إعادة كتابة التأريخ

                                                                                                      

                                 وائل القيسي

إعادة كتابة التأريخ

هناك قول مشهور من أن التأريخ يكتبه المنتصر، وبغض النظر عن مدى مقبولية هذا القول من عدمه، يتحتم علينا خصوصا ونحن الشهود الأحياء على التأريخ المعاصر وأبطال أحداثه سلبا أم ايجابا، أن نكون على قدر المسؤولية الأخلاقية والتأريخية والدينية والوطنية، وأن لا نكتم شهادة على ما نعرفه بحكم العمل والمعايشة الحية وكلّ حسب دوره ومسؤوليته التي كانت مُناطة به، فكاتم الشهادة ظالم للّه ولنفسه وللدين والناس والوطن ومن أظلم ممّن كتم شهادة عنده من اللّه.

قال تعالى: (ومن أظلم ممّن كتم شهادة عنده من اللّه وما اللّه بغافل عمّ تعملون)، البقرة 140.

وقال تعالى: (ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فأنه آثم قلبه واللّه بما تعملون عليم)، البقرة 283.

إن أداء الشهادة فرض ويجب أداؤها، فقد نهى اللّه عن كتمان الشهادة وتوعد كاتمها، ودلّ على أنه يجب إظهارها بقوله تعالى: (ولا يأبَ الشهداء إذا ما دُعُوا)، البقرة 282.

وأمر الله تعالى بأداء الشهادة على حقها وعلى وجهها الصحيح ولو كانت على النفس أو الوالدين والأقربين:

قال تعالى: (يا أَيُّهَا الذين آمنوا كونوا قوّامين بالقسط شُهداء للّه ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين إن يكن غنيا أو فقيرا فاللّه أولى بهما فلا تتّبعوا الهوى أنْ تَعدِلوا وإن تلووا أو تُعرضُوا فأن الله كان بما تعملون خبيرا)، النساء 135.

إن العقود الأخيرة من القرن العشرين والعقدين الأولين من القرن الحادي والعشرين هي محور بحثنا على الصعيدين الوطني والقومي وحتى الإقليمي والعالمي، فقد شهدت هذه الحقبة الكثير من الأحداث التأريخية والوقائع التي شكّلت منعطفا في خريطة الدول والشعوب سواء أكانت سياسية أو اجتماعية واقتصادية، ولا يخفى على أي مُتابع ان هذه الفترة الزمنية المُشار إليها قد شَهِدَت تغييرات جوهرية لامست حياة الإنسان سواء العراقي خصوصا أو العربي عموما بين ارتقاء احيانا وإنحدار أحياناً أخرى.

ونستطيع القول ان ما مَرَّ بالعراق منذ سبعينيات القرن المنصرم حتى الآن من أحداث جِسام هي التي رسمت خارطة كل هذه المتغيرات الجارية.

وما تعرّض له العراق من غزو بربري إجرامي بقيادة أميركا وانتهاء بالإحتلال الإيراني قد أدى إلى تدمير العراق وإسقاط حكومته الشرعية والوطنية، ناهيك عن تحطيم البنية التحتية ونهب الثروات من تحت وفوق الأرض، وتسليم مقدرات البلد إلى فئة ظالة من عملاء الغزاة الاميركان وعملائهم ومن أتباع وذيول المحتلين الفرس.

ومن سخرية القدر، أنّ خيرة رجال العهد الوطني ممّن هم على قيد الحياة يرزحون الآن خلف قضبان المعتقلات بسجون الحكومة المحكومة العميلة والميليشياوية دون أن يتحدث او يُطالب بحقهم أحد، ماعدا بعض أصواتٍ فردية من هنا ومن هناك.

والسخرية القدرية الأُخرى ان عددا من رويبضات العصر الذين قاءهم الزمن الردئ وشغلوا مناصب قيادية عليا، أخذوا يتسابقون في إصدار مذكراتهم الشخصية التي من المؤكد إنّها لم يقرأها أحد يُذكر حتى من عوائلهم، ولكن هذه المذكرات وبغض النظر عن سخف أصحابها وتفاهة محتواها لكنها حتما توثق لمرحلة مهمة، من وجهة نظرهم البائسة، ومما لاشك فيه انهم يطمعون أن تكون جزء من الوثائق التي تؤرخ لهذه المرحلة.

انها حملة مسعورة لتخريب صورة الذاكرة العراقية وتشويه لوجه التأريخ وطمس للحقائق وتزييفها، ومحاولة لشيطنة وتجريم كل رجال الحكم الوطني، سواء ممّن هم في منظومة الحكم او من الذين يرونَ فيها مرحلة مضيئة ومشرقة في تأريخ العراق والأمة.

وهذه الحملة الشعواء لقلب حقائق التأريخ تقوم على عمل ممنهج ومنظم رغم ظاهر فوضويته احيانا، وانه مدعوم بعناية ويحضى باهتمام ورعاية دول ومؤسسات كبيرة، فهناك المئات من القنوات الفضائية ومراكز البحوث والدراسات الخبيثة التي تعمل على نفث سمومها وتنشر وتروج لأكاذيب ووثائق مزورة وشهادات شخصية مدلسة، جميعها تصب في محاولة مسح الذاكرة العراقية للناس واستبدالها بأكاذيب واوهام وخرافات لكي تترسخ مع مرور الوقت وتصبح هي التأريخ الذي يكتبه المنتصر كما يُقال، بالإضافة إلى غزوهم لعالم الشبكة العنكبوتية (الإنترنت) من خلال مواقع وصفحات إلكترونية ومكتبات صوتية، وكذلك صفحات التواصل الاجتماعي.

انهم يسعوون يا سادة إلى كتابة التأريخ المعاصر للعراق وفق رؤيتهم وافكارهم المريضة وتوجهاتهم القائمة على هدم كلّ ما هو راسخ واقتلاع الثوابت الوطنية وطمس الحقائق وأهلها، فلا تكاد تخلو مقابلة تلفزيونية او جلسة حوارية او تحليلية من استضافة شخوص أقل ما يُقال عنهم انهم نكرات ومتقولون ومُدّعون ومزورون ومدلسون تسعى لشيطنة كل الماضي المجيد وتُمجّد الحاضر الكسيح، كذا الحال مع ما يكتب من مقالات ودراسات وبحوث، جميعها تصب في خدمة مشروعهم الهادف إلى كتابة تأريخ مُفصّل على مقاساتهم، ورغم اختلاف توجهاتهم فهم متفقون على العداء للعراق وشعبه وأمته ولكل ما هو إنساني ومتحضر.

ونضرب مثلا، حيث ان احد صغار الإعلاميين قد تحوّلَ وتحوّر اكثر من تحورات فيروس كورونا ورقص ولا زال يرقص على كل الحبال بانتهازية تصل حدّ الهستيريا، في محاولة يائسة وبائسة لإملاء صِغَرِهِ وللتنفيس عن مرض الدونية الذي يعتريه، فتارة يكون إعلاميا وأُخرى محللا ومقدم برامج وآخرها قيامه برقصة عرجاء هي رقصة المؤرخ التي حاول أن يتقمصها ويلبس لبوسها الفضفاض عليه ويدعى إنه باحث في التأريخ، هو الدكتور (؟) حميد عبدالله الذي يقدم برنامج شهادات خاصة، حيث يستضيف فيه اشخاص لا ترتقي إلى مستوى الشخصيات إلّا ما ندر، للحديث عن احداث ووقائع ورغم اختلافها لكنها تدور في فلك التسقيط لكل ما يمتّ بصلة لمرحلة ما قبل الإحتلال المتمثلة بحكم النظام الوطني، ويمارس على ضيوفه كل أساليب الخبث في طرح الأسئلة السلبية دوما ويتبع اسلوب مقاطعة المتحدث كلما مال الحديث نحو الإشادة بالنظام الوطني ومنجزاته بينما يسترسل مطولا بكل جزئية فيها ذم وقدح في شخص ومسيرة وتأريخ ومآثر الشهيد القائد صدام حسين رحمه الله والنظام الذي كان على رأسه، بيد انه حتى الانسان البسيط يدرك جيدا ما الذي يرمي إليه ذلك المذيع من وراء ذلك، بإستثناء عدد محدود ممن استضافهم ولم يتمكن من الهيمنة على مجرى الحوار معهم، لقوة شخصيتهم وثقافتهم العالية وإيمانهم بالحق والمبدأ الذي هم عليه كالدكتور ضرغام عبدالله الدباغ والدكتور عوني القلمجي وغيرهم.

أما في مجال الإنترنت فنجد الكثير من المؤدلجين والانتهازيين الذين لا يُعرَفُ لهم وجه من دُبُر، مثال على ذلك أحد اباطرة الكذب والتلفيق والتدليس والتَقَوّل وهو صباح الحمداني الذي يشهد له القاصي والداني بالبراعة وإجادة الصنعة في الكذب السمج والتَقَوّل على الأحياء منهم والأموات.

ناهيك عن آخرين كُثُر أمثال صباح الحمداني وحميد عبدالله من الذين لا يستحقون الذكر ك محمد جاسم فلحي وفاضل ابو رغيف ونجاح محمد علي (اسمه الحقيقي: شاكر علي عسكر الفيلي) وهاشم الكندي وكنعان مكية وآخرين امثالهم.

من هنا صار لزاما، بل ويتوجب على كل عراقي وعربي غيور وصاحب ضمير حي وانتماء عراقي وعربي أصيل للعراق والأمة، سواء أكانت شخصيات أكاديمية أو مؤسسات ومراكز بحثية ان تتنبّه لهذا المشروع الخبيث، وتقف وقفة جادة ومسؤولة لإعادة كتابة التأريخ الحقيقي وإنهاء اكذوبة " التأريخ يكتبه المنتصر".

والجهة التي يجب أن تضطلع بهذا الدور اكثر من غيرها هي حزب البعث العربي الاشتراكي لأسباب موضوعية تقف في مقدمتها انها هي من كانت تقود الدولة والمجتمع، وكل ما جرى ويجري تعرف أدق تفاصيله، سواء بامتلاك الوثيقة او الشهادة الشخصية، بالإضافة إلى أن السواد الأعظم من ذوي الكفاءات الأكاديمية والخبرة والتخصص هم من ثمرة حزب البعث ونظام الحكم الوطني الذي كان يقوده هذا الحزب العظيم.

ولكن هناك ما يستحق الذكر والإشادة به، ويشكل علامة فارقة في وسط كل هذه المعمعة التي تحصل الآن، وهو أن هناك جهودا حثيثة في هذا الميدان انبرى أصحابها ووقفوا للتصدي وبمجهود شخصي وفردي وبإمكانات بسيطة ومتواضعة للدفاع عن حقوق العراق والأمة رغم المخاطر والاستهداف والمضايقات التي يتعرضون لها، والتي تصل احيانا حدّ التهديد والوعيد بالويل والثبور وعظائم الأمور من قبل كل الجهات والاطراف المعادية.

وأبرز ما يثير الإستغراب والدهشة والألم ان تلك الشخصيات التي أخذت على عاتقها مهمة الدفاع عن العراق وشعبه إرثا وتأريخا وحضارة وسيادة وعروبة، تتعرض إلى تجاهل وتسقيط وتنكيل وتخوين وتشكيك من قبل أقرب الناس ممن يدّعون الوطنية ويجهرون برفض ومقاومة الاحتلال وأذنابه وهم كثيرين، بدل دعمهم ومساندتهم ومؤازرتهم وتشجيعهم.

وأفضل ما يَصلُح ان نذكره كمثال على معركة إعادة كتابة التأريخ وعدم السماح لمحاولات تشويهه وطمس حقائقه هو النشاط الإعلامي الذي يقوم به المحامي سليمان الجبوري في لقاءاته على القنوات الفضائية العربية والأجنبية بالإضافة إلى قناته على اليوتيوب (قناة الحقائق بالوثائق) التي يتناول فيها مواضيع مختلفة وقضايا كثيرة، كلها تهتم بالدفاع عن حقوق العراق وشعبه وأمته ويتبنى كل ما يتعلق بفترة الحكم الوطني ومنجزاته ويدافع عنها بضراوة وعناد وإيمان، ويعتمد صاحب قناة الحقائق بالوثائق في كل ما يعرضه على الوثيقة الرسمية الموثقة وعلى عرض شهادات شخصيات حقيقية تدلي بشهاداتها التأريخية كون هذه الشخصيات هي من الابطال الحقيقيين لهذه المرحلة التأريخية ومن صنّاع احداثها والمساهمين فيها وليسوا رواة بالسماع او النقل.

هذا هو ما ينبغي أن يقوم به كل باحث ودارس ومتقصٍ عن الحقيقة، فالحقيقة هي غاية المؤرخ والباحث والموثق لكل حدث تأريخي بأمانة وصدق وحيادية، بعيدا عن الميول والهوى إلّا بمقدار الحق الذي هو عليه.

مع العرض ان المحامي سليمان الجبوري سبق له ان رافق عن كثب الكثير من رموز وقادة النظام الوطني الذين قادوا العراق منذ عام 1968 حتى عام 2003، كونه كان محاميا للدفاع عن الكثير منهم وهم يرزحون خلف قضبان المعتقلات والأسر، وهو يمتلك كمّا كبيرا من المعلومات استقاها من أصحابها بشكل مباشر وكذلك تحصّل على الكثير من الوثائق الرسمية والشهادات والوصايا بخط أصحابها، فمنهم من رحل شهيدا ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا.

وحسنا فعل حينما انشأ قناة (الحقائق بالوثائق) ليقدمها بطريقة علمية وأمينة ورصينة وصادقة ولم يكتم شهادة يعرفها كما أمر الله بقول الحق وإعلاء منزلة الحقيقة، مما يجعلها خطوة صائبة وأساس صلب لإعادة كتابة التأريخ كما هو وليس كما يريد المنتصر المزعوم.

إضافة إلى جهود محمودة أخرى من الذين يؤمنون بالوطن ويحملون مبادئ الحرية والشرف والرجولة.

إن التأريخ يستصرخ ضمائرنا يا سادة ولابد من نصرته كلّ حسب استطاعته.

بغداد
ديسمبر 2021

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

704 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع