بقلم أحمد فخري
جمعية الطلبة العراقيين ببريطانيا
كانت جمعية الطلبة العراقيين ببريطانيا هي واحدة من اقدم التجمعات الطلابية التي تعني بشؤون افرادها المغتربين لتقدم لهم المساعدة والدعم وتحثهم على الاخلاص للوطن والعودة اليه بعد التحصيل العلمي. لا اذكر بالتحديد تأريخ تأسيس الجمعية الا انها فرع من فروع الاتحاد العام لطلبة العراق والذي تأسس في 14 نيسان 1948. ولكي احدثكم عن تلك الجمعية، يجب علي ان اقص عليكم بعض المعلومات عن نفسي وكيف تعرفت على تلك الجمعية واصبحت عضواً فعّالاً فيها كي تكون الصورة واضحة وجلية قبل ان يسقط القارئ بدهاليز الشكوك وردود الافعال السلبية السابقة لاوانها.
كما يعرف الكثير من قرائي فقد ولدت في بغداد بوسط الخمسينات من القرن المنصرم لعائلة متوسطة الدخل. لدي 4 اخوات واخ واحد فقط. كان والدي ضابطاَ في الجيش العراقي وكان يتحلى بحس وطني وقومي عالِ. هذا التوجه كان سبباً لان تتبلور افكارنا جميعاً بالعائلة وتصبح مطابقةً لافكار الوالد رحمه الله حيث عاصرنا ثورة 14 تموز بما لها من ايجابيات وسلبيات ادت الى نتائج مأساوية وخيمة للعائلة المالكة رحمها الله. بعدها جائت فترة المرحوم الزعيم عبد الكريم قاسم حيث تمكن فيها شيوعيوا العراق من التنفس قليلاً إذ اصبح لديهم حرية اكبر في فعالياتهم ونشراتهم واصدار جريدتهم اليومية (طريق الشعب). ولأول مرة اصبح لديهم وزراء بداخل الحكومة العراقية. الا ان احداثاً كثيرة جرت وتسارعت في العراق بتلك الفترة جعلت الكثير من العراقيين ينظرون الى الشيوعيين نظرة حقد وكراهية بعد ان وقعت مشاكل كثيرة بينهم وبين باقي اطياف الشعب العراقي في ما تعرف اليوم بمذابح الموصل وكركوك. كذلك تشكيل المقاومة الشعبية وتسليحها ادى الى المزيد من المشاحنات بينهم وبين عامة الشعب. اضافة الى الوازع الديني الذي شكل السبب الاساسي والرئيسي ليجعل من الشيعويين غير مرحب بهم بين صفوف (بعض) طبقات الشعب. انعكست هذه الحالة من التوتر السياسي والفكري على رأيي ورأي افراد اسرتي لنصبح معارضين بل اعداء للشيوعيين بشكل كبير. بقيت هذه الحالة بنفس الوتيرة حتى مجيء البعثيين في مذبحة دامية اخرى عام 1963 ليتطور الامر الى منحى جديد. توالت الحكومات على العراق الواحدة تلو الاخرى حتى عام 1970 حين قررت والدتي ارسالي الى بريطانيا لغرض اكمال دراستي بعد تخرجي من المرحلة المتوسطة. حينها كان عمري 16 عاماً فقط. أدخلت قصراً في مدرسة داخلية في شمال بريطانيا بمنطقة تدعى سانت بيز بالقرب من مدينة وركنگتون بشمال انكلترا. عانيت هناك الامرين من العنصرية المقيتة من قبل زملائي الطلاب كوني كنت الاجنبي الوحيد بالمدرسة. لا اعلم كيف انتهى ذلك العام الدراسي دون ان اصاب بعاهات مستديمة من شدة المعارك التي خضتها في ذلك العام الا انني اتخذت قراراً لا رجعة فيها وهو الانتقال الى مدرسة نهارية ثانية (غير داخلية) والتحول الى العاصمة لندن بعد انتهاء العطلة الصيفية والتي قضيت جلها مع عائلتي ببغداد. عند انقضاء فصل الصيف رجعت من بغداد بعد حصولي على موافقة الوالدة كي انتقل الى لندن بدلاً من المدرسة الداخلية بشمال بريطانيا. وما ان وصلت لندن حتى صرت اتولى امور نفسي بنفسي إذ حصلت على سكن متواضع مكون من غرفة صغيرة تكمن في عمارة سكنية بمنطقة پادنگتون. كذلك سجلت نفسي بمدرسة نهارية جديدة كي اواصل دراستي هناك. استمريت بتلك المدرسة بشكل سلس لمدة سنتين اخريين حين تعرفت وقتها على شاب عراقي يدعى طارق رفيق. كانت علاقتي بطارق متينة جداً لانه انسان طيب، شريف، ذو خلق عالٍ. كان يزورني ببيتي احياناً وازوره ببيته احياناً اخرى، نخرج سوياً لنتجول بالعاصمة لندن عندما تسنح لنا الظروف. استمرت علاقتنا اكثر من سنة حين جائني في احدى المرات وسألني،
طارق : اين تريد ان نسهر اليوم؟
انا : عزيزي كاكا طارق، اليوم هو يوم الاحد وكما تعلم غداً لدي دوام بالمدرسة. هذا طبعاً يعني انني لا اقوى على السهر. لذا دعنا نؤجل الموضوع اليوم.
طارق : لماذا لا نذهب الى جمعية الطلبة العراقيين؟
انا : وهل هناك جمعية للطلبة العراقيين هنا بلندن؟
طارق : اجل انها جمعية عريقة وقديمة جداً، لا اعرف كيف كانت تخفى عليك!
انا : بالحقيقة انا لم اسمع بها من قبل لانني كنت مهتماً بدروسي وليس لدي الوقت كي اضيعه على الجمعيات. وماذا يعملون بتلك الجمعية؟
طارق : اليوم لديهم حفلة يقيمونها في الطابق العلوي باحدى البارات بشارع متفرع من شارع گاور.
انا : بما ان شارع گاور قريب من هنا، دعنا نذهب فقد انتابني الفضول. متى تبدأ الحفلة؟
طارق : عادة حفلاتهم تبدأ في حوالي الخامسة بعد الظهر.
انا : إذاً سنذهب بسيارتي لان العثور على موقف للسيارة سيكون سهلاً هذا اليوم.
حين قاربت الساعة على موعد بدئ الحفلة، اتجهنا بسيارتي الى هناك. اطمئنيت على موقف السيارة في الشارع ودخلنا البار، حيانا صاحب البار الانگليزي فردينا على تحيته وصعدنا الى الطابق العلوي. وبينما نحن نتسلق درجات السلم الخشبي كان صوت الغناء يصلن الى مسامعنا بشكل واضح. وكل ما صعدنا درجة جديدة كان الصوت يتزايد ويرتفع مستواه حتى فتحنا الباب لنجد ما يقرب من 30 شاباً وشابة جلسوا على شكل دائري. كان احدهم يمسك بيده طبلة يعزف عليها الايقاع اللازم للاغنية. الجميع كان يغني معه اغنية لم يسبق لي ان سمعتها من قبل كانت تقول، "يا دجلة الخير يام البساتيني يام الرطب والعنب يام الرياحيني". فوراً وبدون مقدمات لامست كلمات الاغنية اوتار قلبي لانني كنت باوج مستوى الحنين للوطن لذا تفاعلت معها كثيراً وتمنيت لو انني كنت ملماً بكلماتها. صرت اصفق واتمايل معها بكل احاسيسي. عثرت لنفسي على كرسي خالي وجلست عليه بينما جلس صديقي طارق خلفي. وعندما فرغوا من اداء الاغنية صمتوا قليلاً ثم التفتوا الي وصاروا يرحبون بي بحفاوة كبيرة. لقد غمروني باخلاقهم النبيلة وبشاشة وجوههم وطيب قلوبهم. في تلك الليلة تعرفت على احد الاعضاء ممن كان يجلس الى جانبي إذ عرّف عن نفسه وقال ان اسمه حارث عبد الغني. لقد أعجبت كثيراً بروح ذلك الشاب اللطيف وخفة ظله واخلاقه الدمثة. كذلك حاولت ان احفظ اسماء الكثير منهم هناك الا انني فشلت لكثرة العدد. بعد فترة وجيزة انضم المزيد من الحضور الى القاعة واذا بصديقي الحميم فريد شماش يدخل معهم ليصل العدد الى ما يقرب من 40 شخصاً. استغربت جداً لمجيء فريد وسألته،
انا : هل انت عضو بالجمعية؟
فريد : اجل ومنذ امد بعيد.
انا : لماذا لم تخبرني عنها؟
فريد : لم اكن اتصور ان الجمعية ستستهويك.
اذكر انني تعرفت وقتها على شباب آخرين هناك كانت اسمائهم سلم علي وعادل خصباك وعلي الزرجاوي. لم اصدق نفسي وانا اتعرف على تلك المجموعة من الطلاب الخلوقين الطيبين. بقيت اتسائل، "كيف مرت علي كل تلك السنين هنا في بريطانيا ولم يتسنى لي التعرف على الجمعية؟" لا اريد ان اطيل الكلام، فقط اردت ان اصور لك عزيزي القارئ الاجواء الودية التي كانت تسود الحفلة والتي كان لزاماً علينا انهائها تمام الحادة عشر ليلاً لان القانون البريطاني لا يسمح للبار كي يتجاوز تلك الساعة. لكنني شعرت باستياء لانني ساعود من جديد الى عزلتي فسألت احدهم،
انا : متى ستكون حفلتكم القادمة؟
عادل : نحن نجتمع بكل الايام بمقر الجمعية، لكن اغلبية الاعضاء يأتون الى المقر في عطلة نهاية الاسبوع.
انا : هل استطيع ان اتي للجمعية وحدي؟
عادل : بالتأكيد فالجمعية لكل العراقيين.
انا : إذاً ارجوك زودني بالعنوان؟
عادل : اجل بالتأكيد، فالمقر بالقرب من محطة ساوث كنزنگتون.
انا : ساحضر للمقر بعطلة نهاية الاسبوع القادمة.
عادل : على الرحب والسعة.
خرجت برفقة طارق الى السيارة وصرت اقتادها الى بيتي. وفي طريق العودة سألني،
طارق : هل لاحضت كم كان الجميع رائعون؟
انا : اجل، ربما الغربة لعبت دورها. ولكن كيف عرفتهم؟
طارق : انا اعرفهم منذ زمن بعيد فالكثير منهم ينتمون الى الحزب الشيوعي.
بدون اي مقدمات وضعت قدمي على مكابح السيارة لاوقفها بشكل مفاجيء ثم نظرت اليه ورفعت صوتي قائلاً،
انا : مـــــــــاذا؟ هل خدعتني لتأخذني للشيوعيين؟ ما هذا التصرف الفردي منك؟ لماذا لم تخبرني مسبقاً؟
طارق : ما المشكلة يا احمد؟ هل اساؤوا ادبهم معك؟ هل لاحضت شيئاً مشيناً بينهم؟ هل حاول ان يؤذيك احد؟
انا : كلا ولكن...
طارق : اسمع مني يا صديقي، الجمعية ليست للشيوعيين وحسب بل هي للجميع. لكن اغلبية الاعضاء يحملون الفكر الاشتراكي. انا مثلاً لست شيوعياً وحارث الذي كان يجلس الى جانبك ليس شيوعياً. وفريد شماش اليهودي هو ايضاً ليس شيوعياً.
انا : اجل ولكنك تعرفني وتعرف اتجاهاتي القومية. كيف تأخذني الى الشيوعيين؟ لقد ارتكبت شيئاً جللاً.
طارق : قلت لك من قبل، الجمعية للجميع، لولا ذلك لما رحبوا بك لعلمهم انك لا تنتمي الى الحزب الشيوعي.
انا : كلامك صحيح ولكن...
طارق : ولكن ماذا؟ دعني اسألك سؤالاً مهماً، هل استمتعت بوقتك معهم؟
انا : اجل ولكن...
طارق : هؤلاء طلاب عراقيون، بعضهم جاء ببعثة دراسية والبعض الآخر على حسابه الخاص مثلك تماماً، فلماذا تتخذ منهم موقفاً معادياً؟ الم يحين الوقت كي تتخلص من حساسيتك المفرطة؟
انا : الحق يقال، كل من قابلته في تلك الحفلة كان بغاية اللطف والاخلاق الحميدة.
طارق : إذاً اين المشكلة يا احمد؟ لا تكن اعمى البصيرة. هؤلاء ابناء بلدك، كلهم حماس ووطنية ولا يريدون منك شيئاً. انت الذي تريد صحبتهم وتريد ان تستمتع باوقاتك معهم لذلك طلبت عنوان الجمعية من عادل. اليس كذلك؟
انا : لكنني بعد ان عرفت هذه المعلومة فانا سوف لن اذهب الى مقرهم ابداً.
طارق : هذا امر عائد اليك. هم لم يجبروك على زيارتهم في الحفلة بل رحبوا بك عندما زرتهم وسوف يرحبون بك بنفس الحرارة وبنفس الود عندما تزورهم ثانية بمقر الجمعية.
انا : لا اعتقد ذلك. لا اعتقد انني ساعود اليهم ثانية فانا من عائلة متدينة يا طارق ولا يجدر بي ان احتك بالشيوعيين.
رجعنا الى غرفتي فقرر صديقي المبيت عندي حتى اليوم التالي حيث اخذ سيارته من هناك وذهب بها الى عمله بينما ذهبت انا الى مدرستي. وفي المدرسة التقيت بصديق عراقي آخر يسكن بنفس عمارتي اسمه رائد مختار سألني،
رائد : اين سهرت بالامس، لقد لاحظت ان سيارتك لم تكن بمكانها في المراب؟
انا : ذهبت مع كاكا طارق الى جمعية الطلبة العراقيين.
رائد : ربما تقصد الاتحاد الوطني لطلبة العراق.
انا : كلا، كلا، الاتحاد الوطني للبعثيين. انا ذهبت للجمعية التي غالبية اعضائها من الشيوعيين لكن فيها ايضاً اعضاء مستقلين.
رائد : احقاً ما تقول؟
انا : اجل، الا انني قررت ان لا اراهم ثانياً. لأنني لا اريد ان يرتبط اسمي بالشيوعيين.
رائد : لماذا يا اخي؟ في البصرة لدينا الكثير منهم وهم اناس طيبون للغاية. إذا زرتهم ثانية فاريد ان اذهب معك.
انا : لكل حادث حديث، سنرى ذلك.
بتلك اللحظة صرتُ ادمدم مع نفسي اغنية (يا دجلة الخير) التي سمعتها بحفلة الجمعية فاعجب بها رائد وسألني،
رائد : من هو المغني، انا لم اسمع هذه الاغنية من قبل لكن كلماتها ساحرة.
انا : انها قصيدة للشاعر محمد مهدي الجواهري غناها اعضاء الجمعية في الحفلة بالامس.
رائد : ارجو ان يغنوها ثانية عندما نذهب بعطلة نهاية الاسبوع، اريد ان اسمعها انا ايضاً.
انا : ستسمعها يا صديقي فانا اشعر ان هناك مغناطيس كبير يسحبني الى تلك الجمعية بالرغم من كل الحساسية التي تنتابني تجاههم.
رائد : اترك عنك هذه الافكار. نحن جميعاً طلاب عراقيون يغمرنا الحنين للوطن وكما تعلم فصديق الغربة هو بحد ذاته وطن مصغر.
انا : لديك الحق يا رائد. دعنا نزورهم يوم السبت القادم. اعتقد انني قد عدلت عن رأيي.
بيوم السبت تحركنا انا وصديقي رائد بسيارتي الى منطقة كنزنگتون. اوقفت السيارة باحدى الازقة المحاذية ودخلنا مقر الجمعية فقابلنا سلم علي رحب بنا واخذنا الى الطابق الثالث. كنت اصعد السلم وفكرة التراجع مازالت تراودني مع كل درجة اتسلقها. كيف تمكنوا من اقناعي بالمجئ الى هنا؟ كيف استطيع ان اكون خائناً لافكاري القومية والدينية التي ورثتها عن اجدادي؟ ماذا سيقول عني اهلي عندما يعرفون بانني... بانني... اصبحت ازور الاعداء. على العموم ليس لاحد السلطة على قراراتي. سازورهم مرة واحدة فقط وسوف لن اكررها ثانيةً. ذلك افضل، اجل ذلك افضل بكثير. ولما بلغنا الطابق الثالث دخلنا غرفة واسعة صُفّت حولها الكراسي الخشبية. نظر الينا بعض الحاضرين فابتسموا بوجوهنا. هنا سمعت صوتاً مألوفاً لاحدهم يقول، "مرحباً زملاء. اهلاً وسهلاً بكم في الجمعية". كان ذلك صوت عادل خصباك. ابتسمنا بوجهه ورد عليه رأئد قائلاً،
رائد : شكراً لك.
انا : شكراً عادل. هل تذكرتني؟
عادل : اجل بالتأكيد، التقيتك بحفلة الجمعية يوم الاحد الماضي واسمك احمد فخري اليس كذلك؟
انا : اجل هذا صحيح.
عادل : تفضلا بالجلوس يا زملاء، سوف يأتي المزيد من الزملاء فيما بعد.
جلسنا انا ورائد لنرى احد الاعضاء يدخل القاعة حاملاً قدحاً بلاستيكياً فيه شاي، سألته عن المصدر قال ان هناك مطبخاً بالطابق السفلي بامكانك اعداد الشاي بنفسك هناك. نزلت وحدي وعملت قدحين، لي ولصديقي رائد ثم رجعت حاملاً الكأسين ودخلت القاعة من جديد لارى المزيد من الاعضاء قد حضروا اثناء غيابي واخذوا مواقعهم على الكراسي. ولما دخل شاب طويل القامة اسمر البشرة رحب به الجميع بحفاوة كبيرة. جلس ونظر الي ثم قال،
الشاب الطويل : انا اسمي زكريا الصوفي، اود ان ارحب بكما.
انا : انا احمد فخري وهذا صاحبي رائد مختار. نحن نسكن سوياً بنفس العمارة بمنطقة كامدن تاون.
زكريا الصوفي : اهلاً وسهلاً بكما مرة ثانية ولكننا نريدكما ان تساهما معنا بالغناء الليلة.
انا : بالتأكيد سنفعل ذلك لو كنا نعرف الكلمات. لكنني اعجبت كثيراً باغنية كان يغنيها الجميع بحفلة يوم الاحد الماضي عن نهر دجلة. هل تعرف كلماتها؟
زكريا الصوفي : بالتأكيد اعرفها، فهي تكاد تكون شعاراً للجمعية.
انتصب زكريا ودخل غرفة الادارة ليجلب منها آلة الطبلة ثم جلس وراح ينقر عليها باحتراف ويغني (دجلة الخير) بمشاركة جميع من في الصالة. بدأت احفظ مقاطع منها شيئاً فشيئاً لكثر شغفي بكلماتها. اخرجت ورقة وقلم من جيبي وصرت ادون الابيات لكن شاباً نحيفاً اسمر البشرة لاحظ ذلك فجائني واعطاني ورقة طبعت عليها ابيات القصيدة قال،
هاشم : بدلاً من ان تتعب نفسك في الكتابة. هذه هي الكلمات.
انا : شكراً لك يا... يا... ما اسمك؟
هاشم : اسمي هاشم الساعدي.
انا : تشرفت بمعرفتك يا اخي.
هنا همس باذني صديقي رائد وقال،
رائد : لقد فضحتنا يا رجل، هنا لا يقولون (اخي) فالجميع ينادي بعضهم بعضاً بكلمة (زميل).
ادرت رأسي ثانيةً لهاشم وقلت، شكراً لك زميل.
ما هي الى دقائق وصارت الغرفة تفيض باعضاء الجمعية الذين كانت تجمعهم سمات موحدة، (الابتسامة، الطيبة، الاخلاق الرفيعة وحب الوطن). تعرفت وقتها عن اسماء لامعة من رواد الجمعية الدائمين مثل سلام كرمو وسعيد سطيفان وماجد الياسري وليث الحيالي وعلي حسين وباقي الاسماء التي لا تسعفني ذاكرتي على استرجاعها. قضينا بتلك الليلة اجمل الاوقات ثم رجعنا الى البيت ونحن نغني يا (دجلة الخير) و (مالي شغل بالسوق) و(اريد الله يبين حوبتي بيهم). وعندما توقفنا عن الغناء قال لي صاحبي،
رائد : يبدو انك استمتعت كثيراً بسهرة هذه الليلة.
انا : اجل يا رائد الاجواء كانت رائعة والجميع كانوا مرحين للغاية.
رائد : أرأيت يا احمد؟ طلبت منك عدم الحكم على الناس مسبقاً.
انا : اجل انت على صواب. ولكن ربما كانت لديهم غاية في جذبنا الى مقرهم؟
اثارت كلماتي غضب صاحبي رائد فتكلم معي بصوت مرتفع قال،
رائد : لماذا؟ هل تعتقد انك رئيس جمهورية او رجل سياسة مهم للغاية؟ الشباب رحبوا بنا بشكل جميل وباخلاق لا تضاهى. هل طلبوا منك ان توقع على شيء او تقدم شيء؟ هل ارادوا ان يضموك للـ KUTV؟
انا : وما هي الـ KUTV؟
رائد : الشيوعية لكادحي المشرق.
انا : كلا.
رائد : إذاً على رسلك يا احمد ولا تظلم الناس بشكوكك.
كانت كلمات صاحبي صادمة للغاية وعلمت وقتها انني كنت ضحية لمجتمعي الذي قرر توجيه تفكيري والتحكم به بدلاً عني. علمت انني احببت الجمعية وانني ساستمر بالذهاب اليها والتمتع بفعالياتها مهما كلف الامر.
بمرور اكثر من شهرين وبعد دوام متواصل مني للجمعية دخلت يوماً المقر ثم الى غرفة الادارة فوجدت الزميل سلم علي جالساً على الطاولة منهمكاً بالكتابة على ورقة امامه. حييته وسألته،
انا : مساء الخير زميل، يبدو انك مشغول بشيء!
سلم : اجل، انا اسجل اسماء الاعضاء الراغبين في الرحلة الى مانشيستر في الاسبوع المقبل.
انا : احقاً ما تقول؟ وهل بامكاني ان انضم الى الرحلة؟
سلم : انا آسف، الرحلة معدة للاعضاء فقط، وانت لست عضواً.
انا : وما هي شروط العضوية؟
سلم : الشروط هي ان تملاً قسيمة الاشتراك وتدفع مبلغ جنيه ونصف كاشتراك سنوي.
انا : واين اجد قسائم الاشتراك؟
مد يده الى دولاب حديدي صغير خلفه ليخرج منه ورقة مطبوعة وضعها امامي. اطلعت عليها فوجدت فيها معلومات اساسية كالاسم والعنوان والمؤسسة التي ادرس بها الى ما ذلك. دونت المعلومات ثم اعطيتها اليه مع جنيه ونصف وقلت،
انا : هذا هو اشتراكي. والآن ارجوك سجلني بالرحلة.
سلم : الآن اصبحت عضواً بالجمعية يا زميل.
سمعت كلماته كما لو كان قد منحني الدكتوراه. كنت اشعر باعتزاز كبير لانني اصبحت انتمي لتلك المجمع الطلابي الرائع فاجبته،
انا : شكراً لك زميل. انا جداً سعيد لانتمائي.
سلم :اجل ولكن الانتماء لا يعني هذه الورقة وحسب. فلكل شيء تبعات. وتبعات عضو الجمعية ان يتحلى بالاخلاق الرفيعة لكي يمثل الجمعية العريقة التي هي فرع من الاتحاد العام والذي تأسس عام 1948. وكما رأيت في الفترة الاخيرة فان جميع الاعضاء يتحلون بالانضباط الخلقي والالتزام بالوطنية العالية. وانت كذلك اثبت بالفترة نفسها انك اهلاً لان تكون عضواً مثالياً فيها. فلا تخيب آمالنا فيك يا زميل احمد.
انا : بالتأكيد ساكون مثال العضو الذي تُرفَع به الرؤوس.
بهذه الاثناء دخل علينا رئيس الجمعية رائد فهمي بصحبة زكريا الصوفي فسأل زكريا،
زكريا : ما الامر يا سلم، ماذا تفعلون؟
سلم : اخيراً جاء احمد بنفسه ووقع بالفخ إذ تمكنا من ابتزاز جنيه ونصف منه.
ضحك الجميع على تلك الدعابة فاضاف زكريا،
زكريا : اليوم انظمت اغنية على وزن اغنية المطربة صباح (فنجان قهوة). اعطني الطبلة ودعنا نبدأ الاحتفال بالزميل احمد.
خرجنا من غرفة الادارة وجلسنا في الصالة الرئيسية حيث جلس ما يقرب من 30 عضواً هناك. امسك زكريا الطبلة وبدأ النقر عليها وراح يغني، "مادام جيت عَل جمعية، لازمت تدفع عضوية، ماراح اتكلفك كثير، باون ونص.. استمــــارا.. والڤي اي تي.. جيگارة".
بعدها غنى اغنية مرحة اخرى كان مطلعها، "رائد فهمي وعادل خصباك مضروب الچلوة، رائد يقبل بالبخشيش وعادل بالرشوة. وسلم هذا هالسني يقاطعني لما اغني. صاير دكتاتور براسي ومخنث هوة".
كانت الاغاني التي يؤلفها زكريا ممتعة للغاية لانها تمتاز بخفة الدم ولا تجرح المشاعر ابداً. بذلك اليوم استمرينا حتى ساعة متأخرة من الليل ثم عدت الى منزلي وانا في غاية السعادة. وبعد اسبوع من ذلك التاريخ تجمعنا بمكان محدد بالقرب من الجمعية، كان عددنا يقرب من 40 شخصاً فركبنا الحافلة التي توجهت الى مانچيستر. كانت الرحلة ممتعة للغاية لان الجميع كان يساهم بالغناء خصوصاً وان حامل الدنبك كان نفسه ضابط الايقاع وسيد الموقف. وصلنا مدينة مانچيستر بعد حوالي ساعتين ونصف. فوقفت الحافلة بمجمع طلاب في جامعة مانچيستر ودخل علينا الحافلة ثلاثة شبان من افراد الفرع فعرفونا بانفسهم. لا اذكر اسمائهم الآن لكن احدهم كان ابيض البشرة اشقر الشعر يدعى مارتن. راح الافراد الثلاثة يصيحون اسماء المجاميع التي سيتولون اقتيادهم الى غرفهم السكنية. كنت انا في المجموعة التي تبعت مارتن. مارتن هذا يتحلى بخلق عال جداً ادخلنا الواحد تلو الآخر في الغرف المخصصة لنا حتى وصل الى عندي انا وزميلي حارث لاننا كنا آخر المجموعة. ادخلنا الى غرفتنا وقال،
مارتن : هل هناك شيء آخر تحتاجانه؟
انا : ابداً، لكني اود ان اسألك سؤالاً واحداً فقط لو سمحت، فلون بشرتك ولهجتك توحي بانك من الموصل اليس كذلك؟
مارتن : كلا، هذا ليس صحيحاً.
انا : هل انت من بغداد؟
مارتن : كلا.
انا : هل امك انكليزية وابوك عراقي؟
مارتن : كلا.
انا : إذاً ابوك انكليزي وامك عراقية؟
مارتن : كلا.
انا : بالتأكيد انت عشت بالعراق فترة طويلة حتى تعلمت الجلفي.
مارتن : انا لم ازر العراق ولو مرة واحدة بحياتي.
انا : إذاً كيف تعلمت اللغة العربية واللهجة العراقية بهذا الاتقان؟
مارتن : تعلمتها من زملائي العراقيين هنا بمانچيستر.
حارث : ايعقل ذلك. انت انكليزي ابن انكليزي وتتكلم اللهجة العراقية النقية؟ انت حقاً شاب عظيم. احييك يا زمبلك.
ملاحظة هنا: نحن ولغرض المزاح كنا نحور كلمة (زميل) الى (زمبلك). ليس لغرض الا كطرفة جميلة.
لكن يبدو ان مارتن لم يفهمها كونه انكليزي الاصل. فسأل،
مارتن : وما معنى زمبلك؟
حارث : انه القرص الذي في ساعة اليد.
مارتن : ولماذا تسميني قرص ساعة اليد؟
بدأنا بالضحك وقلنا ان كلمة زميل قريبة من كلمة زمبلك. انها فقط مزحة.
صار مارتن يبالغ بالضحك معنا بصوت عالِ ثم اقفل الباب ورائه. بعدها سمعناه ينادي جميع اعضاء الجمعية بـ (زمبلك).
بتلك الليلة دخلنا قاعة كبيرة حضر فيها ما يقرب من 150 شخصاً جلهم كانوا من اعضاء الجمعية لكل فروع بريطانيا. كانت السمة العامة لدى الجميع هي الابتسامة والطيبة والاخلاق الرفيعة. اما فرع مانچيستر فكان اعضائه يبالغون بالترحيب بجميع المشاركين ويفعلون كل مافي وسعهم لتوفير العون والمساعدة لاعضاء باقي الفروع. وبعد ان هدأت العاصفة وجلس كل المشاركين، افتتح رائد فهمي رئيس الجمعية المهرجان بالترحيب بجميع الحضور وتمنى لهم اوقاتاً ممتعة مفعمة بالفعاليات التي اعدت لتلك المناسبة. لم يبخل الفرع المضيف بتقديم العروض الشيقة والاغاني العراقية التي تبعث بالامل والتمسك بالوطن والوطنية الصرفة. وقتها سمعت اغنية (عمي عمي يابو مركب يابو شراع العالي) للمرة الالى وقد اعجبتني كثيراً. كذلك سمعنا اغنية جديدة اسمها (مگبعة ورحت امشي يمة بالدرابين الفقيرة). كانت تمس الروح والامل بالرغم من انها كانت مخصصة للشيوعيين. لكنني بتلك اللحظة كنت قد تخلصت من الحساسية التي كانت تنتابني وتلازمني منذ طفولتي وصرت انظر للشيوعيين على انهم شركاء وطن حتى وان لم اكن اشاركهم بالفكر وكما يقول المثل، (الاختلاف بالرأي لا يفسد للود قضية). اصبحت انظر اليهم كزملاء ورفقاء درب نحو عراق افضل. رجوعاً للاحتفال فقد كان اكثر من رائع وكنا شاهدين على حرب الفروع الهزلية. فكل فرع من فروع الجمعية اعد اغنية خاصة به يمجد فيها فرعه وتغلبه على باقي الفروع.
بعد مرور يومين انتهى المهرجان بحفل توديعي جميل فرجعنا الى لندن بالحافلة نغني الاغاني الجديدة التي مرت على مسامعنا والتي كنت اشارك بغنائها معهم وانا في كامل الغبطة.
بعد مرور بضع شهور اي بشهر ايلول أعلن بالجمعية عن تنظيم رحلة الى باريس للمشاركة بمهرجان لومانتيه Fête de l'Humanité
اعتقد انني كنت من الاوائل ممن سجل اسمه للذهاب في تلك الرحلة لانني سبق وان زرت باريس مرة واحدة الا انها كانت سفرة فردية. هذه المرة ساذهب اليها مع كوكبة من زملاء الجمعية. وبيوم السفر ركبنا القطار الذي اقلنا الى مدينة دوڤر ومن هناك بالباخرة الى ميناء كاليه بالاراضي الفرنسية حيث كانت الحافلات تنتظرنا لننطلق بها الى العاصمة باريس. دامت رحلتنا حوالي ثلاث ساعات لم تكن لتهز عزائمنا لاننا كنا بنفس الروح المعنوية والجمال المرح الذي ينتاب جميع اعضائنا. دخلنا باريس بعد الظهر لتوصلنا الحافلة الى الفندق (من الدرجة المتدنية جداً) حيث وجدنا شباباً (طلاب الجمعية فرع فرنسا) ينتظرونا هناك ويقومون بتوزيعنا على الغرف المخصصة لنا. كان كل اربعة طلاب يتشاركون بغرفة واحدة. اخبرنا المنظم وقتها ان عنوان المهرجان سيكون فوق الطاولة بداخل جميع الغرف وعلينا ان نتولى الانتقال الى هناك بانفسنا. بتلك الليلة خرجت مع صديق اسمه فواز ممن ترك العراق منذ ان كان رضيعاً ، لذا كانت لغته العربية متواضعة جداً. خرجنا بحثاً عن الطعام فلم نجد أي مطعم مفتوح بتلك الساعة في محيط الفندق لذا اردنا ان نشتري الطعام من احدى المتاجر القريبة (سوپر مارشيه). دخلنا المتجر الذي تديره عائلة عربية على ما يبدو وصرنا نتفحص المنتجات الغذائية خوفاً من لحم الخنزير. امسكت بشيء يشبه السجق فقال صاحبي انتبه، هذا لحم خنزير. قلت له كلا هذا جبن. قال إذاً دعنا نسأل البياعين يبدو عليهم عرب. فقلت له انتظر سأسألهم انا قال، وهل تعتقد انني لا اجيد العربية؟ انظر كيف سأسألهم بنفسي، امسك بالسجق وسأل الرجل،
فواز : اگلك ماذا هذا؟
رد عليه البياع بلهجة مغربية قال،
البياع : يرحم بوك ما نفهمش عليك گاع.
فواز : سألتك ماذا هذا؟ الا تفهم العربية؟
البياع : اني نفهم العربية بزاف لكنني منفهمش عليك.
هنا ضحكت وطلبت من فواز ان يتنحى جانباً فسألت الرجل بنفسي قلت،
انا : هل هذا السجق من لحم الحلوف؟
البياع : كلا انها جبنة. اطمئنوا.
صار الجميع يضحك. فاشترينا منهم الخبز كذلك وبعض علب تحتوي على عصير الفواكه ورجعنا الى الفندق كي نتناول طعامنا استعداداً للذهاب الى المهرجان باليوم التالي.
نبذة سريعة عن المهرجان
تم إنشاء جريدة لومانتي في عام 1904 من قبل الاشتراكي الفرنسي جان جوريس، لكن أول مهرجان اعدته جريدة لومانتي حدث في ايلول 1930 لجمع الأموال للصحيفة وحضره 1000 شخص. في عام 2010، اجتذب المهرجان 600 ألف زائر. تم تسجيل رقم قياسي جديد في عام 2018، عندما شارك 800 ألف زائر في المهرجان.
باليوم التالي خرجنا من الفندق متوجهين الى موقع المهرجان بعد ان اخذنا العنوان معنا. ولما اصبحنا على مرمى عصى من بوابته شاهدنا جمعاً غفيراً من الناس من كل الاعمار يهمون بالدخول.
دخلنا المهرجان فرأينا اكشاك مصفوفة بشكل منسق على طرفي الممر واناس يعزفون الموسيقى الافريقية ويغنون ويرقصون بتجمعات كبيرة. تابعنا السير بالممر حتى اعترضتنا مجموعة من الشبان كانت تقدم الزهور مجاناً للمشاركين. فوق كل كشك وضعت يافطات تحمل اسم الجريدة المشاركة بالمهرجان. بقينا نسير فترة لا بأس بها حتى رأينا من بعيد جريدة الثورة العراقية. مررنا من امامها مرور الكرام ثم بانت لنا يافطة طريق الشعب الجريدة المشاركة بهذا المهرجان. قربنا منها لنجد ترحيباً كبيراً من المنظمين والكثير من زملائنا اعضاء الجمعية فرع لندن. فسألني عادل خصباك،
عادل : هل تريد المشاركة بالفعاليات ام تفضل التسكع بالمهرجان؟
انا : اريد ان اتجول قليلاً بالمهرجان مع صديقي فواز ثم نرجع ونقوم بتقديم المساهمة.
تركنا الكشك الذي اصبح مقرنا الدائم اثناء الرحلة وصرنا نتجول بداخل المهرجان. في الطريق صادفنا كشك لجريدة الجمهورية العراقية وجريدة الاهرام المصرية.
وبينما كنا نتجول بالممرات شاهدنا مجموعة كبيرة من طلاب شيلي يحملون يافطات مناهضة لحكومتهم الدكتاتورية وقتها ويهتفون: (ايل بويبلو يونيدو خما سيرا ڤنسيدو)
El pueblo unido jamás será vencido
انه هتاف باللغة الاسبانية ويعني (الشعب الذي يتحد، لا يمكن ابدأ ان ينهزم). تبعناهم قليلاً وصرنا نهتف معهم بلغتهم ففرحوا بنا وطبطبوا على اكتافنا. بعد ان اكملنا المسير معهم قليلاً، تركناهم وواصلنا السير. كانت اعداد المشاركين في تزايد كبير إذ في بعض الاحيان كنا نصطدم بهم اثناء المسير ونقدم لهم اعتذارنا على الطريقة الفرنسية فنقول (پاردون). واصلنا جولتنا بين الجموع الغفيرة لما يقرب من ساعتين نال منا الجوع القاتل والتعب المضني، قررنا وقتها الرجوع الى مقرنا. ولما اصبحنا قاب قوسين او ادنى من المقر صرنا نشم رائحة قوية اثارت كل غرائزنا الوطنية. انها رائحى الشواء القاتلة. كان الزملاء يهمون بشواء التكة والكباب ويبيعونها للحضور. سألني عادل إن كنت اجيد الشواء فاجبته بالايجاب، لذا استلمت منه المروحة اليدوية (المهفة) وزاولت المهنة وكأنني محترف عتيد، تعلمت منه وقتها جملة طويلة بالفرنسية لجذب الزبائن وجعلهم يشترون مني. رحت اصرخ باعلى صوتي venez goûter nos brochettes de kebab. بمعنى تعالوا وجربوا اسياخ الكباب. بقيت اشتغل بمهنة الـ (كببچي) حتى ساعة متأخرة من ذلك اليوم.
ولما حل الظلام وبدأ الليل يعسعس، كنت وقتها قد استنفذت كل طاقاتي الجسدية قررت الرجوع الى الفندق. بحثت كثيراً عن رفيقي فواز بداخل المهرجان حتى لمحته من بعيد وهو يكلم فتاة فرنسية جميلة ترتدي نظارة طبية. سحبته من يده وطلبت منه ان يعود معي الى الفندق الا انه ابى وقال ان فرصة مثل تلك لا تعوض ولا تتكرر كل يوم وانه لا يريد ان يعود خالي الوفاض. تركته بوسط الزحام وخرجت من ساحة المهرجان لاعود وحدي الى الفندق. ما هي الا نصف ساعة ودخل عليّ فواز الغرفة قائلاً، "يبدو ان حظي قد نفذ اليوم فالفتاة كانت تريد استجداء سيجارة وحسب، مع انني لم اكن من المدخنين". لم نصدق اننا اخيراً سنخلد لنوم طويل هادئ بعد ذلك اليوم المضني.
باقي الايام كانت مشابة لليوم الاول حتى مرت وانتهت ثلاثة منها بين اعداد الكباب والتسكع بداخل المهرجان حتى حل موعد العودة الى ارض الوطن (لندن). ركبنا الحافلات وعدنا مكسوري الخاطر محطمي القلب ينتابنا الحزن على ترك مدينة باريس الجميلة والاوقات البهيجة التي قضيناها فيها فعدنا بذلك الى قواعدنا سالمين.
بعد استراحة دامت اربعة ايام زرت مقر الجمعية بمفردي هذه المرة لاجد نفسي بداخل مطبعة كبيرة لم اعهدها من قبل. فبينما كان عادل وهاشم بغرفة الادارة يطبعون على آلالة الكاتبة ويدورون آلة الرونيو، جلس رائد فهمي بالقاعة الرئيسية مع سلم علي ينضدون ويجمعون صفحات المجلة بشكل منتظم. كان تناسقهم يبعث الاعجاب لانهم يعملون كخلية النحل، كل واحد منهم كان يقوم بدوره بجد واجتهاد كبيرين. جلست قليلاً وانا اتفرج عليهم لكن الخجل صار يتلبسني. لذا عرضت ان اقوم بالمساهمة فوافقوا واعطوني رزمة ورقية كبيرة وطلبوا مني تجميعها بصورة بحيث تتجمع الصفحات بالتسلسل الصحيح. جلست باحدى زوايا الغرفة وبدأت اقوم بعملي فنظر الي سلم وقال،
سلم : ما هذا يا احمد؟ يبدو انك بطيء جداً. فالوقت الذي تستغرقه لتجميع عدد واحد اقوم انا بتجميع ثلاثة اعداد.
انا : هذا هراء. انا اسرع منك يا سلم.
سلم : حسنا لدي طريقة لقياس السرعة. نبدأ بتجميع عدد واحد بنفس الوقت والذي ينتهي من آخر صفحة يقوم بالتصفيق.
انا : انا موافق.
بدأنا سوياً لكنه بطبيعة الحال سبقني باول نسخة والثاني والثالثة لكنني سرعان ما لحقت به وبعد ما يقرب من 7 نسخ سبقته بالتجميع. كان ذلك يملأني فخراً واعتزازاً لانني كنت اساهم بتلك الفعالية الممتعة. وبعد ان انتهينا من تجميع كل الاعداد صرنا نكبسها بالدبابيس ونعدها للارسال الى فروعنا ببريطانيا. بذلك اليوم رجعت الى بيتي تنتابني الفرحة لانني حققت شيئاً لباقي زملائي بالجمعية. رجعت واخذت معي نسختين من المجلة، واحدة لي وواحدة لصديقي رائد. فور دخولي الغرفة هممت بقرائة المجلة واستمتعت بالمقالات التي كانت تحتويها فقد كانت مليئة باخبار رحلات الجمعية واخبار الوطن وبعض القفشات والقصائد الساخرة وما الى ذلك. وعندما سمعت صعود جاري رائد على السلم قابلته واعطيته نسخته كي يقرأها هو الآخر.
بعد مرور بضع شهور على هذه الحادثة دخلت الجمعية ومن ثم غرفة الادارة فوجدت الزملاء منهمكين بعمل ما فسألت هاشم،
انا : ماذا تعملونه يا هاشم؟
هاشم : نحن نستعد لعملية انتخابات الجمعية. سوف نقوم بتجميع اسماء المرشحين ثم نعرضها للتصويت وبذلك نكون قد شكلنا اللجنة الادارية الجديدة للجمعية.
انا : وطبعاً انتم تعلمون مسبقاً من الذي سيفوز وعلى اي منصب سيعلو. اليس كذلك؟
هاشم : كلا هذا كلام خاطئ جداً. فاي عضو من الاعضاء لديه الفرصة ان يترشح ويبقى الامر راجعاً للتصويت.
انا : وطبعاً كشرط اساسي يجب ان يكون منتمياً للحزب اليس كذلك؟
هاشم : لقد اخبرناك مراراً وتكراراً، الجمعية لا تنتمي لاي جهة سياسية. الم تتيقن من ذلك بعد؟
انا : ربما، ولكن عندما تصل الى المراكز القيادية فسوف تكون هناك تفاضلات.
هاشم : ابداً هذا كلام غير صحيح. انت انسان مستقل ولا تنتمي لاي جهة حزبية اليس كذلك؟
انا : اجل هذا صحيح.
هاشم : لماذا لا تتقدم للترشيح. وإذا فزت بالانتخابات في المؤتمر فستكون من اللجنة الادارية.
انا : ومن سيزكيني لكي اترشح؟
هنا تطوع عادل خصباك وقال،
عادل : انا سازكيك يا احمد.
انا : وعلى اي منصب ستزكيني؟
عادل : بما انك تسكن بمنطقة غرب لندن فبامكاني ترشيحك على منصب سكرتير فرع غرب لندن. ما رأيك؟
انا : وهو كذلك. ارجوك قم بالترشيح فوراً.
لا اريد ان اطيل عليكم. فقط اقول انني كنت مرشح لمنصب سكرتير فرع غرب لندن وكان هناك ثلاثة اعضاء ممن تقدموا لذلك المنصب. لكن الاغلبية صوتوا لصالحي أثناء المؤتمر العام ففزت انا به. كان ذلك بمثابة نيشان وميدالية براقة وضعتها على صدري لانها مهمة وليست منصباً سياسياً سيجعلني اقدم اكثر للعمل الطلابي. كنت افتخر كوني احمل ذلك المنصب وصرت اقدم الكثير من المساهمات والفعاليات المناطة بي.
اغلاق الجمعية
في احدى الايام من سنة 1979 ذهبت كعادتي الى مقر الجمعية كي اجتمع بالزملاء هناك. لكنني عندما وصلت الى الطابق الثالث وجدت الباب موصداً بقفل كبير. استغربت كثيراً ورجعت الى الطابق الثاني لادخل المطبخ فوجدت رجلاً سودانياً اسمه عبد اللطيف يعد لنفسه الشاي سألته،
انا : لقد ذهبت للتو الى الطابق الثالث فوجدت باب الجمعية موصدأ بالقفل. هل لديك علم بذلك؟
عبد اللطيف : اجل، لقد أغلقت الجمعية.
انا : ومن الذي اتخذ القرار؟
عبد اللطيف : اعضاء الهيئة الادارية. قامو بغلق الباب ليلة البارحة.
انا : وكيف حصل ذلك وانا عضو بالهيئة؟ كيف يغلقونها من دون علمي؟
عبد اللطيف : لا اعلم يا صديقي ولكن هذا ما قالوه لي.
انا : ساذهب الى بيت عادل خصباك وساستفسر منه عن الموضوع.
نزلت مسرعاً لاخذ سيارتي واتوجه بها الى منطقة غرب لندن. وعندما وصلت منزل عادل فتح لي الباب وادخلني غرفة الصالة كي اجلس. سألته،
انا : سمعت اليوم من عبد اللطيف ان الجمعية قد أغلقت. ما الامر ولماذا لم تخبروني بذلك؟
عادل : اسمع مني يا احمد. لقد اغلقت الجمعية بسبب احداث مؤسفة وقعت ببغداد ادت الى انحلال الجبهة الوطنية. لذلك حفاضاً على مصلحة الشعب قامت ادارة الاتحاد العام الذي تنتمي اليه الجمعية باغلاق جميع فروعها بالداخل والخارج. انا آسف.
انا : هل سيكون الاغلاق موقتاً؟
عادل : لا اعتقد ذلك. الاغلاق دائمياً.
انا : مستحيل، في الوقت الذي صرت استمتع بالعمل الطلابي اغلقتم علينا الجمعية. ما هذا يا عادل؟
عادل : هذه ضريبة كوننا عراقيين يا زميلي. فالسياسة تتحكم بحياتنا حتى لو كنا خارج الوطن. مع شديد الاسف.
خرجت من بيت عادل وانا محبط بشكل كبير شعرت وكأنني فقدت احد اعضاء عائلتي. الجمعية كانت حقاً بمثابة الاسرة لي ولجميع اعضائها. وبذلك ودعت فصلاً مهماً من فصول حياتي الذي كان مفعماً بالسعادة والإثارة والعمل الدؤوب.
استنتاج
لو انني خضت تلك التجربة تحت جناح الجمعية دون ان اخرج باستنتاجات ايجابية، فالحق اقول لكم انني اكون قد اضعت وقتي بامور لا تعدو ان تصنف كوسيلة للترفيه. الا انني عندما اعود بالذاكرة الى الماضي واتذكر تلك الايام، اراجعها وكأنها شريط ڤديو بكل احداثها وتفاصيلها الجميلة ثم اعود الى الحاضر فانحب القرار الذي جعل الاتحاد العام يغلق جمعيتنا بعد تطورات سياسية وقعت بداخل الوطن.
تجدر الاشارة هنا الى اني كنت في السابق انظر الى الشيوعيين على انهم اعدائي واعداء الله. والانظمة المتتالية قامت بشيطنة الشيوعيين وحولتهم الى مجموعة وثنية من احفاد ابو لهب. لكنني وبعد الاحتكاك بهم بشكل مستمر ومقرب صرت اتذكر مواقفهم الوطنية الشريفة وتكاتفهم معي ومع الاعضاء الذين لم يحملوا افكاراً ماركسية على حد سواء. ذلك غير من تفكيري بشكل ملفت للنظر فاصبحت اراهم كعراقيين مساوون لي بالمواطنة بل حتى يستحقون كل احترام وتقدير. كونهم يختلفون عني بالفكر السياسي فذلك لن يغير من شيء. اليوم وبعد مرور ما يقرب من 40 سنة على الجمعية ارى ان الشيوعيين في العراق عادو الى الساحة السياسية مكللين بالاحترام من قبل الشعب وباقي التيارات السياسية. فقد شاركوا بالعمل السياسي محاولين ان يقدموا مجهوداً كبيراً حتى ينتشلوا الوطن من المستنقع الكبير الذي أطمستنا به امريكا جراء احتلالها وتدميرها للبنية التحتية ونشرها للفساد والتفرقة الدينية والطائفية والمحسوبيات والعشائريات مع الاحتفاظ لنفسها بموارد البلاد الطبيعية كي تستغلها بشكل بشع. الموضوع لن يتوقف عند ذلك بل فتحت الباب على مصراعيه لايران كي تدخل وتعبر الحدود بسلطة مطلقة وحشية تمول العصابات الطائفية وتشجع العشائرية القبلية التي ارجعت العراق مئات السنين الى الوراء. حجم الخراب والدمار الذي خلفته ورائها ترك العراق في مأزق لا يمكن ان يسترجع عافيته ولا حتى بمئات السنين. إن كنا قد نجونا من هولاكو ووحشيته قبل قرون فإننا سوف لن ننجو مما خلفته امريكا وايران وباقي دول الجوار التي لا تريد للعراق ان يتقدم ويعود الى مرتبته الرفيعة. رحنا نعاني من المحاصصة التي لم يشرعها الغرب لنفسه. لكنه وجدها ملائمةً كي يحشرها ببلعومنا.
كلمة اخيرة اود ان اقولها للتاريخ: عندما نقول الحزب الشوعي فاننا نفكر بكيان واحد كما لو كان شخصاً واحداُ. وهذا ما سيقحمنا في طائلة الحكم الخاطيء. لان الحزب الشيوعي وقياداته واعضائه السابقين ارتكبوا قرارات خاطئة كثيرة اتخذوها في الماضي بشكل عفوي جعلهم يقترفون حماقات جسيمة وبعض جرائم ما كانوا ليقترفوها لو كانو بنفس عقلية شيوعيي اليوم. لذلك يجب ان لا نحمل الابناء ذنوب الاباء خصوصاً واننا نؤمن برب العزة حين يقول: (لا تزر وازرة وزر اخرى). واليوم وانا اتابع مسيرة السيد رائد فهمي الذي بالامس كان رئيساً للجمعية ليصبح اليوم السكرتير العام للحزب الشيوعي العراقي. ذلك الرجل المثقف النزيه الرائع الذي انتخب كوزيراً للعلوم والتكنولوجيا عام 2006 فقد انتابني شعور بالفخر والاعتزاز عندما سمعت احد المواطنين على احدى القنوات الفضائية يقول ان هذا الانسان لم يسرق بقيد دولار واحد ولم يستغل منصبه كما صارت من العادات والامور المسلم بها لوزرائنا الحاليين. احييه واحيي جميع اعضاء الجمعية القدامى الاحياء منهم والاموات واقول لهم: كنتم نعم الزملاء ونعم شركاء الوطن.
1268 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع