كتابة ورسم حامد تركي
ذاكرة البصرة - أشياء صغيرة
* / لكن أهله يلومون أنفسهم دائماً، كيف نسوه؟ وكيف لم يصلوه؟ ويشعرون بالذنب كلما مروا على آيةٍ تحضِّ على صلة الأرحام وكلّما ذكر أحدٌ فضل تفقد أحوال الناس وقضاء حوائجهم ! /
يسكن عبد المعبود وحيداً في قرية من قرى الفاو. بل هي بين الفاو والسيبة. ليست تابعة للفاو وليست من توابع السيبة، قرية عالقة هناك!
هي ليست قرية بالمعنى الحقيقي، بل هو يسكن في بستانه، وأقرب دار تبعد عنه ربما ألف متر. ولذلك يحتار من يفكر بزيارته من أهله، ذلك لأن الزائر لا يدري هل ينزل في السيبة ثم يسير جنوباً حتى يصل اليه! أم ينزل في الفاو ويرجع ماشياً صعوداً باحثاً عن نزلته! أم يتورط ويصيح بسائق الباص الخشبي (نازل)، فينزل في اللامكان لايدري أين! فالمشهد واحد، غابة من النخيل الكثيف، تظلل غابة من أشجار الفواكه، كالتين والعنب والتوت والسفرجل والحمضيات، والتي تظلل الحنّاء، والباميا، واللوبيا، والباذنجان، والطرح، يا له من طرح ترف! فيما يتوزع الريحان والنعناع والكرّاث هنا وهناك! هي حيرة! كفاكم الله شرَّها! قولوا آمين.
أما اذا أراد الزائرُ أن يستدلَّ بالمساكن المتناثرة الغافية في تلك الغابة الممتدة، فلن يفلح، ذلك لأنها هي الاخرى متشابهة، فكلُّها واطئة، ومتواضعة، كأنها تستحي من الله أن تتطاول على نخيله، أو تخشى منه،سبحانه، أن تترفع عن طينه!
حدث عام 1977
ولكن أهله يلومون أنفسهم دائماً، كيف نسوه؟ وكيف لم يصلوه؟ ويشعرون بالذنب كلما مروا على آيةٍ تحضِّ على صلة الأرحام وكلّما ذكر أحدٌ فضل تفقد أحوال الناس وقضاء حوائجهم ! ولكنْ ما العمل بهذه المسافات؟ كل سنتين يتناده أهلُه المنتشرون في أبي الخصيب، والبهادرية، وكوت الفداغ، وباب سليمان، وأبي مغيرة، والصنگر، ومحيلة، وحمدان، ويوسفان، ومهيجران.كل سنة يتناخى أهله المتوزعون في البصرة والمشراق وباب المجموعة، وباسب الزبير ، والصبخة الصغيرة، ونظران، والسيف.
كل سنة يتشاور أهلُه المتناثرون في الزبير والحْصَيّ، والرشيدية، والدريهمية ومعمل الأصباغ، وشارع الباطن.
تتواصل المجموعات الثلاث بالنقاش، هل زار أحدٌ منكم عبد المعبود هذه السنة؟ هل عرفتم أخباره؟ هل تحسَّستم علومه؟ فينجم عن المفاوضات والمناشدات والمعاتبات أن يرسلوا أحداً منهم طارشاً يتقصّى أخباره! فيشدُّ الطارشُ الرحالَ فجراً حاملاً هديةً متواضعة مما يندر وجوده في السوق، ليصل ظهراً ويعود مساءً قبل غروب الشمس أو بعد العشاء بقليل.
لكن عبد المعبود رغم إنّهُ منقطع عن الناس، ومنشغلٌ ببستانه، الا إنّهُ مع ذلك رجلٌ يعرف الأصول، ومن الأصول ردُّ الزيارة. لذلك يجدهِ كلُّ من زاره بالأمس واقفاً ببابه فجر اليوم التالي! حاملاً هديةً غالباً ما تكون زنبيلاً من ثمار البستان، أو قِدْراً من لبن (الهايشة) تطفو على سطحه زبدةٌ طريّة! أو بضع دجاجات فرّوجات، لم يطأهنَّ ديكٌ بعد! ثم تنقطع أخبارُه حتى يأتيه الطارش التالي بعد سنتين أو ثلاث!
لم يرقْ لصروف الزمان أن تترك عبد المعبود وشأنه يتنعمُّ بجنّته، فقد أتتْ الحرب على ذلك الشريط كلّه فصار غابة محترقة!
826 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع