الصِناعةُ الإعلامِيّةُ والأنظِمَةُ السائِدةُ الجزء الثاني*

                                                       

                                 د. زكي الجابر

 الصِناعةُ الإعلامِيّةُ والأنظِمَةُ السائِدةُ الجزء الثاني*

                 حوار اجراه عبد السلام بنعيسَى

                إعداد وتعليق د. حياة جاسم محمد

• وإلى أيِّ سببٍ يعودُ هذا العنفُ المَحضُ الذي يُميِّز تكنولوجيا الاتصال؟
- هذا سؤالٌ مُهِمٌّ جِدّاً، ذلك أن تَكنولوجيا الاتصالِ الحاليَّةَ، لِفَهمِها جيّداً ولإدراكِ العنفِ الذي يُميِّزُها، ينبغي العودةُ بها إلى منشئِها الأصليِّ، فهي في جوهرِها عندما أُنشِئَتْ لم تَكنْ لِغَرضِها الاتصاليِّ البرئِ الذي نستغِلُّها فيه حاليّاً، ولم تكنْ للتوعيةِ ولِنشْرِ الثقافةِ والترفيهِ عن الناسِ. لقد أُنشِئتْ بالأساسِ لأغراضٍ عسكريّةٍ ولأسبابٍ حربيّةٍ، فـ’’اللاسِلكي‘‘ هو في أصلِهِ أداةٌ للقتالِ وللاتصالِ بين الوَحداتِ العسكريّةِ، وعندما يُوَظَّفُ في الراديو فهذا عملٌ ثانويٌّ بالنسبةِ إليه.
نأتي إلى الذرّة. حِينَما بدأَ الإنسانُ يَخلُقُ الذرّةَ كان يفعلُ ذلكَ بالأساسِ لاستعمالِها كَقنبُلَةٍ للقتلِ وليسَ للتقدُّم الطِبّيِ أو العلاجاتِ أو لاستعمالِها في أغراضٍ سلميّةٍ، أمّا ما جاءَ بعدَ استعمالِها لغَرَضِها الأوّلِ الذي هو القَتلُ والتدميرُ فَهو من الأمورِ الثانويّةِ. إنَّ العالَمَ يُواجِهُ حاليّاً أمراضاً خطيرةً لم يتمكَّنْ من إيجادِ العلاجِ الملائمِ لها، مثل’’الأيدز‘‘ والسَرطانِ، وعِوَضَ أن نَصرِفَ الأموالَ والمَجهوداتِ والوقتَ للتغلُّبِ علَى مثلِ هذه الأمراضِ نَصرفُ ملايينَ الدولاراتِ علَى أقمارٍ صناعيّةٍ للتَصَنُّتِ والتجسُّسِ وعلَى بُحوثٍ ذريّةٍ لأغراضٍ حربيّةٍ مَحضة.
وبالإمكانياتِ الماديّةِ الضَخمَةِ التي تُرصَدُ لهذا المَيدانِ تتحقَّقُ النتائجُ المَرجُوَّةُ من البُحوثِ، فعِندَما تَمرُّ اليومَ مثَلاً طائرةٌ أجنبيّةٌ على قُطرٍ معيَّنٍ فهي بكلِّ تأكيدٍ تكونُ مَرصودَةً، أي أنَّ هناكَ رقابةً عليها، وهذه الرقابةُ تَنتَقِلُ بسهولةٍ من رَقابةٍ عسكريّةٍ على الآلاتِ والمُعَدّاتِ إلى رَقابةٍ على المُواطنِ، وما دام في الإمكانِ السيطرةُ على الطائراتِ ومراقبتُها في الفضاءِ فلماذا لا تتمُّ السيطرَة على ما يقولُه ويتصرَّفُ به الفردُ، فَلقدْ دَخلنا في عصرٍ خطيرٍ جداً فيما يُخصُّ حريَّة الإنسانِ، فالعقولُ الالكترونيّةُ تُوظَّف لغَرضِ التحكُّمِ في هذه الحريّةِ، وبدأ الإنسانُ يُستَلَب وتُنْزَعُ منه حريتُه، والفارقُ، كما تقولُ النكتةُ الروسيّةُ، بين ’’ستالين‘‘(1) Stalin و’’جنكيز خان‘‘(2) هو أن ’’ستالين‘‘ ديكتاتوريٌّ مثلَ ’’جنكيز خان‘‘، ولكنْ معهُ تلفون.
• وأين يُمكِنُ أن يكونَ الخلاصُ إذا كانت إمكانيَّةُ الخلاصِ من هذا الوضعِ ما زالتْ متوفِّرة؟
- بسؤالِكَ هذا تطلبُ مِنّي أن أضعَ حلولاً لمشاكلً معقدةٍ جداً، وهذا أمرٌ لا يمكنُ لِفَردٍ لِوحدهِ أن يقومَ بهِ، ولكنّ هذا لا يمنعُني من القولِ بأنّه ينبغي أن تكونَ هنالكَ نصوصٌ قانونيّةٌ صريحةٌ، ويجبُ أيضاً العملُ على تطبيقِها واحترامِها مَهما كانتِ الاعتباراتُ بحيثُ لا يجوزُ التصّنُّتُ على المُواطنِ تحتَ أيّةِ ذريعةٍ من الذرائعِ، ذلك أنَّ الحكوماتِ عندما تُثيرُ قضيّةَ الأمنِ والاستقرارِ وضرورةِ التصدّي للإرهابِ تُجيزُ لِنفسِها، بمِثلِ هذه القَضايا، كلَّ الأعمالِ، وتصيرُ في نظرِ المسؤولينَ جميعُ الأفعالِ مُباحةً، وبهذا تُرتَكَبُ المُحرَّماتُ وتقعُ التجاوُزاتُ ويحدُثُ الاعتداءُ على حريّةِ الأفراد.
فأنا شخصيّاً أنطلقُ من تجارِبي وأُصدِرُ ما أعتبرُه أحكاماً لي علَى بعضِ المواقِف. فَمَثلاً، عندما أُسافرُ إلى أيِّ بلدٍ مُتقدِّمٍ لا أتصوَّرُ وأنا في الفندقِ أنّني في كامِلِ حريَّتي بلْ أشعرُ أنّ هذه الفنادقَ إمّا أنها تُصوِّرُ ما يَروجُ في غُرَفِها، أو على الأقلِّ يتمُّ التصنُّتَ على الكلامِ الذي يدورُ فيها ويقعُ تسجيلُه بالكامِل. لقد أصبَحْنا جميعاً مُقيَّدينَ، وأجهزةُ التصنُّتِ علينا صارتْ مع التلفوناتِ وداخلَ الغُرفِ وفي أفرِشَةِ النومِ وفي الأقلامِ وفي كلِّ شئٍ قد نحتاجُه، فحريَّتُنا صارتْ مُهدّدةً إنْ لم أقُلْ مُستباحةً بالـ’’تكنولوجيا‘‘.
• وهل ما زالَ للتربيةِ العائليةِ ثم للمدرسةِ وللمحيطِ المُجتَمعيِّ ككُلٍّ ذلك التأثيرُ الذي كان لهم على الأفرادِ، أم تمَّ القضاءُ والهَيمَنةُ عليها نهائياً من طَرفِ وسائلِ الإعلام؟
- مع كلِّ أسفٍ، الأكاديميُّ يغلبُ عليهِ التشاؤُم. ولِكَي أُوَضِّحَ كَلامي حولَ هذا الموضوعِ أقولُ بأنَّ زمنَ البراءةِ الأولَى قد ذهبَ، فبعضُ العباراتِ لم نكنْ نجرُؤُ على النُطْقِ بها ونحن أطفالُ، لم نَكنْ نتكلَّمُ ونحنُ صغارٌ عن الموتِ وعن الجِنسِ وكلِّ أشكالِ المُحرَّماتِ خُصوصاً أمام آبائِنا وأمّهاتِنا. مثلُ هذه المواضيعِ صارَ الأطفالُ يشاهِدونَها على شاشةِ التلفزيونِ ويسمعونَها في الإذاعةِ أو يطَّلِعونَ على صُورٍ تتضمَّنُ مَوَادّاً لها في المجلّات.
ففي الماضي كانتِ التربيةُ مُتَسلسِلَةً، أي أن الأطفالَ كانُوا يقرؤُون موادّاً معيّنَةً ومعروفةً في السنةِ الأولَى، ثم تليها مَوادٌ أُخرَى أيضاً معروفةٌ في السنةِ الثانيةِ ثم الثالثةِ والرابعةِ. وكان الطفلُ إذا أراد مثلاً قراءةَ روايةٍ عن الجنسِ يُقالُ له لا ينبغي لكَ قراءةُ هذا العملِ، لم يَحِنِ الوقتُ بعدُ، إنتظرْ حتى تتقدَّمَ في العُمرِ لتستطيعَ قراءةَ روايةٍ من هذا النوع. لَكنِ الآنَ الطفلُ يُمكنُ أن يُشاهدَ روايةً تتحدّثُ عن الجِنسِ في التَلفزيونِ أو بواسطةِ الڤيديو أو في السينما.
• وأيضاً الوقتُ الذي يقضيه الآباءُ مع أبنائِهم أصبحَ قصيراً جداً بالمقارنةِ مع الماضي؟
- بالفعلِ، يَصِحُّ هنا التساؤلُ: كم يَقضي الأبُ المُعاصرُ من وقتٍ مع طِفلِه؟ وكم يَقضي الطفلُ من ساعاتٍ في التعلُّمِ بالمدرسةِ؟ ولنُقارنْ حجمَ هذا الوقتِ مع ما يَقضيهِ من ساعاتٍ أمامَ شاشةِ التلفزيونِ أو الڤيديو أو في مشاهدةِ الأفلام. بالتأكيدِ، بِمُقارنةٍ بسيطةٍ سنصلُ إلى أنّ مقدارَ الوقتِ المُخصّصِ للتلفزةِ وللأفلامِ هو أكثرُ بكثيرٍ من الوقتِ الذي يَقضيه مع أبَوَيهِ في الإنصاتِ إليهما، وبالطبعِ سيكونُ التأثيرُ في مُستَوى الوقتِ الذي يُخصَّصُ سواءٌ للآباءِ أو لوسائِل الإعلام.
وإذا انتقلْنا إلى مُحتوَى البرامجِ المدرسيّةِ فماذا سنجدُ؟ نجدُ أنَّ المدرسةَ تُقدِّمُ المعلوماتِ الأساسيّةَ في القراءةِ والكتابةِ، ولكنَّ المعلوماتِ المُعاصرةَ التي تستجدُّ يوماً بعد يومٍ والتي قد يحتاجُ الطفلُ إلى معرفتِها هي بعيدةٌ عن الحياةِ المدرسيّة، ورُبَّما حتى عن الجامعة. فحينما تُقدّمُ وسائلُ الإعلامِ صُوَراً لِرُوّادِ الفضاءِ وهم يضَعونَ عدساتٍ لاصقةً على القمرِ الصِناعيِّ أو على مِنظار ’’هابل‘‘(3)، وعندما تتحدّثُ تلك الوسائلُ عن الانتخاباتِ الأمريكيّةِ وعَمّا يجري في أفريقيا وفي الصومالِ والبوسنة والهَرسَك فإنّها بذلكَ تقدّمُ صُوَراً وتتكلَّمُ عن قضايا حيَّةٍ مَعيشَةٍ، أما المدرسةُ فهي تتكلَّمُ عن أمورٍ تاريخيّةٍ مضَى أوانُها، وربّما تبدو جامدةً ومتحجِّرةً، فهي لم تَقفِزْ بعد إلى مُستوى الحياةِ المُعاصِرةِ، ودائماً تَبدو المدرسةُ والجامعةُ والأسرةُ في وضعٍ متخلِّفٍ عمّا يجري عَبرَ أجهزةِ التلفزة.
• هل يُمكنُ لنا أن نقولَ الآنَ إنَّ دورَ الأسرةِ قد انتهَى في عصرِنا الراهن؟
- أنا لا أقولُ إنَّ دورَ الأسرةِ قد انتهَى، ولكنّي أعتقدُ أنّهُ بدأ يتخلخَلُ تدريجيّاً، وإذا كانَ دورُ الأسرةِ ما زالَ مُقاوِماً فلِسَببٍ يَظهُر لي أنّهُ مُهمُّ جدّاً وهو المتمثِّلُ في كَونِ الطفلِ، لِكَي يعيشَ ويستمرَّ على قيدِ الحياةِ، ما زالَ يحتاجُ إلى العَونِ المادّيِّ من أبوَيْهِ، خُصوصاً وأنَّ الإنسانَ يختلفُ عن الحَيوانِ فيما يتعلَّقُ بطُولِ فترةِ الحَضانة، فبالنسبةِ للحيواناتِ فترةُ الحضانةِ محدودةٌ جِدّاً بالمُقارَنةِ معَ مثيلتِها لَدَى الإنسان. فإذا كانتْ هذه الفترةُ لا تتعدَّى فيما يخصُّ الحيوانَ بضعةَ أسابيعَ أو شهورٍ على أبعدِ تقدير فإنّها فيما يتعلَّقُ بالإنسانِ تستمرُّ سنينَ عِدَّةً، وأحياناً يتجاوزُ الإنسانُ سنَّ 20 وهو ما يزالُ يعيشُ على حسابِ أبَوَيْهِ.
وبالطبع لا يقفُ الأبَوانِ عندَ حدودِ تقديمِ التغذيةِ والشرابِ للأطفالِ، ولكنّهما يقدّمانِ لَهُم، مع الطعامِ والشرابِ، اللِباسَ وأيضاً التقاليدَ والقِيَم والعاداتِ، وهذهِ القيَمُ تُلقَّنُ للأطفالِ في ارتباطٍ مع حاجتِهِم المادّيّةِ للآباءِ، فلو كانَ بإمكانِ التَلفزيونِ مثلاً تقديمُ وَجباتِ طَعامٍ وألبسَةٍ للأطفالِ لكانَ دورُ الأسرةِ قد انتهَى نِهائياً.
• حاليّاً، أستاذ زكي الجابر، عندما نكونُ مع أطفالِنا أمام جهازِ التلفزيونِ، نتخلَّى عنهم وننصرفُ لمُتابعةِ برامجِه، وأحياناً ننهرُهم بقسوةٍ لِيَدعُونا نتابعُ المادّةَ المعروضةَ على الشاشةِ الصغيرة.
- ولذلكَ يُقالُ الآنَ بأنّ التلفزيونَ دخلَ في حياةِ الأسرةِ واقتَحَمها بقوّةٍ، فسابقاً لم يكنْ في استطاعةِ أيِّ شخصٍ، حتَّى لو كانَ من أقربِ الأقرباءِ للأسرةِ، التدخُّلُ في تربيةِ الأطفالِ وفي توجيهِهم مثلَما يفعلُ الآنَ التلفزيون. فحتَّى العلاقات الحميميَّة التي كانتْ سائدةً بينَ أفرادِ الأسرةِ بدأتْ تتلاشَى، فلو كانتْ متابعةُ البرامجِ يُصاحبُها بعضُ النقدِ والتعليقِ لَسَاهمْنا بذلكَ إلى حدٍّ كبيرٍ في التقليلِ من التأثيرِ الذي تُحْدِثُه.
ولكنَّ الواقعَ هو أن سيطرةَ وسائلِ الإعلامِ أصبحتْ من القوّةِ بحيثُ يتعذَّرُ على الفردِ حتَّى مع أسرتِه التعليقُ عليها، فكلّ كلمةٍ تُقالُ دونَ ما يُدلِي به التلفزيونُ تُقمَعُ ويُنهرُ قائلُها.
• وماذا عن الحيادِ والموضوعيّةِ والعملِ على خِدمَةِ أهدافِ الجماهيرِ في التثقيفِ والترفيهِ، هذه الشعاراتُ التي ترفعُها وسائلُ الإعلام؟
- عندما نتكلَّم عن الموضوعيّةِ فإنّنا نعني بها حقيقةً نقيّةً غيرَ متلاعَبٍ بها، وهذا الافتراضُ هو في الواقعِ موضوعُ تساؤُلٍ من طرَفِ الجَميعِ، ذلك أنَّ كلَّ أجهزِة الإعلام في العالَمِ، مهما كان نوعها، تسيطرُ على حريّةِ الإنسانِ وتتلاعبُ بالحقيقةِ، والتلاعُبُ يتِمُّ في بدايةِ العمليَّةِ الإخباريّةِ وفي مُنطَلَقِها، أي عن طريقِ الاختيار. فبُمجرَّدِ اختيارِ حادثٍ معيّنٍ من مجموعةٍ من الأحداثِ لتَقديمِه إلى الجمهورِ نَسقُطُ في اللاموضوعيّةِ من طرَفِ جهةٍ ما أو عدّةِ جهات، فالاختيارُ يرتبطُ بالإيديولوجيا وبقوّةِ المُخبِرِ وإمكانيّاتِه وبأغراضِه، وهو يعكسُ موقفاً مُعيَّناً، ولكنْ مع ذلكَ سنظلُّ نحلُمُ بالموضوعيّةِ كحقيقةٍ نقيَّةٍ صافيةٍ طاهرةٍ غيرَ مُتلاعَبٍ بها، لأنّنا إذا قُلنا للطالبِ أو للجُمهورِ أنّ الخبرَ يجبُ أن يكونَ متحيّزاً فآنذاكَ سنكونُ قد حطّمنا كلَّ ما نريدُ أن نبنِيَهُ للوصولِ إلى صحافةٍ حرَّةٍ تعبّرُ عن آراءِ الناسِ ورغباتِهم.
إن كلَّ صُحُفِ العالَمِ ومحطّاتِه الإذاعيّةِ والتلفزيّةِ تتحدّثُ عن الحريّةِ والموضوعيّةِ وعن حقِّ الاختلاف. والسؤالُ الذي يفرِضُ نفسَه هو مَنِ الذي بِيَدِهِ السيطرةُ على هذه الحريّةِ والموضوعيّة؟ فإذا كان المُسيطِرُ هي أجهزةٌ تقفُ ضدَّ مصلحةِ الجماهيرِ ففي هذه الحالةِ الحقيقةُ تغيبُ والموضوعيّةُ تزولُ من الساحة. أمّا إذا كانَ العكسُ وتمكّنتِ الأغلبيّةُ الاجتماعيّةُ من أجهزةِ الإعلامِ فإنّها تدفُع إلى بُروزِ الحقيقةِ وإلى ظهورِ الموضوعيّةِ ولو بِشَكلٍ نِسبِيّ. أما حضورُها في صيغةٍ كاملةٍ ومُتحقِّقةٍ فهذا حُلُمٌ سنظلُّ نُطالبُ به ونعلِّمُه ونبشِّرُ به.
• إذا كانت أجهزةُ الإعلامِ بينَ أيدي فئةٍ تقفُ ضِدَّ مصلحةِ الأغلبيَّةِ، وتُغيِّبُ الحقيقةَ والموضوعيّةَ، وتسعَى عن طَريقِ التلاعُبِ للسيطرةِ على الناسِ، هل بإمكانِ الناسِ أن يُدرِكوا، بمُرورِ الأيامِ وتراكُمِ التجاربِ، حقيقةَ السيطرةِ المفروضةِ عليهم بواسطةِ وسائِل الإعلامِ لِرَفضِها والتصدّي لها؟
- هنا نعودُ إلى السؤالِ الذي سبقَ لكَ أن طرحتَهُ عليَّ وهو المتعلِّقُ بعلاقةِ المدرسةِ مع أجهزةِ الإعلامِ. فَلِكَيْ يُدركَ الناسُ حقيقةَ السيطرةِ المفروضةِ عليهم بواسطةِ وسائلِ الإعلامِ لا بدَّ للمدرسةِ من القيامِ بدورِها في هذا البابِ، وإذا كانَ الإنسانُ حتَّى في الدولِ المتطوِّرةِ عاجزاً عن الانفلاتِ من سيطَرةِ الإعلامِ فما بالك بإنسانِ بلدانِ العالمِ الثالث. فأحدُ الباحثينُدَ الغربيّينَ في هذا الميدانِ يقولُ بأنَّ التلفزيونَ وجدْناهُ لا لأنّنا بحاجةٍ إليه ولكنْ لأنّنا اخترَعْناهُ. أما نحنُ فالآيةُ معكوسةٌ، ذلك أن التلفزيونَ موجودٌ لدينا لا لأنّنا اختَرعناهُ ولكن لأنّنا استَوردناه.
وإذا كان هذا الجهازُ موجوداً ويفرضُ ناموسَهُ فإنّهُ ينبغي علينا أن نعلِّم المواطن أنَّ في برامجهِ وموادِّهِ سَعياً للتلاعُبِ بالعقولِ. ومن اللازمِ جدّاً أن تكونَ في المدرسةِ مادّةٌ اسمها الإعلامُ، فكما نُعلِّم التاريخَ والجغرافيا والتربيةَ الوطنيّةَ والحسابَ يجب علينا أيضاً أن نعلِّمَ الإعلام. وفي المدرسةِ تَحديداً نُبيِّن للتلاميذِ ما معنَى الخَبَرِ وكيفيةَ صياغتِه والخلفياتِ التي تكونُ وراءَه وأين يكمنُ التحيُّزُ في الأخبارِ، وكيف يتستَّرُ لِيَصلَ في شكلٍ يوحي بالبراءة. ندعُوهم أيضاً للقيامِ بعمليّاتِ إنتاجٍ لبعضِ الموادِ الإعلاميّةِ في التحريرِ الصحفيِّ والكتابةِ السينمائيّةِ والسيناريوهات. وبهذا نستطيعُ أن نكوِّنَ أجيالاً تعرفُ أين يكمُنُ الخطأُ والصوابُ في العملِ الإعلاميِّ، وأين تَستوطِنُ عناصرُ التلاعبِ فيه. أما بالنسبةِ للجماهيرِ العريضةِ فيُمكنُ طرحُ الموضوع ومناقشتُه بشكلٍ مستمرٍّ عَبر وسائِل الإعلامِ الجماهيريّةِ لتوعِيةِ الناسِ بما تتضمّنُه من خِداعٍ وسيطرةٍ على العقولِ، فهذه هي الوسيلةُ الوحيدةُ التي بإمكانِنا اللجوءُ إليها للحَدِّ من التأثيرِ السلبيِّ للإعلامِ على المواطنينَ، وبدونِها سنبقَى مستسلمينَ إلى سُلطانِ أجهزتِه الجَبّارة.
***************************
* نُشِرَ الجزء الأول من الحوار على موقع ’’الگاردينيا‘‘ في 1-4-2021.
1- ’’جوزيف ستالين‘‘ Joseph Vissarionovich Stalin، 1878-1953، يحتفظ بشعبيّة في روسيا بوصفه قائداً زمن الحرب العالمية الثانية، ولكن يدان أسلوب حكمه الديكتاتوريّ الشموليّ.

2- ’’جنكيز خان‘‘ Genghis Khan، 1165-1227، مؤسس الإمبراطورية المغوليّة الضخمة وإمبراطورها، قتل الملايين من سكان البلاد التي احتلها.
3- مِرصد ’’هابل‘‘ الفضائي Hubble Space Telescope، يدور حول الأرض، امدّ الفلكيّين بأوضح رؤية للكون على الإطلاق، سُمِّيَ باسم العالم الفلكيّ ’’أيدوين هابل‘‘
Edwin Hubble.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نشرت في صحيفة ’’الاتحاد الاشتراكي‘‘ (المَغرب)، 3-1-1994.

   

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

964 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع