فارس حامد عبد الكريم*
إحياء الضمير من سباته
الضمير، او الوجدان كما يوصف بلغة الأدب، هو معيار عقلي لتقويم الأداء الشخصي والتمييز بين الخطأ والصواب والحسن والقبح من الأفعال، وما هو حق وما هو باطل، وبشكل أعم هو معيار للتمييز بين الخير والشر.
واذا رجعنا الى المصادر البعيدة للقوانين والتشريعات والشرائع الدينية بمختلف انواعها ومصادرها السماوية وغيرالسماوية، وجميع القيم الخلقية والآداب العامة لدى مختلف الشعوب سنجد ولاشك ان صوت الضمير واضحاً ومسموعاً بقوة بين ثناياها.
وهكذا قيل ان الضمير الانساني، لو لا تعارض المصالح والأنانية الفردية، يستطيع التمييز بوضوح بين الخير والشر دون حاجة الى قاضي يقضي بالتمييز بينهما.
ذلك ان الضمير الشخصي يأبى بطبيعته وينفر من جرائم مثل القتل والسرقة والإغتصاب والخطف والرشوة والمخدرات وغيرها من الجرائم التقليدية والحديثة كمخالفات المرور.
ومما يدلل على ذلك مايعرف في الفقه الإسلامي بحديث وابصة ابن معبد الذي سأل الرسول(ص) عن البر والإثم فقال له: "يا وابصة، استفت قلبك، البر ما اطمأنت إليه النفس واطمأن إليه القلب، والإثم ما حاك في القلب وتردد في الصدر وإنأفتاك المفتون".
وصف ظريف للضمير؛
يوصف بعض الكُتاب الضمير بحق بأنه الشرطي الكامن في عقل ونفس كل منا، حيث يحاسبنا ويوخزنا ويؤنبنا حينمانخرج على قواعد الآدب والأخلاق المتعارف عليها في البيئة التي نحيا فيها.
التعريف العلمي للضمير؛
فسر علماء العصر الحديث في مجال العلوم الإنسانية وعلم النفس والأعصاب الضمير على أنه وظيفة من وظائف الدماغ التي تطورت لدي الإنسان لتسهيل الإيثار المتبادل (Altruism).
أو السلوك الموجه من قبل الفرد لمساعدة الآخرين في أداء وظائفهم أو احتياجاتهم دون توقع أي مكافأة وذلك داخلمجتمعاتهم.
الضمير من وجهة نظر الفلسفة؛
ينظر للضمير هنا على انه مركب من الخبرات العاطفية القائمة على أساس فهم الإنسان للمسؤولية الأخلاقية لسلوكه فيالمجتمع، وتقدير الفرد الخاص لأفعاله وسلوكه.
الضمير وعلم النفس؛
الضمير هنا هو جهاز نفسي تقييمي يتعلق بالأنا، يتصف بشمولية الانحاء فالمرء يهتم بتقييم نفسه بنفسه كما إنه يتلقى تقييمات الآخرين لما صدر أو يصدر منه من أفعال في الماضي والحاضر والمستقبل، فالضمير يقوم بمعاتبة الشخص إذا تبين أن نتيجة تقييمه لنفسه أو تقييم الآخرين له ليست جيدة.
والضمير قد يبالغ في التراخي وقد يبالغ في القسوة؛ فالضمير قد يكون سويا أو قد يتعرض للانحراف أو البلادة والخمول أو إلى المبالغة في تقدير الأخطاء.
اقسام الضمير؛
الضمير الفردي؛ الضمير قد يكون فرديا وقد يكون جماعيا: فالمرء في حياته الشخصية وعلاقاته بغيره وبنفسه يكونصاحب ضمير فردي،
الضمير المهني؛ اما الضَّمير المِهني فهو ما يُبديه الإنسان من استقامة وعناية وحرص ودقة فى قيامه بواجبات مهنته.
ضمير الشعب؛ ولكن الضمير قد يتسع ليشمل مجموعة من الناس قد تكون محدودة أو قد يمتد ليشمل شعب بأكمله، فمثلا عندما ينهزم جيش شعب أمام جيش أخر فإن ضمير الشعب قد يثور وقد يقوم بانقلاب على حكام طغاة أو فاسدين.
الضمير الإنساني؛ ويشار الى الضمير الإنسانىّ" بأنه: مشاعر فى نُفوس البشرية عامة، تهتدى إلى القيم الخلقية الإنسانية المشتركة بعفوية وتِلقائية، وتقف إلى جانب المظلومين وذوي العاهات والفقراء وتبتغي العدالة الإنسانية.
منشأ الضمير
يتشكل الضمير عند الإنسان من خلال القيم والمبادئ الخلقية والصراع بين الخير والشر وقيم الحق والعدالة ومكافحةالظلم المتداولة على مدار التاريخ البشري، ويمكن لهذه القيم أن تتشكل من خلال بيئة الإنسان التي يعيش بها؛ حيثيتأثر ضمير الإنسان بالبيئة التي يحيا فيها ويتأثر بقيمها وثقافتها.
الضمير والقانون
لاشك ان تنمية الضمير وتهذيبه لدى الفرد والمجتمع تعطي نتائج قد لاتدركها القوانين والانظمة والتشريعات ومايلحقهامن جزاء بدني ومادي وإنضباطي عند مخالفتها علانية أو خفية، ولكن للضرورات الواقعية والإجتماعية إذا خيرنا بينالضمير والقانون، فإن الأفضلية تكون للقانون.
واذا تمت الموائمة بين القانون والضمير الفردي والإجتماعي فأننا في الواقع سنُحي أمة عظيمة، وهذه الموائمة لا تكون إلافي ظل نظام ديمقراطي حقيقي وتشريعات عادلة تضعها نخبة إحتماعية مخلصة لشعبها لا لمصالحها الأنانية يطبقها قضاء يحترم هيبته وحقوق مجتمعه ويكافح الظلم اينما وجد.
الضمير والنزاهة؛
يحدد الضمير درجة نزاهة الفرد، وهو أعلى سلطة في الفرد؛ فهو يقيّم السلوكيات التي يقوم بها الإنسان، ليحدد في ذاتالوقت طبيعة التصرف إن كان خيراً أو شر.
الضمير والواجب؛
يرتبط الضمير ارتباطا وثيقا بالواجب، وحينما يشعر المرء بأنه انجز واجبه فيكون صافي الضمير، أما انتهاك الواجب فيكون مصحوبا بوخزات التأنيب.
الضمير والتهذيب؛
يعد الضمير عند استجابته للقيم الخلقية القائمة في مكان وزمان معينيين ؛ دافعاً قوياً للتهذيب الأخلاقي للفرد.
انعدام الضمير في المؤسسات العامة والخاصة ؛
لاشك ان أهم مظاهر انعدام الضمير هنا تتلخص بالفساد السياسي والمالي والإداري؛
ويتطابق انعدام الضمير هنا مع مفهوم خيانة الأمانة الملقاة على عاتق الموظف الذي وجد في منصبه أصلاً لخدمة الناس وتيسير اعمالهم ومعاملاتهم ويتقاضى راتبه من اموالهم العامة فإذا به يبتزهم ويحاول اذلالهم تحقيقاً لمأرب شخصيةتعبر عن نفسية وضيعة منعدمة الضمير تغذي نفسها ومتعلقاتها بالمال الحرام متشبثة بحجج واعذار واهية شتى.
الضمير في الفلسفة والأدب:
احتل الضمير مكاناً مميزاً فب الفسلفة والأدب والشعر، نختار في هذا المقام نبذة عنها؛
الضمير عند جان جاك روسو؛
حسب روسو ان الضمير يتقدم على العقل وهو ما يصنع إنسانية الإنسان فهو قوة مضمرة تنبع من أعمق أعمال الإنسانلأنها قوة خفية تسكنه وتوجِّه حياته.
ويناجي روسو هذا الضمير قائلاً: “أيها الضمير، أيها الضمير.. أيها الدليل الوطيد لموجود جاهل محدود.. لولا أنت، ماشعرت بشيء في نفسي يرفعني فوق البهائم، لولا أنت ما شعرت بغير امتياز كئيب من الضلال بين خطأ وخطأ”.
. “إن كلّ ما أحسّه خيراً فهو خير. وكلّ ما أحسّه شرَّاً فهو شرّ.
وخير الفقهاء إطلاقاً حسب روسو هو الضمير.
الضمير عند إيمانويل كانت؛
أسس الفيلسوف الألماني كانت فلسفته في الأخلاق والضمير على ثلاثة أسس كبرى هي: وجود الخالق، وخلود الروح والحرية، واعتبر أنه لا يمكن للإنسان أن يؤسِّس للواجب الأخلاقي من دونها، لأن الواجب الذي يدفع الإنسان أخلاقياًيسمى بالقانون الأخلاقي الذي يسكن الضمير فعلاً، وهذا القانون ليس فطرياً في الضمير وإنما هو نتاج العقل العمليالذي شرّعه. .
بين روسو وكانت؛
نستنتج أن الضمير الذي أرجعه روسو إلى العاطفة الفطرية في الإنسان أرجعه كانت إلى أفعال العقل العملي ومبادئه. وعلى الرغم من هذا الاختلاف في الأصـل، فإن الضمير في الحالتين يبقى القوة الموجهة للسلوك الإنساني سـواءاعتبرناه فعلاً عاطفياً فطرياً أو اعتبرناه فعلاً عقلياً مريداً وحراً.
عالم الإجتماع إميل دوركايم والضمير؛
يرى عالِم الاجتماع الفرنسي دوركايم، أنه كلما أعملنا الفكر لنعرف ما علينا أن نفعل كلّمنا صوت من داخلنا وقال: هذاواجبك. وإذا ما أخللنا بهذا الواجب الذي قُدّم لنا على ذلك الشكل، قام الصوت نفسه فكلمنا واحتجّ على ما فعلنا. ويرىدوركايم أن هذا الصوت العميق فينا هو ضميرنا.
ضمير سيگموند فرويد
يرى فرويد ان الضمير قوة تمارس فعل الكبت وتصنع الثقافة والحضارة.
ولكن السؤال هنا؛ كيف يستقـر صوت المجتمع فينا، ويصنع هذه القوة العميقــة في باطننا التي نسميها الضمير؟
حسب فرويد ومدرسته؛ إن الإنسان في علم النفس التحليلي يحمل في كيانه منظمة نفسية مركَّبة من ثلاث قوى كبرى،هي: الهو والأنا والأنا الأعلى. والطفل بعدما يولد يبقى خاضعاً لسلطة الهو أي قوى الغرائز، ويبدأ الدخول في علاقةخارجية مع الأبوين، وخاصة الأم أولاً من خلال الرضاعة وإشباع الغريزة الضامنة للبقاء والحياة. إلا أن هذه الاستجابةستمارس على الطفل نوعاً من القمع لتنظيم سلوكه بدءاً من سن الثالثة، فلا تستجيب لمطلب غريزته في الحال، وإنماتوجه الغريزة وتؤجل الاستجابة والإشباع كتنظيم وقت الطعام وتحديد مكان إلقاء الفضلات.. وهكذا يبدأ الواقع عنطريق الأم والأب في التسلط وتنظيم قوى الغريزة أي الهو، وإذ بالأنا تبدأ في الوعي بضغوط الواقع وأوامره ونواهيهلتتعلّم الاستجابة له والخضوع إليه. وبتراكم الأوامر والنواهي التي تأتي من خلال الأب، تتكوّن في النفس منظمة ثالثةهي الأنا الأعلى وتستبطن كل القانون الأخلاقي، وتصبح في ذاتها قوة الضمير الموجِّه للسلوك والفعل وعدم الفعل. وهذاالضمير هو قوة نفسية عميقة تمارس فعل الكبت، فتوجه السلوك الإنساني توجهاً إنسانياً بإضعاف الطابع الحيوانيفيه.
الادب والضمير؛
“وأحسنُ ما فيك أن الضميرَ يصيحُ من القلب أني هنا”
محمد مهدي الجواهري
كثير من الروايات العالمية جعلت الضمير الإنساني يتتبع الشخصية ويوقظها، الذي بدوره يوقظ القارئ.
فيودور دوستويفسكي؛
تُعد رواية “الجريمة والعقاب” لدوستويفسكي درساً مهماً في تقديم الضمير. وكذلك الحال بالنسبة ل “الأخوةكارامازوف” التي تقدّم بأكملها مجموعة مبادئ الضمير الإنساني. فشخصية إيفان يسمح لنفسه بحجة إغواء الشيطانبأن يقول ما يفكر فيه، حيث يحدث أليوشا عنه: “لقد سخر مني وذلك ببراعة، ببراعة شديدة قائلاً: الضمير! ما الضمير؟إنني اختلقه بنفسي، فلِمَ أعاني إذاً؟ بحكم العادة، بحكم العادة الإنسانية على مدار سبعة آلاف سنة. دعنا إذاً نتخلصمن العادة، وسوف نصبح آلهة؛ لقد قال ذلك، لقد قال ذلك.
يقول دستويفسكي (ليس الذكاء هو الشئ الهام بل ما يوجه الذكاء ، أي الطبع ، القلب ، النبل ، التقدم).
البير كامو
ألبير كامو في روايته “السقطة”، التي تدور أحداثها في أمستردام وتعتمد على حوار نفسي حميم على لسان شخصيةقاضٍ تائب، يروي للقارئ سيرة حياته بين مدينتي، باريس وأمستردام، مبيناً كيف يشعر بالمتعة والرضا عندما يقدّمنصائحه الودية للغرباء في الطرقات، ويهب الصدقات للفقراء، ويترك مقعده للآخرين في الحافلة، ويمد يده للمكفوفينكي يعبروا الشارع، هذا الرجل النبيل الذي نذر حياته لأجل الآخرين، ولكن مالمه وآرقه هو كيف انه تجاهل امرأة ترتديملابس سوداء، وتنحني على حافة الجسر، ومضى في طريقه بعدما تردَّد لوهلة، ولم يكد يخطو بضع خطوات حتى ضجصوت عنيف في الماء، حيث المرأة قفزت منتحرة، التفت وأراد أن يجري هارباً، لكن قدميه خذلتاه، فتوقف ينصت لصراخغريقة، ثم مضى يمشي تحت المطر ببطء،يعلق أحد النقاد على ذلك بالقول؛ (.... وبالطبع لم يخبر أحداً بذلك، لكنه أخبرنانحن القرّاء بذلك، وصرنا نلاحقه على مدى عقود بجرمه هذا، تماماً كما يلاحقه ويؤنبه ضميره حتى يومنا هذا.
فرجينيا وولف
فرجينيا وولف التي وصفت بانها سيدة الضمير الإنساني العميق تلك التي ربما قادها ضميرها الحيّ ذات ليلٍ إلىضفة النهر، ومضت بعيداً في رحلة أبدية؟
تركت الكاتبة الإنجليزية فرجينيا وولف (1882- 1941) بصمة عميقة في عالم الأدب، بأن رسخت لتيار الوعي وارتادت آفاق الرواية بعيدًا عن أساليب السرد التقليدية في العصر الفيكتوري، فركزت على الحياة الداخلية للشخصيات، حيث يتحقق التأثير النفسي عبر الصور والرموز والاستعارات. ومن أهم أعمالها “مسز دالوي (1925)، و”إلى الفنار (1927)،و”الأمواج” (1931)، ولكن مع التميز الإبداعي هذا عانت فرجينيا وولف، على مدى حياتها، من نوبات انهيار عصبيوجنون، وبعد أن تركت رسالة إلى أختها فانيسا بيل، وأخرى لزوجها ليونارد وولف. تشير الرسالتين إلى أنها في طريقهالقتل نفسها.
ارتدت فرجينيا وولف حذاءها عالي الكعب، ماركة ولنغتون، ومعطفها الفرو، وغادرت منزلها من الباب الأمامي، وعلىضفة نهر أوس أثقلت جيوبها بالحجارة "في مواجهتك أيها الموت، ألقي بنفسي، غير مهزومة ولا مستسلمة".
فيكتور هوگو
فيكتور هوگو، صاحب “أحدب نوتردام” الذي يشد الضمير من ياقته، وينتصر دوماً للضعفاء والمحرومين والمقهورين.
وهو الذي جعل مسيو مادلين في “البؤساء” يتبع ضميره، ليسلّم نفسه للشرطة بصفته جان فالجان، السارق القديم، كيينقذ رجلاً بريئاً متهماً.
رواية البؤساء
تصف البؤساء حياة عدد من الشخصيات الفرنسية على طول القرن التاسع عشر الذى يتضمن حروب نابليون، مركزةعلى شخصية السجين السابق جان فالجان Jean Valjean، ومعاناته بعد خروجه من السجن، حيث تدور أحداث الروايةحول الظلم المُجتمعي الذي تعرض له جان فالجان والذي حُبِسَ ظلمًا لمدة 19 عام لسرقته رغيفًا من الخبز. كما تعرضالرواية طبيعة الخير والشر والقانون فى قصة أخاذة تظهر فيها معالم باريس، الأخلاق، الفلسفة، القانون، العدالة، الدينوطبيعة الرومانسية والحب العائلى.
يقول هوگو (هناك مشهد أعظم من البحار، وهو السماء. وهناك مشهد أعظم من السماء، وهو باطن الروح).
الضمير وعلي الوردي
يقول علي الوردي في وعاظ السلاطين؛
الضمير لايردع الإنسان في عمل ضد عدوه؛ فهو يعتدي عليه ويسفك دمه وينتهك حرمته وينهب أمواله وهو مرتاح الضمير كأنه لم يفعل شيئاً.
ويثير الوردي مسألة ضمير الأمة بالقول (غريب أمر هذه الأمة فالفرد فيها مزدوج الشخصية ، والمجتمع منشق الضمير).
وعن تكوين الضمير يقول الوردي في مؤلفه القيم(لمحات أجتماعية من تاريخ العراق الحديث) ج2؛
("أن (الضمير) في الواقع أمر نسبي وهو نتاج القيم الأجتماعية التي ينشأ عليها الأنسان أو يؤمن بها بعدئذ. ولهذارأينا الكثير من الأخيار والزهاد والصالحين يرتكبون أفدح الجرائم تجاه من يخالفهم في العقيدة وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا").
-----
*استاذ جامعي - النائب الأسبق لرئيس هيئة النزاهة الإتحادية.
848 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع