في عيد الصحافة فلنتذكر باعة الصحف أيام زمان
د أكرم عبدالرزاق المشهداني
حين تحتفل الصحافة العراقية، اشخاصاً ومؤسسات ومطابع بعيد الصحافة العراقية في الخامس عشر من حزيران كل عام ذكرى صدور أول صحيفة عراقية إسمها "زوراء"، ينبغى ان نتذكر جنودا مجهولين كانوا هم صلة الربط بين الصحيفة وكوادرها وبين القارئ، رجال مجهولون ينهضون من الفجر الباكر ليستلموا ما صدر من صحف عراقية وما وصل من صحف عربية ليعرضوها في اكشاكهم او جنابرهم او على الحائط او من خلال صبيانهم الجوالين، لتصل الصحيفة الى المواطن بسعرها الرسمي الذي كان يتراوح في الخمسينات والستينات مابين عشرة وعشرين فلسا.
خمسة باعة صحف في ساحة الشهداء وحواليها
في الكرخ نشأت، وعايشت الصحف والمجلات من صغري، وانا طالب بالابتدائية حيث كان والدي يجلب الينا في البيت يوميا جريدة البلاد لصاحبها فائق بطي، والزمان لصاحبها توفيق السمعاني، كما كان يمتلك رصيدا ثرياً من صحافة العشرينات ومابعدها والتي يحتفظ بها ومن ابرزها صحيفة حبزبوز لنوري ثابت. وحين قامت 14 تموز 1958 توقفت الصحف وصدرت صحيفة "الجمهورية" رئيس تحريرها سعدون حمادي وفؤاد الركابي وتمثل التيار القومي، فيما أخرج الشيوعيون صحيفتين صوت الأحرار لصاحبها لطفي بكر صدقي، واتحاد الشعب ورأس تحريرها عبد القادر اسماعيل البستاني، والتي تحولت فيما بعد الى طريق الشعب بسبب دعاوى ضدها بسبب الخلاف مع الزعيم عبد الكريم قاسم.
وبعد ان وصلت الى الدراسة المتوسطة قمت اشتري الصحف بنفسي واول ما بدأت مع جريدة "الاخبار" اليومية لصاحبيها جبران وجوزيف ملكون. وكنت اكتب فيها موضوعات قصيرة وكنت القى التشجيع من رئيس تحريرها. وبنفس الوقت كنت اتابع اسبوعيا مجلة "سندباد" المصرية وبعد توقفها تابعت مجلة "سمير" اسبوعيا وادمنت عليها، وكنت اشتريها من صاحب محل عطارة يبيع الصحف والمجلات ايضا اسمه (رشاد) ومحله مقابل لثانوية الكرخ وقريب من مدرستي التربية الاسلامية.
كما كنت اتابع الصحف اليومية واتذكر كيف كانت تصدر جرائد بغداد وتوزع ايام حكم عبدالكريم قاسم واتذكر ان ابرز الصحف القومية في تلك الفترة كانت الحرية لقاسم حمودي، والفجر الجديد لصاحبها المرحوم الصحفي المخضرم محمد طه فياض، وتصدر مساء كل يوم وتباع النسخة بعشرة فلوس كما كانت ابرز صحيفة اسلامية هي الحياد التي يصدرها الحزب الاسلامي العراقي عام 1960. وحسبتُ عدد الصحف الصادرة في بغداد خلال شهر كانون اول 1963 وكان عددها 23 جريدة يومياً، اتذكر منها الثورة ليونس الطائي واليقضة والسجل والحضارة لضياء شكارة والعهد الجديد لفيصل زكي والرأي العام للجواهري والاهالي لكامل الجادرجي واللواء وغيرها، وبعد قيام 8 شباط توقفت الصحف وصدرت صحيفة "الجماهير" لكريم شنتاف وطارق عزيز، وشهدت الصحافة العراقية انتعاشا جديدا بعد 18 تشرين 1963 وتولي الرئيس عبدالسلام عارف عارف الحكم حيث صدرت صحف عديدة من اهمها الجمهورية التي حلت محل الجماهير بالصدور من دار الجماهير للصحافة ويراسها فيصل حسون، كما صدرت صوت العرب للمحامي فوزي عبد الواحد، والعرب للمحامي نعمان العاني، والعروبة، ولواء العروبة، والجهاد للحزب الاسلامي العراقي، وأعيد افتتاح جريدة الشعب لصاحبها شاكر علي التكريتي" والتآخي الناطقة باسم ملا مصطفى البارزاني والنور الناطقة باسم جلال الطالباني، اضافة الى التايمز العراقية والتي تصدر باللغة الانكليزية.
حين نذكر الصحافة العراقية ونتذكر عيدها لابد ان نتذكر اشهر موزع للصحافة العراقية السيد عواد الشيخ علي ومكتبه يقع في جديد حسن باشا قرب شارع المتنبي، وكانت تطبع كل جريدة يومية حينها 3000 نسخة تقريبا والمرتجع منها قليل جدا، في حين يقوم بتوزيع الصحف المسائية الحاج رضا على الدراجة الهوائية للمشتركين فقط وتطبع يوميا 1000 نسخة فقط".علما أن "75 % من تلك الصحف توزع داخل العاصمة والربع المتبقي يذهب الى المحافظات".
وفي عام 1970 اقدمت الدولة على تأسيس الدار الوطنية للنشر والتي احتكرت كل اشكال التوزيع للصحف والمطبوعات العراقية والعربية والاجنبية، اضافة الى الاعلانات التي لم يكن يسمح لها بالمرور الا عن طريق الدار، ومن ايجابيات قرار تشكيل الدار ولكون الدائرة مدعومة حكوميا، ولديها امكانات كبيرة من قبيل ايصال المطبوع لاقصى نقطة في العراق بوقت قياسي عبر الطائرة او السيارات الخاصة، بحيث كانت تصل الصحف الى المحافظات يوميا عند الساعة 6 صباحا، كما كانت تشغل الكثير من الايدي العاملة".
بينما كان الموزع السيد عواد الشيخ علي فقد كان عدد وكلائه معدودون ومع ذلك كانت الصحف البغدادية تصل المحافظات بعد الظهر.
اتذكر ان في الكرخ كان لدينا خمس باعة للصحف في منطقة ساحة الشهداء، احدهم سالف الذكر السيد (رشاد) الذي كنت اشتري منه مجلة سمير قبل ان يتوقف عن بيع الصحف وينصرف للعطارة. وفي قلب ساحة الشهداء كنت احرص على شراء الصحف من محل صغير يقع على يسار بداية شارع النصر الشهير بالمطاعم وعيادات الاطباء وهما بائعان شقيقان للاسف لا اتذكر اسميهما واستمرت علاقتي بهما لحين تخرجي من الثانوية وكنت اشتري منهما المجلات العربية اضافة للصحف العراقية. وفي نفس ساحة الشهداء كان هناك بائعان آخران للصحف احدهما يجلس مفترشا الارض يسار باب جامع حنان ويستمر للظهيرة فقط، وآخر يفترش الارض في الجهة المقابلة خلف موقف باصات المصلحة وعند بناية المرافق العامة بالساحة.
كما اعتدت فترة دراستي في كلية الشرطة ان اشتري الصحف من مكتبة في ساحة الطيران وتقع قبالة كنيسة الارمن، لا اتذكر اسمها. كما اعتدت خلال دراستي الثانوية في ثانوية الاعظمية على شراء الصحف والمجلات من مكتبة العروبة التي تقع بجوار السفارة الهندية بمنطقة نجيب باشا وكان صاحبها قوميا متحمسا بحيث انني حين كنت اساله عن وصول الصحف المصرية كان يجاوبني (قل العربية ولا تقل المصرية)!! ولا ادري اين حل الدهر به يرحمه الله حيا وميتا. كما كنت احيانا اذهب لمكتبة الصباح عند شارع عمر بن عبدالعزيز لاشتري الصف والمجلات المصرية.
ولا انسى عدنان بائع الصحف الشهير في منطقة الدامرجي (العطيفية الثانية) صاحب مكتبة حواء وكنت اشتري منه الصحف المصرية التي دخلت العراق بعد 14 رمضان 8 شباط 1963 حيث تصل مساء كل يوم وتباع بعشرين فلسا للصحيفة، وبقيت احتفظ بارشيف ضخم من الصحف المصرية والعراقية واللبنانية والسورية والكويتية ولكنني اضطررت للتخلص منه بعد سفري خارج العراق.
كان باعة الصحف يستلمون الصحف العراقية غير مصحفة اي قبل ان تبدأ عملية التصحيف الميكانيكي، فيضطر البائع لتجميع اوراق الصحيفة وترتيبها بنفسه قبل بيعها للقارئ!!
اتذكر أن بعض المقاهي في بغداد ومنها مقاه في شارع الرشيد مثل الزهاوي والحيدرخانة والشابندر ومقاه اخرى في ابي نؤاس كانت توفر صحف لروادها لترغيبهم واحيانا كان أحد باعة الصحف القريبين من المقهى يؤجر الصحف للرواد لمطالعتها واعادتها مقابل بضعة فلوس. كما ظهرت اكشاش لبيع المجلات والصحف تقوم بتاجير الصحف فترة من الزمن مقابل ثمن بسيط.
معاناة باعة الصحف العراقية اليوم
باعة الصحف في بغداد يواجهون خطر غضب الميليشيات بالرغم من ان هناك العديد من الصحف معروضة، لكن بيع أو قراءة الصحيفة الخطأ في المنطقة الخطأ قد يكون مميتا فقد تم اغتيال العديد من باعة الصحف من ميليشيات طائفية لمجرد انه يبيع صحفا لا تروق لهم! كما تحاول بعض الميليشيات إجبار محلات بيع الصحف على بيع الكتب الدينية فقط وإجبار باعة الصحف على توزيع منشورات التيار!!...
تدهور توزيع الصحف العراقية اليوم
قبل اسابيع كتب احد الزملاء تقريراً اخبارياً حول توزيع الصحف في العراق واشار في تقريره الى (بورصة الصحف) التي تسنى له ان يزورها بعد سنوات غياب طويلة واعترف بأنه فوجئ بطريقة التوزيع البدائية التي لا يمكن ان تعتمد في القرن الواحد والعشرين وفي ظروف منافسة حادة تعيشها الصحافة الورقية تعتبر التحدي الاكبر لهذه الصحافة في القرن الحالي وتلقي على عاتق الصحافة مهمات اكبر للوصول الى القارئ وهي مهمات لا يمكن ان تتحقق في ظل اسلوب التوزيع الذي تعتمده البورصة البائسة الحالية.
الصحافة اليوم تترحم على تلك الايام التي كان موزع الصحف العراقية في بغداد عواد الشيخ علي يدير عملية التوزيع بكادره البسيط وكانت الصحف تصل الى ابعد نقطة في بغداد في السابعة صباحاً وكان له وكلاء في المحافظات يتابعون وصول الصحف واستلامها كان عواد الشيخ علي يدفع (سلفاً) لبعض الصحف والمجلات من اجل ان تطبع الكميات التي يحددها اما المجلات والصحف العربية والكتب فكانت توزع من قبل مكتبة المثنى
الصحف العراقية اليوم ابتدعت بدعة التعطيل في المناسبات الدينية والرسمية وهي بدعة جديدة لم تعرفها الصحف من قبل، كما ان صحف العالم كلها بما فيها العربية، تستمر بالصدور طيلة ايام الاسبوع بل ان كبريات الصحف العالمية تزيد من مبيعاتها ايام الاحد وتصدر عادةً اعداداً مختلفة من حيث المواد والملاحق وتشكل رصيداً هاماً للجريدة لأن هذه الاعداد هي الاكثر احتواء للاعلانات ولأن المعلن يعرف هنا ان القارئ في العطلة يستمتع بالجريدة اكثر من الايام العادية بل ان هناك الاف من المشتركين في الاعداد الاسبوعية فقط.
اعتقد جازما ان الصحافة العراقية اليوم بأمس الحاجة الى اعتماد اساليب جديدة تضمن لها التوسع في الانتشار وتتناسب مع العصر الذي نعيشه بحيث توصل الجريدة الى القارئ وتوفر لباعة الصحف الذين تحدث عنهم التقرير والذين يتعرضون الى برد الشتاء وحر الصيف وحوادث الطرق ظروفاً افضل ومن هذه الحلول العودة الى مشروع نفذ في نهاية الستينيات من قبل امانة العاصمة وهو مشروع اكشاك بيع الصحف ويمكن ان تقوم الأمانة بانشاء اكشاك موحدة تعكس وجهاً حضارياً لعملية بيع الصحف على ان توزع هذه الاكشاك على مناطق بغداد ويتم تأجيرها بشكل رمزي لباعة الصحف وفي هذه الحالة الزام شركات التوزيع بايصال الصحف الى الاكشاك ويمكن لهذه الشركات ايضاً توزيع الصحف في الاسواق التجارية.
في مدن الخليج لاحظت ان الصحف تنشر بواسطة باصات خاصة تابعة لها مئات من باعة الصحف عند اماكن معينة في الشوارع بعيدة عن التقاطعات لوجود منع مروري لبيع الصحف التقاطعات لما يسببه من حوادث مؤسفة وعرقلة للسير، وتقوم ذاتى الباصات بتجميعهم قبيل الظهر بقليل.
مدبولي بائع الصحف الذي تربع على عرش الكتاب
تستهويني حكاية بائع الصحف الجوال «مدبولي»، الذي أصبح فيما بعد أشهر الناشرين العرب، فالحاج مدبولي قصة كفاح مثيرة انتقل خلالها من بائع صحف على الرصيف إلى اسم علم يعرفه كل المثقفين، وتربطه صداقات مع ملوك ورؤساء وأدباء كبار، واليوم تعتبر مكتبة مدبولي بميدان طلعت حرب مزارا من مزارات القاهرة، يندر أن يذهب أحدنا إلى هناك من دون أن تكون مكتبة مدبولي إحدى محطاته.. وفي تلك المكتبة كتب نزار قباني عبارته الشهيرة: «نحن نحب مدبولي لأن مدبولي يتعامل مع الكتاب كإنسان"
ساحة الشهداء كان فيها 4 باعة للصحف ايام زمان واليوم ولا واحد!!
1236 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع