ولاء سعيد السامرائي
تشظي المشهد السياسي الفرنسي !
أدت نتائج الانتخابات التشريعية الفرنسية للجولة الثانية الى مشهد سياسي غير مسبوق في تاريخ الجمهورية الخامسة، فقد فشل الرئيس ايمانويل ماكرون الذي انتخب قبل شهر من الحصول على الأغلبية البرلمانية في هذه الانتخابات بل انه أصبح اقلية مع 245 مقعد فقط في الجمعية الوطنية وهي سابقة لم تحدث لاي رئيس من قبله. وحصل تحالف اليسار المسمى بالاتحاد الشعبي البيئي والاجتماعي على 141 مقعد والتجمع الوطني بزعامة مارين لوبن على 89 مقعدا، اما اليمين التقليدي المتمثل بالجمهوريين فقد نال 64 مقعدا. وقد سجل الامتناع عن الذهاب للانتخابات مرة أخرى رقما قياسيا اكبر من انتخابات الدورة الأولى اذ وصل الى نحو 54% بينما وصل في الجولة الأولى الى 39.42%.
وقد وصف السياسيون الفرنسيون كما الكثير من وسائل الاعلام هزيمة ماكرون للأغلبية بانها صفعة قوية اولا لطريقة حكمه الفردية واتخاذه لقرارات تهم الشعب الفرنسي دون العودة للبرلمان وقد تجلى ذلك بالأخص في إدارة جائحة كورونا. فقد شكل ماكرون دون الرجوع الى البرلمان مجلس دفاع صحي بدل تشكيل هيئة من الأطباء والاختصاصيين الذين تمت محاربتهم ومعاقبة بعضهم طوال فترة الجائحة وتمت معاقبتهم وارسال بعضهم الى التقاعد او تحديد مهامهم ومنعهم من الكلام عن الجائحة وكيفية مواجهة الفيروس وعما يحصل، بل ان غالبية الفرنسيين كانوا ضد طريقة إدارة الوباء وكثرة الثغرات والادعاءات غير الصحيحة حول الأقنعة واللقاحات والحجر وطريقة التعامل مع الكادر الصحي وبالأخص الممرضات. ورغم دعوة بعض الأحزاب مناقشة ادارة جائحة كورونا في البرلمان ومشاركة النواب في طرح حلول لمواجهة أي صعوبات الا ان ماكرون ابدى وبشكل غريب رفضا لذلك ، فقد أراد ان يدير الوضع لوحده مع من يختارهم من عسكريين في مجلس الدفاع الصحي بعيدا عن اعين النواب وممثلي الشعب. ليس ذلك فحسب بل لقد أظهرت النتائج التشريعية للدورة الثانية رفضا واسعا وعدم ثقة الشعب الفرنسي ببرنامج ماكرون النيوليبرالي الذي تفرض "اصلاحاته" غير المرحب بها على الفرنسيين من الأعلى دون الرجوع الى ممثلي الشعب في البرلمان او التشاور مع الأحزاب والكتل البرلمانية وذلك منذ وصول ماكرون للرئاسة دون الالتفات الى عدم قبول هذا البرنامج شعبيا وبشكل واسع.
شهدت هذه النتائج التشريعية صعود اليمين المتطرف بقيادة مارين لوبن اذ وصلت مقاعدة الى 89 مقعدا وذلك في زيادة ملحوظة ومعبرة، وقد اعتبر جان لوك ملينشون ونوابه وحلفاؤه وهم على حق ماكرون وبرنامجه سببا لصعود اليمين المتطرف الذي قام الاعلام بالترويج له قبل الحملة الانتخابية ووضعه كمنافس وحيد للرئيس للفوز بالانتخابات بهذه الطريقة. اما الكتلة الثانية فهي تحالف اليسار او الاتحاد الشعبي البيئي والاجتماعي والتي فازت ب 141 مقعدا لكنها لم تحصل على الغالبية البرلمانية التي طمحت لها. ورغم ذلك ربما يكون هذا التحالف الذي حقق فيه حزب جان لوك ميلنشون رئيس حزب فرنسا غير الخاضعة زيادة في المقاعد ليصبح من اهم الكتل التي وصلت الى البرلمان لأنها تحتوي على تعددية طبقية واجتماعية واسعة وممثلة حقيقية لملايين الفرنسيين ولمطالبهم المعيشية الضرورية التي لم يسمعها ماكرون خلال فترة حكمه السابقة، بل ان لها اليوم ثقل برلماني يمكنها من رفض او قبول البرامج التي تراها غير مناسب وهو ما سيسمح لها بمنع الرئيس من الحكم وتمرير برنامجه لفقدانه الأغلبية البرلمانية للتصويت عليها. بل ان اول ما قامت به هذه الكتلة هو المطالبة باستقالة رئيسة الوزراء اليزابيث بورن او ان تقوم بطلب الثقة من البرلمان للاستمرار في رئاسة الحكومة لحين تشكيل الحكومة الجديدة. ولا يبدو ان الحكومة الجديدة سيتم تشكيلها بسهولة لان الأحزاب الأخرى غير مستعدة لإنقاذ الرئيس ماكرون وتقديم التسهيلات له لكي يحصل على الأغلبية البرلمانية بل ان بعضها قد رفض ذلك لنفس الأسباب التي رفض فيها الشعب الفرنسي التصويت لتياره في الانتخابات التشريعية واعطائه الغالبية في الجمعية الوطنية. وهو ما صرح به برونو راتايو رئيس كتلة الجمهوريين، اليمين التقليدي، في مجلس النواب الذي صرح بانه يرفض تشكيل حكومة ائتلافية مع تيار ماكرون.
امام قوة تشكيلة البرلمان الجديدة تبدو السلطة التنفيذية ضعيفة وليس لها خيارات كثيرة فحل البرلمان مثلا ربما لن يكون فكرة جيدة بالنسبة للرئيس ماكرون، وكسب أربعين نائبا لتياره لتحقيق الأغلبية الرئاسية هو الاخر ليس سهلا ويصعب حاليا الحصول عليها. ورغم ان الرئيس قد وجه خطابا للشعب يشرح فيه انه قد انتخب بشكل واضح من قبله وانه حظي بأغلبية نسبية، لكن الامر لم يكن كذلك ، فقد انتخب الفرنسيون ماكرون لانه وضع في خيار بينه وبين زعيمة اليمين المتطرف التي يرفضها الشعب الفرنسي ، اما حصوله على الاغلبية النسبية فهي لا تسمح له ولا لنوابه بالحكم وهو ما سيشكل انسداد سياسي وتوقف لعمل الحكومة والبرلمان. ومع امتناع قادة الأحزاب والكتل على مقترح حكومة وحدة وطنية، ليس للرئيس ماكرون سوى طريقة الحكم بالأغلبية مع كل نص قانون يطرح في البرلمان. ولكن حتى هذا الحل يبدو صعب التنفيذ وربما سيعرقل عمل البرلمان خاصة ان بعض الأحزاب ومنها "حزب فرنسا غير الخاضعة" قد عاش تجربة سيئة في السنوات الخمس الماضية ولم يتمكن من التفاهم مع الأغلبية على أي نص قانون للتصويت عليه ورفضت كل مقترحات قوانينه.
ان نتائج الانتخابات التشريعية قد أظهرت مشهدا سياسيا غير متوقع لكن التشكيلة المتنوعة والدماء الجديدة التي دخلت الى البرلمان هي تشكيلة واعدة من النساء والرجال برزوا بفضل تجاربهم الواسعة والمكانة التي اكتسبوها بين الناس اذ تلقى خطاباتهم اهتماما كبيرا ومتابعة
من قبل شرائح مختلفة من الشعب الفرنسي، تشكيلة ديناميكية قادرة على تجاوز العقبات وتقديم حلول لتجاوز الانسداد الذي ربما ستخلقه الأغلبية النسبية خلال الفترة القادمة لمنع نصوص قوانين لا تتلائم مع نهجها الليبرالي الجديد الذي رفضته غالبية الشعب الفرنسي.
ولاء سعيد السامرائي
باريس في 22/6/2022
325 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع