د. علي محمد فخرو
هل نحن العرب متخصصون في ممارسة الخلافات العبثية فيما بين مكوناتنا حتى ابان المحن الكبرى التي تطال وتسحق الجميع، ولا تستثني أحدا؟
في تاريخنا هناك الفتنة الكبرى، من معركة الجمل الى مقتل عثمان المأساوي، الى حرب صفين الكارثية، الى جريمة الخوارج بحق الامام علي الى الاغتيال المفجع للامام الحسين بن علي في كربلاء، الى الانقسام المميت بين الأمويين والعباسيين الى، الى، بلا نهاية، والتي نذوق مرارتها ونحصد ثمارها الفاسدة الى يومنا هذا، والى سنين طويلة قادمة، هناك أشد مرارة من حصاد تلك الفتنة متمثلة في المشاحنات الطائفية في أيامنا التي نعيش بينما يعود الاستعمار الى أرضنا ويتمدد النفوذ الصهيوني في كل أرجاء وطننا ونحمل سبة وعار التجزأة والتخلف أمام كل العالم، الذي يتفرج ويعجب من استمرار عجز هذه الأمة وقلة حيلتها؟
ليس أفدح من سوءات ممارسات ذلك التاريخ الا مسلسل الفتنة الكبرى في عصر الأمة الحديث، انها فتنة حلقات من الانقسامات المفجعة السريالية، هل نذكر انقسام الحركة القومية، ذات الشعارات الواحدة، الى بعث وقوميين عرب وناصريين في الوقت الذي كان فيه مدٌ وعنفوان الاستعمار الصهيونية الرجعية العربية موحد الأهداف والرؤى والفعل؟
هل نذكر الانقسام الفلسطيني، فكرا ونضالا وعلاقات داخلية وخارجية متناقضة، بينما الوجود الصهيوني يتمدد ويأكل على مائدة الغنائم ثم يبصق الفتات للمتناحرين الساهين عنه وعن الوطن الذي يضيع؟
هل نذكر الانقسام البعثي - البعثي المجنون الذي أضاع في النهاية الفرصة التاريخية لعراق سوري قوي شامخ يهابه الأعداء ويجر قاطرة الوحدة العربية الى برِ الأمان؟
هل نذكر الانقسام القومي العربي الاسلامي العبثي الطفولي الذي أنهك قوى الأمة وأضاع فرص الوطن، حتى اذا بذلت جهود كبيرة عبر ثلاثين سنة لايجاد ارضية مشتركة فيما بين التيارين، ونجحت تلك الجهود الى حدود معقولة، انهارت علاقة القربى أمام أطماع وسلطة الانتهازية التي رأت في الربيع العربي فرصة القفز على الحكم وسرقة منجزات شباب ضحوا بأرواحهم وبهروا العالم بحيوية ابداعاتهم؟
هل نذكر انقسام الحركة الاسلامية السياسية نفسها الى اخوان مسلمين وسلفيين وجهاديين متناحرين وذلك في أحرج فترة انتقالية لثورات وحركات الربيع العربي الواعد؟
هل نذكر انقسام المعارضة السورية الى قوى ديموقراطية سلمية قلبها على وحدة سورية وتناغم مكونات شعبها، وفي المقابل الى قوى عنف تحركها أموال وتدخلات المغامرين والطائفيين، لتصبح الحركة الشعبية الديموقراطية في سورية أمثولة للكثير من الخزي والألم والخجل وقلة المروءة؟
هل نذكر أصوات الانفصالات والتجزأة والاضعاف في اليمن والسودان والعراق وسورية وغيرها كثير؟
هل نذكر المرات الكثيرة التي شع ألق البطولات في الأرض العربية وأيقظ الآمال والفرح، حتى اذا ما دخل أصحاب البطولات في دهاليز السياسة والمماحكات الطائفية أو القبلية انطفأ ذلك الألق ودخلت الأمة في ظلمات اليأس والقنوط؟
قصص وأمثلة الفتن الكبرى في عصرنا الذي نعيش تحتاج الى مجلدات، لقد أصبحت الفتن ظاهرة ملازمة لمسيرة العرب في التاريخ، ولم نتعلم من تكرارها شيئا، وها أن الفترة الانتقالية لما بعد ثورات وحراكات الربيع العربي المبهرة الساطعة في سماء العالم تبتلى بكثير منها، بل لم تبق فتنة في قاموس الفتن الا وتم اشعالها، لقد استعمل حطب التاريخ والجغرافيا والعرق والدين والمذهب والجنس لاشعال فتن لم تخطر قط على البال السوي.
الأسئلة العربية الأبدية تطرح نفسها في كل منعطف من تاريخنا القديم والحديث: لماذا لا نقتنع بأن التنازلات المتبادلة بين الأطراف المختلفة فيما بينها هي أحد الأسس التي تقوم عليها كل فائدة انسانية، كل فضيلة وكل عمل معقول، كما جاء على لسان ادموند بيرك، السياسي والكاتب الايرلندي الشهير؟ لماذا لا نفرق بين الأيام العادية وبين أيام تكالب الأعداء على هذه الأمة المبتلاة؟ لماذا لا نعطي حيزا كبيرا لممارسة الأولويات في حياتنا السياسية؟
هل نريد لثقافتنا السياسية أن يحكمها منطق أننا «قوم لا توسط بيننا»، أم منطق «وكذلك جعلناكم أمة وسطا»؟ ممارسة السياسة من خلال منطق الفتن أصبحت اشكالية عربية كبرى، انها تقوض كل محاولة للنهوض، للخروج من تحت عباءة الاستعمار، لالتقاط الأنفاس لمواجهة البربرية الصهيونية، لتأجيل الاختلافات الايديولوجية الى ما بعد انقشاع محن الأمة وتراجع أعدائها، للمرة الألف نقولها لشباب الثورات والحراكات المباركة في الوطن العربي الكبير: احذروا فخ الفتن الذي ينصب لكم وخنجرها الذي يقطر دما، انها دماء أمتكم.
ما نقوله لكم كصرخة مستجدية هو صدى لما تقوله بحسرة وألم الملايين من أبناء أمتكم يوميا في كل أصقاع الوطن الكبير المنكوب.
1213 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع