عبد الرزاق نعمة الأسدي
قصـة -همسات في العتمة
نظرت من حولي لم أجد إلا ظلاما دامسا وبقايا جذوع نخيل قطعت أيام الحروب وتحولت الى أشلاء عفا عليها الزمن . أصبحت مأوى للديدان والأفاعي والحشرات ، امتلأ المكان بالقصب والبردي والحشائش ونباتات شتى ، لا تكاد تجد لقدمك موطئا خوفا من لغم متروك أو مطمور تحت الأطيان منذ عقود خلت . وما زالت الألغام تهدد حياة العابرين والباحثين عن الحشائش ناهيك عن خطر الحيوانات فقد تفاجؤك لدغة ما من افعي مختبئة بين أكوام الحشائش أو تتعرض لطعنة خنزيز هائج .طنين البعوض يصك الاذن فهو يحوم حولك ولا يبارحك مهما تجنبت لسعاته.
تبدو الاماكن شبه مهجورة تركها أهلها دون حياة بعد ان غادروها الى المدن بحثا للأمان ، يحاول البعض البناء في جزء من اطراف الأكمة الموحشة. وحين يجن الليل ينشر الظلام عباءته فيغطي أرجاء المكان حيث لا يوجد ماء ولا كهرباء ، حتى انك لا تكاد ان ترى يدك من شدة عتمة الظلام المحيط بك .
حين أستلقي على فراشي البسيط لا أسمع غير أصوات العواء وحركات الحيوانات وهي تتوارى بين غابات القصب الذي يضج به المكان . الرياح تعوي وتئز كأنها طائرات تغير على اهدافها، ويصطفق باب الكرفان الصغير الذي اعده صاحب المشروع ليكون سكنا لي كحارس مهمتي حراسة تجهيزات ومعدات البناء اللازمة لمشروعه ، وأنا الشخص الذي عينه أجيرا ليكون حارسا على ممتلكاته. أهرع لأوثق باب الكرفان خشية ان ينخلع من مكانه فأكون في خطر.
النعاس يجاذب عيوني ويضغط عليها بشدة ولكني أحاول ان لا استسلم له .. أشغل نفس في تصفح كتاب على ضوء مصباح شحن واذا اشتد بي التعب والسهر خلدت الى نوم ليس نوما كما تظن ، بل هو نوم متقطع لا أكاد أن اغمض عينيي حتى أستيقظ مرعوبا بين الفينة والاخرى أحاول ان أتبين من حولي المكان من خلال نافذتين صغيرتين مثبتتين على جانبي الكرفان موجها مصباحي الى أعماق العتمة فلا اسمع سوى همسات ووشوشات وفحيح قصب كانه ألأفاعي. عندما يحين الصباح اشاهد أعدادا من الخنازير بلونها الرمادي الداكن وهي تهم بالانسحاب الى داخل الأجمة المظلمة ..هذه الصور تملأ قلبي حزنا وألماً ، أرى نفسي وحيداً في هذا المكان الموحش ولكن اجدني مضطرا للقبول بهذا العمل كحارس ليلي بسبب قسوة الحياة والحاجة ولا بد من التضحية وتحمل الصعاب .
أتذكر الأولاد والأخوان فأجدهم وقد ضاعوا في دروب الحياة وإنشغلوا بأنفسهم ولا يتذكرون أحد بشيء فتنتابني حسرة في الصدر ، أكاد أشعر بحرارتها تشعل صدري الواهن وقلبي التي باتت دقاته تنبيء عن علته المتفاقمة بعد شح الدواء ، تمنيت لو أن أبنائي وقفوا بجانبي سندا يردون عني وحشة المكان ولكن لا اجد سوى قبض الريح وصور لهم تدور بخلدي وهم في البيت منشغلون بالهاتف لا يفكرون بزياتي او مد يد العون لي ! تمنيت لو ان الأهل وفروا لي حاجتي من المال القليل لأكتفيت وعشت بسعادة ولكن هذا الامل ضاع وتبخر مع الايام .
سألت عن عمل ذات مرة فدلني صديق لي على صاحب متجر في المدينة بحاجة الى عامل في متجره فذهبت اليه وقلت له لقد أرسلني اليك فلان وأنا بحاجة لفرصة عمل ، ولكنه لما رآني تغيرت ملامح وجهه وقال لي ياعم : ــ أريد عاملا صغير السن آمره وأطلب منه ان ينظف ويحمل البضائع وربما أرفع صوتي عليه إذا خالف بينما انت بعمر والدي ولا أستطيع ولا تطاوعني نفسي أن آمرك أو يعلو صوتي عليك لذا أعتذر عن تشغيلك ، فغادرت خائبا من حيث أتيت ..
في صباح اليوم التالي وصل عمال البناء الى موقع العمل واخذت استعد لمغادرة المكان . سويعات أقضيها في البيت ثم أعود أدراجي فآوي الى ذلك الكرفان وكأني اقضي عقوبة نهاية عمري في حبس إنفرادي محتضنا الظلام والوحشة والخوف من الآتي !
776 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع