د. منار الشوربجي
في العالم كله يوجد من يضحون من أجل بلادهم، والكثيرون يتعرضون للاعتقال والنفي والطرد، وكثير من الناشطين السياسيين يلجأون للولايات المتحدة الأمريكية تحديدا، هربا من انتقام النظم السياسية في بلادهم.
المفارقة هذه المرة، أننا بصدد قصة أمريكي هرب من بلاده لاجئا، خوفا من انتقام الحكومة الأمريكية منه! وحدوتة ذلك اللاجئ قصة بالغة الدلالة، لا تكشف فقط عن التراجع الأمريكي في مجال الحريات والتحول المذهل في الموقف من هذا التراجع، وإنما تجسد أيضا نوعا من الوطنية يقل الحديث عنه.
والأمريكى الهارب هو إدوارد سنودن، الذي كان يعمل في هيئة الأمن القومي الأمريكي وسرب لصحيفة الغارديان البريطانية، معلومات بالغة السرية تفيد بتجسس الهيئة على الهواتف والاتصالات الإلكترونية للمليارات حول العالم، بمن في ذلك ملايين الأمريكيين.
وسنودن الذي يبلغ من العمر 29 عاما، لم يحصل على الشهادة الثانوية ولكنه برع في مجال الإلكترونيات. والواضح أنه كأغلب الأمريكيين، كان يحمل صورة ذهنية مثالية لدور بلاده في العالم.
فهو تطوع في الجيش إيمانا منه بأن ذلك الجيش سيذهب للعراق للدفاع عن المقهورين هناك، لكنه فوجئ في التدريبات بخطاب يشي بأن المدربين أناس "لا يطمحون إلا لقتل العرب"، على حد قوله.
كانت تلك هي الصدمة الأولى التي تلقاها سنودن، لكنه بعد إصابته أثناء التدريبات، ترك الجيش ليلتحق بهيئة الأمن القومي، التي احتفت به بسبب مهاراته الإلكترونية، ثم التحق لفترة بوكالة المخابرات المركزية ليعود بعدها للهيئة من جديد.
وطوال عمله في المخابرات والأمن القومي، عاش سنودن حياة هادئة ومريحة في هاواي، التي عمل في فرع الهيئة فيها وامتلك فيها بيتا، ووصل دخله من عمله إلى 200 ألف دولار سنويا، لكن سنودن ضحى بكل ذلك.
فهو كان طوال تلك الفترة قد اطلع على ما جعله يدرك أن حكومة بلاده تقوم سرا بالاعتداء على خصوصية الأمريكيين وحرياتهم وتنتهك الدستور، فصمم على فضح ما يجري بهدف تغييره. لكن انتخاب أوباما أثناه عن عزمه بعض الوقت، أملا في أن يغير الرئيس الجديد الوضع المأساوي الذي أرساه بوش.
إلا أن الوقت أثبت لسنودن أن أوباما يسير على خطى بوش نفسها، فراح يجمع الوثائق المهمة التي سلمها فيما بعد للغارديان، وبالتحديد للصحفي جلين غرينوولد المهموم بأوضاع الحريات المدنية في أمريكا بعد 11 سبتمبر.
وقد تعمد سنودن ألا يقدم تلك الوثائق للنيويورك تايمز، بعد أن عرف أن الأخيرة كانت قد تسلمت في أول 2004 وثائق تفضح برنامج بوش الذي كان قد أمر فيه بالتجسس على الأمريكيين دون إذن قضائي، ولكنها لم تنشر تلك المعلومات طوال عام كامل بضغوط من الإدارة.
والنيويورك تايمز بقرارها هذا لعبت دورا مهما في تحديد نتيجة انتخابات 2004 الرئاسية، التي كان من الممكن أن تتغير تماما إذا ما عرف الناخب الأمريكي بتفاصيل تلك الفضيحة قبل إعادة انتخاب بوش لفترة ثانية.
وسنودن الذي لم يكن ينوي أن يظل مجهولا كمصدر المعلومات التي تنشرها الغارديان، سافر إلى هونغ كونغ قبل النشر بأيام، لئلا يتم القبض عليه داخل أمريكا ومحاكمته.
وهو بالمناسبة، ليس وحده الذي اختبأ بعيدا عن أنظار الحكومة الأمريكية.
فالأسترالي جوليان أسانج، يعيش منذ عام كامل داخل سفارة الإكوادور في لندن. وأسانج هو صاحب ويكيليكس الذي تعاون مع الجندي الأمريكي برادلي ماننغ، في نشر مئات الآلاف من الوثائق الأمريكية السرية التي تفضح الجرائم التي ارتكبت في العراق وأفغانستان.
وماننغ يحاكم اليوم بعد أن قضى في السجون الأمريكية فترة عصيبة، كان فيها قيد الحبس الانفرادي لمدة 23 ساعة يوميا، ويطلب منه التجرد من ملابسه ليلا، والذي يعد من أشكال التعذيب المعروفة. وقد تصل عقوبة ماننغ إلى السجن مدى الحياة.
والذي يجمع بين الثلاثة هو أنهم ملاحقون من جانب إدارة أوباما، التي اعتبرتهم أهدروا الأمن القومي الأمريكى.
وهو الاتهام نفسه الذي تعرض له دانيال إلزبرغ، الذي سرب في الستينات ما صار يعرف باسم وثائق البنتاغون، التي كشفت عن أن الرئيسين كينيدي وجونسون كذبا على الرأي العام وعلى الكونغرس في ما يتعلق بفيتنام.
ومثلهم مثل إلزبرغ، فإنهم يلاحقون باسم قانون التجسس الذي يجرم تسريب أية معلومات قررت الحكومة فرض السرية عليها.
لكن الفارق الأهم بين ملاحقة إدارة أوباما لهؤلاء وبين ملاحقة إدارة نيكسون لدانيال إلزبرغ، هو رد فعل المؤسسات والمجتمع السياسي في واشنطن. ففي السبعينات، أجريت التحقيقات بشأن الممارسات غير القانونية التي كشفت عنها الوثائق، بينما تقتصر التحقيقات اليوم على ملاحقة من كشفوا عن تلك الوثائق. وإدارة أوباما تدافع علنا عن التجسس على الأمريكيين، دون أن تتعرض للتحقيقات.
غير أن هناك بعدا آخر في القصة يستحق التأمل.
فإدوارد سنودن، مثله مثل برادلي ماننغ، لم يحتمل التجاوزات التي ترتكبها حكومة بلاده، فقرر فضحها بهدف وقفها. ورغم أن كلا منهما لا يزال في العشرينات من عمره وفي مقتبل حياته، فإنه قام بتضحية كبرى من أجل بلاده.
فكل منهما كان يعرف يقينا أنه سيدفع ثمنا باهظا، بدءا من شيطنة الإعلام ومرورا بالطرد من الوظيفة والقضاء على مستقبله المهني، وصولا للسجن مدى الحياة. لكن كلا منهما كان على استعداد لدفع ذلك الثمن الشخصي الباهظ، أملا في إنقاذ بلاده.
الوطنية شعور نبيل يعبر عن نفسه بصور شتى، والذين يتحدثون كثيرا عن الوطنية هم عادة الأقل تضحية، بينما يضحي النبلاء من أجل بلادهم بلا ضجيج.
1097 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع