة العطرة لسيد القادات وقائد السادات رسول الله محمد عليه السلام .ج 1

في كتابه ( الابطال) عقد الكاتب الانكليزي الكبير ( توماس كارليل) الذي عقد فصلا عن النبي محمد ( ص) وجعله نموذج البطولة النبوية بين أبطال العالم الذين إختارهم للوصف والتدليل.
وبعد هذا الكتاب سئل الكاتب المصري عباس محمود العقاد : ما بالنا نقنع بتمجيد ( كارليل) للنبي وهو كاتب غربي لا يفهمه كما نفهمه ولا يعرف الاسلام كما نعرفه . فما بالك انت يا عباس لا تضع لقراء العربية كتاباً عن محمد على النمط الحديث؟ . ويقول العقاد قلت: أفعل أن يتم ذلك في وقت قريب، ولكنه لم يتم في وقت قريب، بل تمّ بعد ثلاثين سنة.بعنوان ( عبقرية محمد) فمحمد هنا عظيم لانه قدوة المقتدين في المناقب التي يتمناها المخلصون لجميع الناس. عظيم لانه على خلق عظيم.
ويضيف العقاد: وحسبنا من ( عبقرية محمد) أن نقيم البرهان على أن محمداً عظيم في كل ميزان ، عظيم في ميزان الدين، وعظيم في ميزان العلم ، وعظيم في ميزان الشعور ، وعظيم عند من يختلفون في العقائد .
إن عمل محمد لكاف جد الكفاية لتخويله المكان الاسنى من التعظيم والاعجاب والثناء. إنه نقل قومه من الايمان بالاصنام الى الايمان بالله، ولم تكن أصناماً كأصنام يونان ولكنها أصنام شائهات كتعاويذ السحر التي تفسد الاذواق وتفسد العقول ، فنقلهم محمد من عبادة هذه الدمامة الى عبادة الحق الاعلى. عبادة خالق الكون الذي لا خالق سواه ، ونقل العالم كله من ركود الى حركة، من فوضى الى نظام، ومن مهانة حيوانية الى كرامة إنسانية ، لم ينقله هذه النقلة قبله ولا بعده أحد من أصحاب الدعوات.إن عمله هذا لكاف لتخويله المكان الاسنى بين صفوف الاخيار الخالدين .إلا أننا نمضي خطوة وراء هذا حين نقول أن التعظيم حق ( لعبقرية محمد)
فاذا رجح بمحمد ميزان العبقرية وميزان العمل وميزان العقيدة فهو نبي عظيم وبطل عظيم وإنسان عظيم. ذلك هو محمد بن عبد الله عليه السلام ، قد ظهر والمدينة مهيأة لظهوره ، لأنها محتاجة اليه ، والجزيرة مهيأة لظهوره ، لأنها محتاجة اليه والدنيا مهيأة لظهوره لانها محتاجة اليه .
خُلقَ محمد بن عبد الله ليكون رسولاً مبشراً بدين ، لو إشتغل في التجارة طوال حياته كما إشتغل بها فترة من الزمن لكان تاجراً أميناً ناجحاً موثوقاً به في سوق التجارة والشرارة، ولو إشتغل زعيماً بين قومه لصلح للزعامة ، ولكن الزعامة لاتستوفي كل ما فيه من قدرة واستعداد. فالذي أعده له زمانه وأعدته له فطرته هو الرسالة العالمية لا سواها ، وما من أحد قد أعد في هذه الدنيا لرسالة دينية إن لم يكن محمد قد أعد لها أكمل إعداد.
اتفقت أحوال العالم إذن على إنتظار رسالة واتفقت أحوال محمد على ترشيحه لتلك الرسالة.فكان المعجزة التي تفوق المعجزات .فكان محمد مستكملاً للصفات التي لا غنى عنها في إنجاح كل رسالة عظيمة من رسالات التاريخ ، كانت له فصاحة اللسان واللغة فالفصاحة صفة تجتمع للكلام ولهيئة النطق بالكلام ولموضوع الكلام ، فيكون الكلام فصيحاً أو يكون الكلام والنطق به فصيحين .أما فصاحة محمد فقد تكاملت له في كلامه وفي هيأة نطقه بكلامه وفي موضوع كلامه. فكان أعرب العرب كما قال عليه السلام "أنا قرشي وإسترضعتُ في بني سعد بن بكر " فقد كان جمال فصاحته في نطقه كجمال فصاحته في كلامه . وخير من وصفه بذلك عائشة رضي الله عنها حيث قالت " ما كان رسول الله (ص) يسرد كسردكم هذا ، ولكن كان يتكلم بكلام بين فصل يحفظه من جلس اليه".
فما من حديث له حفظه لنا الرواة الثقاة الا وهو دليل صادق على أنه قد أوتي حقاً ( جوامع الكلم) ورزق من فصاحة الموضوع كفاء ما رزق من فصاحة اللسان وفصاحة الكلام.
وكانت له القدرة على تأليف القلوب وجمع الثقة. وكانت له قوة الايمان بدعوته وغيرته البالغة على نجاحها . وهذه صفات الرسول .وحسبك من حب الضعفاء إياه أن فتى مستعبداً يفقد أباه وأسرته – كزيد بن حارثة – ثم يظهر له أبوه بعد طول الغيبة ، فيؤثر البقاء مع محمد على الذهاب مع أبيه. وحسبك من حب الاقوياء إياه أنه جمع على محبته أناساً بينهم من التفاوت في المزاج والخصال ما بين أبي بكر وعمر وعثمان وخالد وابي عبيدة وهم جميعاً من عظماء الرجال.
ومحمد كان جامعاً للمحبة والثقة كافضل ما تجمعان وكان مشهوراً بصدقه وأمانته كاشتهاره بوسامته وحنانه وشهد له بالصدق والامانة أعداؤه ومخالفوه ، كما شهد بهما احبابه وموافقوه .
يواصل عباس محمود العقاد حديثه عن عبقرية الرسول محمد( ص) فيقول : قضى محمد عليه السلام شبابه وهو يؤمن بفساد الزمان وضلال الاوثان .. وجاوره أناس أقل منه نبلاً في النفس ولطفاً في الحس ونفوراً من الرجس،آمنوا بمثل ما آمن به من فساد عصره وضلال أهله ، ومن حاجتهم الى عبادة غير عبادة الاصنام وآداب غير آدابهم في تلك الايام ، فاذا جاوزهم في صدق وعيه وسداد سعيه فقد وافق المعهود فيه ، الموروث من جده وأبيه.
ولما آمن برسالته هو ودعوة ربه إياه الى القيام بأداء تلك الرسالة ،لم يهجم على هذا الايمان هجوم ساعة ولا هجوم يوم ولم يتعجل الامر تعجل من يخدع نفسه قبل أن يخدع غيره ، ولكنه تردد حتى إستوثق وجزع حتى إطمأن ، وخطر له فترة من الوحي أن الله قلاه وأعرض عنه ولم يأذن له في دعوة الناس الى دينه ، ثم تلقى الطمأنينة من وحي ربه ومن وحي قلبه ومن وحي صحبه ، فصدع بما أمر ، ورضى ضميره بما أوتي من الهداية على النحو الذي رضيت به ضمائر الانبياء وأصحاب الفطرة الدينية ، مع ما بينه وبينهم من فارق في الرتبة والاهبة ، ما بين زمانهم من فارق في الحاجة الى الاصلاح.
فما من عجب إذن أن يكون محمد صاحب دعوة.
وما من عجب أن تتجه دعوته حيث إتجهت وأن تبلغ من وجهتها الغاية التي بلغت ، وإنما العجب ممن يغفلون عن هذه الحقيقة أو يتغافلون عنها لهوى في الافئدة فيشبهون اليوم أولئك الجاهلين الذين أصروا على الكفر به وحجبوا بأيديهم نوره عامدين.
ما من حركة كبرى في التاريخ تتضح للفهم إن لم يكن نجاح الدعوة المحمدية مفهوماً بأسبابه الواضحة المستقيمة التي لا عوج في تأويلها . وما من شيء غير الغرض الاعوج يذهل صاحبه عن هذه الاسباب الطبيعية البينة،ثم يخيل اليه ان الدعوة الاسلامية كانت فضولاً غير مطلوب في هذه الدنيا وان نجاحها مصطنع لا سبب له غير الوعيد والوعود أو غير الارهاب بالسيف والاغراء بلذات النعيم ومتعة الخمر والحور العين.
كان محمد فصيح اللغة ، فصيح اللسان فصيح الاداء . وكان بليغاً على اساس ما تكون بلاغة الكرامة والكفاية وكان بلسانه وفؤاده من المرسلين بل قدوة المرسلين.
إلا أن الابلاغ في كلام النبي هو إجتماع المعاني الكبار في الكلمات القصار بل إجتماع العلوم الوافية في بضع كلمات قد يبسطها الشارحون في مجلدات. . ومن أمثلة ذلك علم السلوك في الدنيا والدين ، وقد جمعه كله في أقل من سطرين قصيرين من قوله ( إحرث لدنياك كأنك تعيش أبداً ، وأعمل لآخرتك كأنك تموت غداً).
ومن أمثلة علم السياسة الذي إجتمع كله في قوله ( كما تكونوا يولّ عليكم) فأي قاعدة من القواعد الاصلية في سياسة الامم لا تنطوي بين هذه الكلمات؟.
ينطوي فيها أن الامم مسؤولة عن حكوماتها ، لا يعفيها من تبعة ما تصنع تلك الحكومات عذر الجهل أو عذر بالاكراه ، لأن الجل جهلها الذي تعاقب عليه والاكراه ضعفها الذي تلقى جزاءه.
وينطوي فيها أن العبرة بأخلاق الامة لا بالنظم والاشكال التي تعلنها الحكومة ، فلا سبيل الى الاستبداد بأمة تعاف الاستبداد ولو لم يتقيد فيها الحاكم بقيود القوانين ولا سبيل الى حرية أمة تجهل الحرية ولو تقيد فيها الحاكم بالف قيد من النظم والاشكال.
وينطوي فيها ان الولاية تتبع تابع وليست بأصل أصيل ، فلا يغير الله ما بقوم حتى يغيروا ما بانفسهم،وأحرى ألا يغير الوالي قوماً حتى يتغيروا هم قبل ذلك.
وينطوي فيها أن الامة مصدر السلطات على حد التعبير الحديث. وينطوي فيها أن الامة تستحق الحكم الذي تصبر عليه ولو لم يكن حكم صلاح واستقلال. وذاك هو الابلاغ الذي ينفذ في وجهاته كل نفاذ. ويلحق بهذا في العلم بالتبعات قوله عليه السلام "أشد الناس بلاء الانبياء ثم الصالحون ثم الامثل فالامثل".
فالمزايا الانسانية واجبات واعباء وليست بالمتع والازياء ، وعلم الانسان بالخير والشر يفرض عليه الفرائض التي يبتلى بها ولا يهنئه بالراحة التي يصبو اليها وهو محسوب عليه وكذلك ذكاؤه محسوب عليه.
وامثال هذه الاحاديث في اصول السياسة والاخلاق والاجتماع مما لا يتناوله الاحصاء في هذا المقام.
ويمضي العقاد في الحديث عن رسول الله محمد عليه السلام فيقول: اذا كان الرجل محباً للناس ،أهلاً لحبهم إياه ، فقد تمت له أداة الصداقة من طرفيها.
ولا يكفي ان يحب الناس ليحبوه ، لانه قد يحبهم وفي ذوقه نقص ينفرّهم منه ويزهدهم في حبه.
ولا يكفي أن يكون محباً سليم الذوق ليبلغ من الصداقة مبلغها فقد يكون محباً محبوباً حسن الذوق ثم يكون نصيبه من الخلق المتين وقد كان محمد في هذه الخصال جميعاً مثلاً عالياً بين صفوة خلق الله.
كان عطوفاً يرأم من حوله ويودهم ويدوم لهم على المودة طول حياته وإن تفاوت ما بينه وبينهم من سن وعرق ومقام. وليس في سجل المودة الانسانية أجمل ولا أكرم من حنانه على مرضعته ( حليمة) ومن حفاوته بها وقد جاوز الاربعين ، فيلقاها هاتفاً بها :أمي ..أمي ! ويفرش لها رداءه ويمس ثديها بيده ..كأنه يذكر ما لذلك الثدي عليه من جميل ويعطيها من الابل والشاء ما يغنيها في السنة الجدباء.
لقد وفدت عليه هوازن وهي مهزومة في وقعة( حنين) وفيها عم له من الرضاعة .. لأجل هذا العم من الرضاعة تشفع النبي الى المسلمين أن يردوا السبي من النساء وأبناء ، وإشترى السبي ممن أبوا رده إلا بمال.
وحضنته في طفولته جارية عجماء فلم ينس لها مودتها بقية حياته ، وشغله أن تنعم بالحياة الزوجية .. ما يشغل الاب من أمر بناته ورحمه، فقال لاصحابه " من سره أن يتزوج إمرأة من أهل الجنة فليتزوج أم أيمن" وما زال يناديها يا أمه كلما رآها وتحدث اليها ، وربما رآها في وقعة قتال تدعو الله ولا تدري كيف تدعو بلكنتها الاعجمية فلا تنسيه الوقعة الحازبة أن يصغي اليها ويعطف عليها.
كان هذا عطفه على كل ضعيف ولو لم يذكره بحنان الطفولة ورحم الرضاع ، فما نهر خادماً ولا ضرب أحداً . وقال أنس " خدمتُ النبي( ص) عشر سنين فما قال لي أف قط، ولا قال لشيء صنعته لِمَ صنعته ؟ ولا لشيء تركته : لِمَ تركته؟".
كان من اضحك الناس وأطيبهم نفساً صافي القلب إذا كره شيئاً رؤى ذلك في وجهه واذا رضى عرف من حوله رضاه.
وقد إتسع عطفه حتى بسطه للاحياء كافة ولم يقصره على ذوي الرحم من الناس ولا على الناس من غير ذوي الرحم فكان يصغي الاناء للهرة لتشرب ، وكان يواسي في موت طائر يلهو به أخو خادمه، وأوصى المسلمين "إذا ركبتم هذه الدواب فأعطوها حظها من المنازل ولا تكونوا عليها شياطين" وكرر الوصاة بها أن" أتقوا الله في البهائم المعجمة فاركبوها صالحة وكلوها صالحة".
وقال " إن الله غفر لإمرأة مومسة مرت بكلب على رأس ركى يلهث قد كاد يقتله العطش ، فنزعت خفها فأوثقته بخمارها ، فنزعت له من الماء فغفر لها بذلك".
وقال في هذا المعنى " دخلت إمرأة النار في هرة ربطتها فلا هي أطعمتها ولا هي تركتها تأكل من خشاش الارض". بل شمل عطفه الاحياء والجماد كأنه من الاحياء ، فكانت له قصعة يقال لها ( الغراء) .. وكان له سيف محلى يسمى ذو الفقار ، وكانت له درع موشحة بنحاس تسمى ذات الفضول ، وكان له سرج يسمى( الداج) وبساط يسمى ( الكز) وركوة تسمى ( الصادر) ومرآة تسمى( المدلة) ومقراض يسمى( الجامع) .
وفي تسمية تلك الاشياء بالاسماء معنى الالفة التي تجعلها أشبه بالاحياء المعروفين ممن لهم السمات والعناوين ، كأن لها ( شخصية) مقربة تميزها بين مثيلاتها ، كما يتميز الاحباب بالوجوه والملامح وبالكنى والالقاب
يواصل الكاتب عباس محمود العقاد الحديث عن سيرة الرسول محمد ( ص) وتعامله مع الاخرين فيقول" هذه العواطف الانسانية للرسول محمد عليه السلام التي شملت كل ما أحاطت به واحاط بها ، لم تكن هي كل أداة الصداقة في تلك النفس العلوية، بل كان معها ذوق سليم يضارعها رفعة ونبلاً ويتمثل – فيما يرجع علاقات النبي بالناس – في رعاية شعورهم أتم رعاية وأدلها على الكرم والجود.
كان اذا لقيه احد من اصحابه فقام معه فلم ينصرف حتى يكون الرجل هو الذي ينصرف عنه ، وإذا لقيه أحد من اصحابه فتناول يده ناوله اياها فلم ينزع يده منه حتى يكون الرجل هو الذي ينزع يده منه. وكان إذا ودّع رجلاً أخذ بيده فلا يدعها حتى يكون الرجل هو الذي يدع يده.
وكان ارحم الناس بالصبيان والعيال ، واذا قدم من سفر تلقى بصبيان اهل بيته . وكا أشد حياء من العذراء في خدرها وأصبر الناس على أقدار الناس، يحفظ مغيبهم كما يحفظ محضرهم ويقول لصحبه " من أطلع في كتاب أخيه بغير أمره فكأنما أطلع في النار".
ومع العاطفة الانسانية والذوق السليم والادب الكريم سمت جميل ونظافة بالغة وحرص على أن يراه الناس في أجمل مرأه.ومع هذا كله أمانة يثق بها العدو فما بال الصديق؟ وحسبك من ثقة الناس به ما أودعوه من أمانات وهم يناصبونه العداء ، فلم يخرج للهجرة وهو مهدد في سربه حتى رد الامانات الى اصحابها، وقد يكون في ردها ما ينبههم الى خروجه ويأخذ عليه سبيل النجاة، وهذا الى إشتهاره بالامانة في صباه حتى سمي بالامين قبل أن يتجرد لدعوة تنبغي لداعيها أمثال هذه الصفات.
كل هذه المزايا النفسية ،- بل بعض هذه المزايا النفسية – خليق أن يتم لصاحبه أداة الصداقة أداة الصداقة أو في تمام وأن يجعله محباً لمن حوله جديراً منهم بأحسن حب وولاء ، فلم يعرف في تاريخ العظمة - لا بين الانبياء ولا غير الانبياء – إنسان ظفر بنخبة من الصداقات على إختلاف الاقدار والبيئات والامزجة والاجناس كالتي ظفر بها محمد ، ولم يعرف عن إنسان أنه أحيط من قلوب الضعفاء والاقوياء بما يشبه الحب الذي أحيط به هذا القلب الكبير.
تقدم في بعض فصول هذا الكتاب حديث ( زيد بن حارثة) الذي خطف من اهله وهو صغير ثم اهتدى اليه أبوه وإهتدى هو الى ابيه على لهفة الشوق بعد يأس طويل ، فلما وجب عليه أن يختار بين الرجعة الى آله وبين البقاء مع سيده ( محمد) أختار البقاء مع السيد على الرجعة مع الوالد ، وشق عليه أن يحتجب عن ذلك القلب الذي غمره بحبه ومواساته وهو ضعيف شريد لا يرى ذويه ولا يدري من هم ذووه.
وكان لا يغني من لازموه أن يلزموه في الحياة حتى يثقوا من ملازمتهم إياه بعد الممات فضعف مولاه (ثوبان) ونحل جسمه والح عليه الحزن في ليله ونهاره. فلما سأله السيد العطوف يستفسره علة حزنه ونحوله قال في طهارة الابرار" إني إذا لم أرك إشتقتك وإستوحشت وحشة عظيمة ، فذكرت الاخرة حيث لا اراك هناك لاني إن دخلت الجنة فأنت تكون في درجات النبيين فلا أراك"
ورويت هذه القصة في اسباب نزول الاية الكريمة " ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصدجيقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا" سورة النساء 69.
وحين ادرك بلالاً الموت فأحاط به اهله يصيحون واكرباه وهو يجيبهم " وا طرباه غداً ألقى الأحبة محمداً وصحبه..".
وقد بلغ من إمتلاء قلوب المسلمين والمسلمات بهذا الحب أن المرأة كانت تسمع أنباء المعركة فينعى اليها خاصة اهلها وهي تسترجع وتعرض عن هذا لتسأل عن النبي وتهتم بسلامته قبل إهتماها بسلامة الاخوة وبني الاعمام. وأننا عنينا محبة الصداقة في هذا الباب لانها هي المحبة التي جعلت كثيراً من الناس يؤمنون بمحمد لمحبتهم إياه وإطمئنانهم اليه، فكانت سابقة في قلوبهم وارواحهم لحب العقيدة والايمان. وهنا قد تمت لمحمد معجزته التي لم يضارعها فيها احد من ذوي الصداقات النادرة. فاحدقت به نخبة من ذوي الاقدار تجمع بين عظمة الحسب وعظمة الثروة وعظمة الرأي وعظمة الهمة، وكل ذو شأن في عظمته تقوم عليه دولة وتنهض به أمة ، كما أثبت التاريخ من سير ابي بكر وعمر وخالد واسامة وابنالعاص والزبير وطلحة وسائر الصحابة الاولين. واحاط الصالحون بالنبي العظيم كما أحاط الحواريون بالمسيح عليه السلام وكلهم من معدن واحد وبيئة متقاربة.
تلك هي العظمة التي اتسعت آفاقها وتعددت نواحيها حيث اصبحت فيها ناحية مقابلة لكل خلق. واصبح فيها قطب جاذب لكل معدن واصبحت تجمع اليها اليأس والحلم والحيلة والصراحة وصفاء بصفاء ، وعليها المزيد من فضل التفاوت في الاقدار.
ويواصل الكاتب عباس محمود العقاد حديثه في كتابه ( عبقرية محمد) عن النبي عليه السلام فيقول: كان محمد عليه السلام يذكر فضل صحابته ويشيد بذكرهم كما قال عن ابي بكر " ما أحد أعظم عندي يداً من أبي بكر ، واساني بنفسه وماله وأنكحني إبنته". وكما قال عن ابي بكر وعمر " ابو بكر وعمر مني بمنزلة السمع والبصر " وكما قال عن علي " علي أخي في الدنيا والاخرة " وكما قال عن بعض أصحابه " إن الله تعالى أمرني بحب أربعة وأخبرني أنه يحبهم : علي ّ منهم ، وأبو ذر ، والمقداد وسلمان". وكما قال عن الانصار جميعاً وهو في مرض الموت" إستوصوا بالانصار خيراً أنهم عيبتي التي أويت اليهم فاحسنوا الى محسنهم وتجاوزوا عن مسيئهم ". وغير ذلك كثير عن الصحابة كافة وعن بعضهم مذكورين باسمائهم.
ويضيف العقاد قائلا: على أننا نلمس دلائل هذا الفؤاد الرحب وهذا العطف الانساني الشامل في معاملته لاعدائه وشانئيه ، فضلاً عن معاملته للاصفياء ، ومن ليس بينهم وبينه عداء ولا صفاء.
فما ثأر أحد لأنه أساء إليه في شخصه ، وقد عفا عن رجل هم بقتله وهو نائم ورفع السيف ليهوى به فسقط من يده على كره منه ، وما حارب قط أحداً كان في وسعه أن يسأله ويحاسنه ويتقي شره.
ومعاملته لعبد الله بن أبي الذي كان المسلمون يسمونه رأس النفاق مثل من أمثلة الاغضاء والصفح الجميل ، فقد عاهد وغدر ثم عاهد وغدر وعاش ما عاش يكيد للنبي عليهالسلام في سره ويماليء عليه أعداءه . وشاع أن النبي عليه السلام قضى بقتله فتقدم إبنه وقال له " يا رسول الله ،إنه بلغني أنك تريد قتل عبد الله بن أبي فيما بلغك عنه ، فإن كنتَ فاعلاً فمرني به فأنا أحمل اليك رأسه . فوالله لقد علمت الخزرج ما كان بها من رجل أبر بوالده مني ، وأني لاخشى أن تأمر به غيري فيقتله فلا تدعني نفسي أنظر الى قاتل أبي يمشي في الناس فأقتله ، فأقتل رجلاً مؤمناً بكافر فأدخل النار".
فأبى النبي أن يقتله وآثر الرفق به ، وزاد في إفضاله وإجماله فكافأ الولد خير مكافأة على خلوص نيته وإيثاره البر بدينه على البر بأبيه فأعطاه قميصه الطاهر يكفن به أباه . وصلى عليه ميتاً ووقف على قبره حتى فرغ من دفنه . وقد حاول عمر أن يثنيه عن الصلاة على ذلك العدو الذي آذاه جهد الايذاء فذكر الآية ( إستغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم...( سورة التوبة 80 ).
فقال " لو أعلم أني زدتُ على السبعين غفر له زدتُ"

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

1574 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع