خالد القشطيني
ما زلنا نسمع الكثير عن نزاهة الحكم في أيام الانتداب البريطاني والعهد الملكي في العراق. يظهر الكثير من صورها كأساطير لا تُصدق، حكايات من حكايات الجن والعفاريت. ولكن أحد الزملاء بدد من ذهني معالم الشك عندما شفع خبره بالنص الوثائقي للموضوع.
كانت الحكومة العراقية قد قررت منح عدد من رجال القضاء وسام الرافدين تقديرا لعملهم واستقامتهم في أداء مهمتهم القضائية الصعبة في بلد اعتاد شعبه على اختراق أي حرمة من حرمات القانون والنظام. شملت المجموعة عددا من هؤلاء القضاة يأتي في مقدمتهم السيد مجيد الحمود ونصرت الفارسي رئيس ديوان التدوين القانوني، وجميل الوادي مدير الطابو العام، وأحمد مختار بابان حاكم صلح بغداد، ويوسف جميل خوشابة حاكم الموصل، ومصطفى القرغولي حاكم منفرد أربيل، وتوفيق النائب حاكم صلح مدينة البصرة.
بعثت وزارة العدلية بهذه الأوسمة الرائقة لكل منهم في علبة أنيقة مع نسخة من الإرادة الملكية الصادرة في تكريمهم بمنحهم ذلك الوسام الرفيع، ولكن الوزارة شفعت نص الإرادة الملكية برسالة من وزير العدلية السيد إبراهيم اليازجي بهذا النص الذي أورده حرفا بحرف:
«نرسل إليكم بطيه صورة الإرادة الملكية المرقمة 221 والمؤرخة 17 - 8 - 1932 المتضمنة منحكم وسام الرافدين مع الأوسمة نفسها. ونرجو تزويدنا بمبلغ قدره 1.125 دينار، رسم الوسام الممنوح.
وزير العدلية
إبراهيم اليازجي»
وهو لعمري من أغرب ما سمعته من محاسبة قاض أو موظف في دولة، أن يأمر الملك بمنحه أعلى وسام في البلاد ثم يطالبه وزير العدل بدفع دينار واحد و125 فلسا تكلفة صنع الوسام وتسليمه له! وهو ما يذكرني تماما بما فعله أخي موفق - رحمه الله - عندما كتب كتابا لمجلس الوزراء يطالب فيه رئيس الحكومة عندئذ، فخامة نوري السعيد، بدفع خمسة عشر دينارا، ثمن تذكرة السفر بمقصورة خاصة في القطار من بغداد إلى البصرة. لم يمض أكثر من شهر حتى تسلم أخي موفق شيكا يحمل توقيع نوري السعيد نفسه بتسديد المبلغ! كم يؤسفني أنني لم أحاول الحصول على نسخة من الكتاب ومن صورة الشيك الذي وقعه نوري السعيد. ولكننا في ذلك الزمن لم نلتفت لهذه الإجراءات ونعتبرها شيئا شاذا أو أمرا يستحق التسجيل والالتفات إليه. من كان يتصور أننا سنصل إلى يوم نعجب فيه بمسؤول تمسك بنزاهته أو سدد ما عليه من تبعات؟
أي نعم! زمن وانتهى. أيام وفاتت!
1311 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع