فارس حامد عبد الكريم*
الإنتهازية والديمقراطية الفارغة
امتدت الحضارة والديمقراطية ودولة المؤسسات الى شعوب كانت تعيش حياة بدائية في مجاهل وغابات افريقيا وشرقاسيا حتى مطلع العشرين، ومنها لم يكن يعرف حتى شكل الملابس، وكانت الامراض والملاريا خاصة تفتك بالآلآف منهم سنوياً، لكنها سرعان ما عرفت اليوم طريقها وخلاصها الاجتماعي والسياسي وبنت دول حديثة هي دولة المؤسساتالديمقراطية وبدأت تتسلق ادراج الحضارة بعزم وثبات.
بينما شعب العراق وريث اقدم حضارة ومدنية ودولة عرفها التاريخ البشري لم تنقل له حضارته العريقة تلك سوىالخرافات والأساطير ولازال مدعي السحر والمشعوذين يجدون لهم مكاناً لائقاً حتى بين خريجي وخريجات الجامعاتالعلمية الرصينة!!
حتى تاريخ العراق المجيد استلمناه نصوص وحجارة ولم نعرف كيف نخلق منه سياحة اثرية يندر وجود مثلها الا في دول محدودة تدر عليها الملايين من السياح والثروات على مدار السنة وتخلق فرص عمل متنوعة للآلآف من الشباب، بلان الاجنحة العراقية الاثرية في المتاحف العالمية تدر مبالغ طائلة على الدول التي تتواجد فيها.
واذا كانت الدكتانورية المقيتة قد افرغت سمومها في جسد العراق أرضاً وشعباً، فما أن سقطت الدكتاتورية وشطحتالأحلام الذهبية بخيال الشعب الواسع الى بناء دولة الديمقراطية والعدالة والقانون ولكنه سرعان ما أكتشف ان ديمقراطيته المزعومة كانت مجرد وهم بعد ان افرغتها المحاصصة السياسية والقومية والطائفية والقبلية من محتواها ومضمونها الذي تفتخر به كل شعوب الأرض عدا العراق ودول متفرقة أخرى، بل إن الفساد السياسي والمالي والإداري،الذي يقود حتمياً وعلمياً الى فساد إجتماعي تخلفه الفوراق الطبقية مما يؤكده علماء الإجتماع والعلوم النفسية، قد جعلالكثير من ابناء الشعب يكرهون الديمقراطية ويلعنونها، ولكن ينبغي لفت نظرهم الى ان مايحصل في العراق ليس(ديمقراطية) بمعناها الحقيقي بل ان غالبية من يعمل تحت عنوانها لايؤمن بها أصلاً، وينتهز اسمها البراق لخداع الجماهير وتضليلها لتحقيق مأربه ومصالحه الشخصية الضيقه التي لاتتعدى حدود عائلته وبعض المقربين.
ومن هنا تبرز المفارقات الإجتماعية، فتجد عائلة سياسية هي في الأصل ثرية تدفع من خلال نفوذها الى تعيين جميع ابنائها في وظائف مميزة وبرواتب مميزة، وهذه ظاهرة انتشرت بشكل واسع غير مسبوق في تاريخ الوظيفة. بينما تجد عوائل فقراء الناس صعوبة بالغة في الحصول على الوظائف ولو الدنيا منها تلك التي تتطلب جهوداً شاقة وتضحية بالنفس.
وغالبا ما يكون الانتهازي ذو شخصية مثيرة ومحل للجدل حول صفاته ومبادئه، وهو في انتهازيته هذه يبحث عنالأشخاص الملائمين لممارسة تسلطه بأقصى ما يمكن من الانتهازية، فيسارع بمجرد ما ان يمسك بالسلطة الى عزل الأكفاء والموهوبين والمخلصين النزهاء ليحل محلهم الفاسدين والجهلة والمزورين ممن يأتمرون بأمره دون جدل اومناقشة او حتى مجرد تساؤل.
ان المشكلة العراقية تتلخص، كما لاحظ الملك فيصل الأول مؤسس الدولة العراقية الحديثة، في انعدام الولاء الوطني لدى العديد من الافراد، وإذا انعدمت الوطنية حلت محلها الانتهازية لامحال، والإنتهازية صفة شخصية وجماعية مدمرة تنال اول ما تنال من المبادئ والقيم الخلقية في المجتمع وتحول المنافسات وتضارب المصالح بين افراد المجتمع التي يفترض انتكون مشروعة ومضبوطة بالقيم والأعراف وتضارب المصالح الى اعمالاً ومنافسات غير مشروعة يبتلع فيها الفاسد والمحتال حقوق الناس دون وازع من ضمير او أخلاق.
وعندما تنتقل اللاوطنية والإنتهازية الى الساحة السياسية، يكون العمل السياسي بلا ادنى ضوابط وتصبح محاولة الحفاظ على الدعم السياسي، أو إلى زيادة التأثير السياسي بطريقة تتجاهل المبادئ الأخلاقية أو القواعدالسياسية المتعارف عليها. فتنتشر ظاهرة الفساد على نطاق واسع وتصبح المشاريع الوهمية والوعود الكاذبة اداة أساسية فياستقطاب أصوات الجماهير واستدراجها الى صناديق الإنتخاب.
ومع تفشي الإنتهازية في العمل السياسي تبرز ظاهرة الإغتيالات السياسية كممارسة دورية يمارسها الخصومالسياسيون بدم بارد ولكنهم يتبادلون الإتهامات بكل حماس وضجيج.
ولاشك ان الانتهازية تجد ملعبها الواسع في أحضان الفقر والجهل والصراعات القومية والطائفية والعمل على تأجيجها في الأوقات الإنتخابية.
ومن البديهي، حسب سياق الأمور، ألا يكون للإنتهازية موقف صريح وواضح، لأن مواقفها وآراءها لا تنبع من معتقدات وقيم راسخة غير موجودة أصلاً، بل من مصالحها المتقلبة حسب ظروف الزمان والمكان، فهي تدعي اليوم ما تنكره أوتنقضه غدا قولاً أو فعلاً وتقول ما تتخلى عنه بعد غد، وهي لا تطرح آراءها بشكل نظرية متكاملة بل بشكل مواقف آنية.
واذا كان العمل السياسي ينطوي تاريخياً على قدر من الإنتهازية، كالإستفادة من اخطاء الخصوم ونقاط ضعفهم وفشلهم في قضية محددة مثلاً، ولكن السؤال هو الى اي مدى يمكن ان تخرق المبادئ؟ هل يكون ذلك لدرجة التحالف معالشيطان؟!، أم إن هناك حدوداً لاينبغي تجاوزها بأية حال من الأحوال،
كما لا ينبغي الخلط بين الانتهازية و"اقتناص الفرص" كما هي أو "الاستفادة من الفرص عندما تظهر". ولكن تشيرالانتهازية إلى طريقة معينة للتجاوب مع الفرص، حيث تتضمن عنصر الأنانية الشخصية إلى جانب التغاضي عنالمبادئ الأخلاقية أو الأعراف ذات الصلة. ومن الوصف المتقدم ينهض معيار التمييز بين الوطنية والإنتهازية.
فإذا أردنا ان نميز بين الوطني والإنتهازي، فان معيار التمييز بينهما واضحاً وضوح الشمس، فالسياسي الوطني بمجرد ان يفشل في تحقيق أهدافه لسبب أو لآخر تراه ينسحب من الساحة دون دعوة من أحد بل يعلن عن استقالته ويعتذر وينسحب بهدوء، اما الانتهازي فلا يستقيل ولاينسحب ولو تهدم البلد وحل به الخراب ولاحقته لعنات الناس أجمعين، لانه ليس من طبع الإنتهازي الخجل أو الإعتراف بالخطأ بل التمسك بالمنصب ولو بأي ثمن يدفعه الشعب.
*استاذ جامعي - النائب الأسبق لرئيس هيئة النزاهة الإتحادية.
733 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع