عبد يونس لافي
الشاعرُ العراقيُّ،الكرديُّ المخزوميُّ العربيُّ،جميل صدقي الزهاوي والمدُّ والجَزْر -11-
وللزهاوي كلامٌ في المدِّ والجزر، وكالعادة هو يرفض علاقتهما بمسألة الجاذبية، فليس ثمةَ في عُرفِه جذبٌ بل هو الدفعُ، رضي الراضون أم أبى الآبون، ثم يقول ان الفلاسفةقد عللوا المدَّ والجزرَ على أنه جذبُ كلٍّ من القمر والشمس، كلاهما او على انْفراد، لمياه الارض بسبب مقابلتها لها، حيث يدور المدُّ على وجه البحر تبعًا لهذه المقابلة، اما الجزرُ فيكون حيث تزول المقابلة.
يمضي فيقول: لما كان كل مدٍّ مزدوجًا في وقت واحد، فإنَّ احد هذين المدَّيْن يكون في الطرف المواجه للقمر او الشمس، اما الثاني فيكون في الطرف المخالف، لذا فإن تعليلَ الفلاسفة لهذا الأزدواج، هو ان القمر بمواجهتهلماء البحر، يجذبه اليه فينفصل الماء عن قعر البحر، ويجذب الارض تحت الماء بدرجة أقلَّ، فينفصل عن الماء في وجهها المخالف، فيحصل مدّان في وقت واحد، وهذا خطأ للوجوه الآتية:
أولًا:إنَّ القمر لو استطاع أن يجذب الماء من وجه الارض، لما انْفصل الماء عن قعر البحر، لأنَّ جذبَ الأرض لهذا الماء أشد من جذب القمر لاتِّصالها به، ولكبرها بالنسبة الى القمر.
ثانيًا: ان القمر لو كان يجذب إليه الأرض تحت الماء، بحيث تنفصل عن الماء فوقها في الطرف المقابل لطرفالقمر، لاقْتضى الأمر أن تسقط الارض على القمر بعد زمان غير طويل، لأن القمر في كل آنٍ يُحدث مدًّا في قسممن اقسام الأرض، فاذا جذبها في كل لحظة قدمين*، وجب ان تجذبَ الأرضُالقمرَ أضعاف ذلك، لِعِظَمِها بالنسبة إليه،فكان المنتظر أن يتصادما، على أنَّ مثلَ هذه المصادمةِ لم يحدثْ منذ مئات الألوف من السنين لحسن الحظ.
ثالثًا: ان الارض لو صحَّأنها تنجذب الى القمر، لما جاز ان تفارقَ الماء فوق وجهها الثاني، لأن هذا الماءَ مجذوبٌمن الارض نفسها ومن القمر، فلم يكن مد مقابل، مع انه موجود وهو مساوٍ للمد المواجه.
رابعا: ان المدَّ يكون عند الاقْتران او الاستقبال أكبرَ من المد المنفرد، وهما في الواقع متساويان، وهذا لا يتعلَّلُ بالنظرالى الاستقبال، فإن مد القمر ضعفا مد الشمس تقريبا، فلو كان القمر يجذب الارض تحت الماء الى جهته، فان الشمسفي الطرف الثاني تجذبها نصف جذب القمر، فكان الواجب ان يكون المد المواجه للقمر، نصف المد المنفرد مع انه ضعفاه.ثم ينهي رأيه وكأن لديه اعتراضات اخرى فيقول(الى ما هنالك من الاعتراضات).
بعد ذلك يقدم تفسيرهُ للمد والجزر مستندًاعلى مبدأ الدفع، حيث يقف الزهاوي بالضدِّ من الجذب في تفسير الظواهر الطبيعية التي تعرض لها، فلا جذبَ في الكون بل هو الدفع، ولا يستثني المدَّوالجزرَ عن هذه القاعدة فيقول بعد ان فند اقوال الفلاسفة بما تقدم:
والتعليلُ الحقُّ للمدِّ هو ان القمر يرسل قسمًا كبيرًا من كهربائيتِه عند محاذاتِه لنقطةٍ من الارض، كما أن الارض تفعل مثل ذلك فيه، وهذه الكهربائية لا تؤثر في الماء، لأنه موصلٌ جيدٌ لها، بل تؤثر في الارض تحت الماء، فتدفعها فيتراكم الماء في المكان الهابط منها اتيًا من الأطراف، لسدِّ الفراغ الحاصل من اندفاع ذلك القسم من الارض، فيكون في المكان الهابط مدٌّ وفي الأماكن المجاورة جزر. واذ أنَّ هذه الكهربائيةَ تخالف كهربائيةَ الوجه الثاني من الارض فهي تجذبه، فيحصل هناك ابضًا هبوطٌ مثل الاول، فيجري الماء من الأطراف اليه طلبًا للموازنة وهو المدُّ المقابل، وعندما يكون القمر مستقبِلًا الشمسَ، يجتمع تأثير النيرين، فيحدث المدُّ الاعظمُ كما في الاقتران، على أني اعترف بأن تعليل المد المقابل هذا ضعيف.
الجذب بين الكهربائيتين المتخالفتين
ولا تحسبنَّأني قد ناقضت نفسي بنفسي، لأني بعد أن انكرت وجود الجذب، عدت فقلت بجذب كهربائية القمر للوجه الثاني من الارض، فإني لا اقول بالجذب الحقيقي كما يقول به العلماء، بل ان جذب الكهربائية لمخالفتها، هو أن الكهربائيتين اذا تخالفتا تتحدان عند تلاقيهما فتطردان الاثير من بينهما، فيجري الاثير من ورائهما طلبًا للموازنة، ويدفع كلًّا من الجسمين إلى الآخر. واما اذا اتفقتا، فانهما لا تتحدان عند الملتقى، بل يدفع كل منهما الجسم الآخر، ومثلها المغناطيسية والالتصاق والاتحاد الكيماوي، وتعلم من كل ذلك أن مبدأ الدفع تتوجه به اقسام الجاذبية جمعاء، وذلك دليل على صحته.
وكما كررنافيمراتسابقة انغايتنافيهذهالسلسلةمنالمقالاتهو إبرازتميزالشاعر بينالشعراءفيالاهتمام بمسائل علمية وفكرية،الىجانبتميزه الأدبي الرصين. هذا لا يمنعنا من التعليق حسبما يبلغ علمنا المتواضع وكذلك ما يتوفر من معلومات حديثة توافق الزهاويَّ او تخالفه.
العوامل اللاعبة في ظاهرتي المد والجزر
في البدء يمكن القول ان المدَّ هو ارتفاعُ مستوى سطح المياه في البحار والبحيرات والمحيطات بصورةٍ تدريجيَّةٍ ولمدةٍزمنيَّةٍ معينة،على شكل انتفاخ أو بروزعند مواجهتها للقمر، ثم انخفاضها تدريجيًّا لمدةٍ زمنيةٍّ معينةٍّ عند الجَزْر،حينما تنتفي تلك المواجهة.هاتان الظاهرتان اللتان يمكن اعتبارهما ظاهرةً واحدةً لارْتباطهما معًا، تتكرر بشكل يوميٍّ مرَّتين.
ولعل جاذبيةَ القمر، لما يتمتع به من قربٍ بالنسبة الى تلك السطوح، او إن شئت الى الارض تكون اللاعبَ الأكبرَ في خلقِهذه الظاهرة، على ألا نهمل لاعبِيْنِآخَرين هما جاذبيةُ الشمسِ لدرجةٍ اقلَّ بسبب بعدِها عن الارض على الرغم من عِظَمِحجمها بالنسبة للقمر. أما العاملُ الآخرُ فهو عاملُ الحركةِ الدورانيَّةِ للارض حول نفسها، بما تولِّدُه من قوةِ طردٍ مركزيٍّمتزامنة مع دوران القمر حولالأرض، تكون وراءَ المدِّ(الإنتفاخ او البروز)بالاتجاهالمعاكس للقمر. لذا يكون المدُّ مدَّيْن باتِّجاهين مختلفين من الارض، مدٌّ باتجاه القمرِ،ومدٌّ عكسَه، ويصحبُ كلَّ مدٍّجزر.
وحين تكون الأرضُ و القمرُ والشمسُ على خطٍّواحدٍ، يكون المدُّ على أشدِّه، حيث أن جاذبيةَ القمر تُضاف اليها جاذبيةُالشمس، وان كانت أضعف، تقود الى مدٍّ أشدَّ، كمايحصل عندما يكون القمر محاقًا او بدرًا. وتبلغ الجاذبية اقصاها، حين تنكسف الشمس.
مما يجدر ذكره هنا، أن قوةَالطردِالمركزيِّللأرض،هي قوةٌوهميةٌ تعاكس وتساوي تلك القوةَ المتولدةَ عن جذب مركز الأرض بفعل كتلتها، فيكون كلُّ شيئٍ موجودًا على سطحها محفوظًا، ويدور بدورانها.
ادراكُ العلماء المسلمين تاثيرَ القمر في حدوث المد
ولقد ادرك العلماء المسلمون تاثير القمر في حدوث المدِّ قبل ان يتحدث نيوتن في الجاذبية بقرون. وكان من هؤلاء العلماء ابو معشر جعفر بن محمد الذي ربط الظاهرة بحركة القمر، بعد طول مشاهدة. لقد استقطبت بغداد هذا الرجلَ وهو من بلخ بإفغانستان حينما كانت بغداد، ولهفي علىبغداد، قبلةَ الارض في العلوم. لقد وجد هذا العالم البلخيُّ الموسوعيُّ ضالَّتَه في بغداد ايامالخليفة العباسي، احمد المستعين بالله ابن الخليفة المعتصم بن هارون الرشيد فأبدع أيَّما إبداع.
أماعن استغلال العربِلظاهرةِ المد والجزر،فقدسبق أوروبا بثلاثةِ قرونٍ أو أكثر، فلقدذكر المؤرخون قبل أكثرَ من ألف سنة،أن أهل البصرة كانوا قد استغلوا المد والجزر في إدارةسواقيهم وطواحينهم.
* لا أدري من أين جاء الزهاويُّ بهذا الرقم، فإنَّقربَالقمرمنالأرضيجعلهقادرًاعلىسحببعضاليابسة،ولكنليسبالمقدارالذييمكنملاحظته، الا اذا اسْتُخْدِمت ادواتٌ جدُّ دقيقة.
1223 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع