عبد يونس لافي
جميل صدقي الزهاوي والقوى العاقلة – ١٣ –
ولقد نظَّرَ الزهاوي فيما نظَّرَ، مسألةَ القوى العاقلةِ بقوله أنَّ:
" القوى العاقلةَ، نتيجة لانْقسام الأعمال، وكمية الخلايا القائمة بها في جسد الحيوان ولا سيما في مُخِّه. ومنشأ هذه القوى هو الحسُّ الذي ليس غير الانفعال يمؤثرات المحيط وكلها طبيعية.
والحكم على الشيْئِ في الحيوان هو نتيجة غَلَبَةِ قسمٍ من خلايا المخ على غيرها في تأثرها او فعاليتها عقب الحس. وبالحسِّ تهتزُّ دقائقُ قسمٍ من الخلايا في المخ، وهذه الاهتزازات اذا سكنت بمرور الزمان، فان لها قابليةَ التكرُّرِ والعودة عند حصول حس جديدٍ مشابهٍ لما أحدثها قبلًا، كأنه يوقِظُها فيحسُّ بها العقلُ ثانيةً وهي الذاكرة."
وحين يتحدث عن اعمال الحيوان يقول:
" كلُّ اعمالِ الحيوانِ هي نتيجةُ الضرورة، وقواها العقلية ترجع الى الحسِّ الذي هو انفعالٌ طبيعي، وما الإنسانُ وحده يقيس ويحكم ويريد ويعمل، فالذبابةُ وهي حيوان منحطٌّ تستدلُّ وتحكم وتريد مثل الإنسان. ألم ترَ أنَّها اذا وقعت بالقرب منك فمددتَ اصبَعَك اليها، تطير هاربةً قبل ان تصلَ اليها اصبَعُك. ذلك لَعمري لانها تحس بحركةِ اصبَعِك ووجهة هذه الحركة وهي تعلم باختياراتها التي ورثتها من آبائها الاولين منذ مئات الألوف من السنين أنَّ هذا المتحركَ اليها اذا صدمها فهو يهلكها وهي تحب حياتها مثلما انت تحب حياتك فهي تهرب من أمام هذه الداهية (الاصبع) كما تهرب انت من النمر المفترس، وما هربُها الا نتيجة فعلية لقياس منطقي ترتبه في نفسها، كأن تفتكرَ ان هذه الإصبَعَ متوجهةٌ اليها، وأنها اذا مكثت في مكانها فهي تصل اليها وتعدمها حياتَها، وأنَّ الهربَ من الضرر أسلمُ لها، فتحكم بوجوب الهرب، وتعمل بموجب حكمها المنطقي هذا فتطير الى حيث السلامة والحياة."
ثم يمضي فيقول:
" ولا فرق بين نوعي العقل في الإنسان والحيوان مهما انحط الحيوان الا في الكمية فهو في الانسان اكثر منه في الحيوان على أنه فيهما جميعا على درجات.
والإرادة اكبرُ مشكلةٍ في الحيوان وقد زعم نفرٌ من العلماء ان الإنسان مختارٌ وانا لا اعقل له اخْتيارًا، فهو كغيره من الحيوان مضطرٌّ في حميع اعماله ليس له من الاختيار شيئٌ وانما إرادته التي يعنون بها اختياره ظاهرية وما هذه الا غَلَبَة قسمٍ من خلايا مخِّه على قسمٍ اخرَ في مركزِ خاصٍّ منه كما قلنا في الحكم بعد ان ينفعل بالكهربائية التي تأتيه بطريق اعصاب الحس، فهو إذا اشتدَّ انفعالُه الذي يعقبُ احتياج الجسم وتهيَّجَ، ينقبض او يتحرك حركة اخرى يطلق فيها طريقًا للسيال الكهربائي على اعصاب الحركة إلى الجهة التي يحس بالضرر منها او النفع فيها، فيحرك السيال العضو بواسطة عضلاته الموصولة بتلك الاعصاب. وقد تراوغ خلايا الإرادة فتحرك العضو من الطريق الأبعد، ذلك انها بما ورثته من ايائها تذكر عدة طرق للوصول، فتحرك العضو في الطريق الذي صورته في هذا الذكر أشد تأثيرًا فيها وتطبقه على الوضع الخارجي. وما التردد في الإرادة الا مقاومة قسم من خلايا مركزها لقسم اخر وللوراثة في جميع قوى العقل يد اية يد."
انتهى كلام الزهاوي!
لا اظنُّ ان القولَ بأن الحسَّ الذي تحدث عنه الزهاوي وكان يقصد الحسَّ الظاهري، وليس الحسَّ الباطني، هو منشأ القوى العاقلة، أو ان هذه القوى هي نتيجة لانْقسام الأعمال وكمية الخلايا في جسد الحيوان التي تقوم بتلك الاعمال، أو ان القوى العاقلة ذاتها، يتصف بها الحيوان والانسان على حد سواء، امور يمكن قبولها. كما ان حصرَ القوى بالقوى العاقلة فقط، امرٌ، هو الاخر، لا يمكن قبوله.
نقول والحسُّ حِسّان: حسٌّ ظاهري، وحسٌّ باطني، اما الحسُّ الظاهري فيمكِّنُ الإنسانَ والحيوانَ من التفاعل مع العالم الخارجي، بغض النظر عن طبيعة التفاعل وكيفيته، اما الحسُّ الباطني فهو الحسُّ الذي يمكِّنُ الإنسانَ فقط من إدراك المعاني والقيم العميقة مثل قيم الحق، والعدل، والخير، والكرامة، والفضيلة، والمساواة، ونبذ الشر والكراهية والحقد والظلم، وهذا ما لا يكون في الحيوان.
وحين يقول لك الزهاوي (1863-1936)، (ولا فرق بين نوعي العقل في الإنسان والحيوان مهما انحط الحيوان إلّا في الكمية، فهو في الانسان اكثر منه في الحيوان، على أنه فيهما جميعًا على درجات)، فانه في اطروحته هذه يبدو متأثِّرًا بما ذهب اليه تشارلز دارون (1809-1882) من أنَّ الحيوانات لا تختلف عن الإنسان من حيث امتلاكها لقدراتٍ عقليةٍ متشابهةٍ نوعًا، مختلفةٍ درجةً، يتجلّى ذلك في إمكانية التعامل الملحوظ بينهما.
وعندي ليس بالْغريبِ أن نجدَ في قول الزهاوي صدًى لما قاله دارون، اذ صرَّح في مكان اخر من مخطوطته ما نصُّه: " ولا اشك في صحة مذهب النشوء القائل بارْتقاء الحيواناتِ متسلسلةً من البسيط الى المركب فالْاكثر تركبًا، غير أني كبعض العلماء لا اجد تنازع البقاء والانتخاب الطبيعي كافيين لتولد الانواع، بل اقول كبعضهم بالتحول الفجائي". وهذا يدلِّلُ على أنَّه قرأ لدارون وتأثر به. أما حقيقة الأمر فإن الحيوانَ لاعقلَ له ولا قبولَ لما قال ايٌّ من الرجلين مع الإحترام.
ان القوى في المخلوقات قد وزعت لحكمةٍ ارادها خالقها الى اربع هي: قوة العقل، وقوة الشهوة، وقوة الغضب، وقوة الواهمة. ولقد خصَّ الإنسانَ بجميعها، اما الحيوان فيتمتع بقوتين هما قوة الشهوة وقوة الغضب فقط. وفي عالم الحيوان تتفاوت درجة هاتين القوتين، ولذا تجد من الحيوانات ما تتفوق فيها احدى القوتين على الاخرى تبعًا للطبيعة الخَلْقِيَّةِ لذلك الحيوان. اما الجنس الاخر من المخلوقات فهو جنس الملائكة حيث يتمتع هذا الجنس بقوة العقل فقط دون شهوة او غضب.
تتنافس هذه القوى الاربع في الإنسان وتتفاعل باستمرار، ويلعب العقل بينها دور التذكير والتبصير، فان غلبت قواه العقلية بقية القوى، ارتقى الى درجة هي اعلى من درجة الملائكة، اما اذا غلبت تلك القوى قوة العقل، انحدر الى مرتبة الحيوان. ان مثل هذا التنافس والتفاعل لا يوجد في عالم الحيوان، وكيف يكون تنافس بغياب العقل؟.
بهذه التركيبة الخَلْقِيَّةِ فإن الإنسان يتمتع بصفتي التخيير والتسيير معًا، لا كما قال الزهاوي ان الإنسان مضطرٌّ في جميع احواله. لقد مُنِح الإنسانُ الخيارَ في الطريق الذي يسلك، خيرًا ام شرًّا. لقد اراد له خالقه ذلك، فألهَمَهُ القابليةَ على ان يسلك الطريق الذي يراه، بعدما اوضح له ما يؤدي اليه كلا الطريقين دون إجبار، وترك لعقله القرار. قال تعالى: " ونفسٍ وما سوّاها، فألهَمَها فُجورَها وتقواها، قد أفلح من زكّاها، وقد خاب من دسّاها. "
هذا ما يتعلق بالتخيير الذي يكون فيه الإنسان مسؤولًا، بحكم ما يتمتع به، وتبعًا لاخْتياره. اما التسيير فهناك من الأقدارِ ما قد كتب لها ان تحدث بما قرره الخالق في علمه الازلي، ولا خيار للإنسان فيها، ولا مسؤولية عليه ان حدثت.
ينبغي تمييز العقل الذي يرتبط به التكليف، واختص به الإنسان دون الحيوان. إنَّ هذا العقلَ هو العقلُ الغريزي، أو العقلُ الهيولاني، الذي يميِّز الإنسانَ عن الحيوان ويجعله مكلفًا مسؤولًا، أما ما يطلق مجازًا، وربما قاد الى الإيهام، على عقل الحيوان، فإنه لا يتعدى ان يكون وسيلة تمكن الحيوان من التمييز، وإلادراك، والفهم المحدود. لذلك يكون قول الزهاوي " وما الإنسانُ وحده يقيس، ويحكم،َ ويريد، ويعمل، فالذبابةُ وهي حيوان منحطٌّ تستدلُّ، وتحكم، وتريد، مثل الإنسان" ضربًا من هُراءٍ يجانِفُ المنطق، فشتّان مابين القياس، والحكم، والإرادة، في الانسان وما يخيَّلُ من امْتلاك الذبابةَ او الحيوان على وجه العموم مثيلاتها.
لقد منح الخالقُ كلَّ حيوانٍ ما يناسبُ طبيعتَه، بُغيةَ الهداية، وتدبيرَ العيشِ، والتكيُّفَ للمحيطِ، والفطنةَ المحدودةَ، والقابليةَ على اختلاقِ الحِيَلِ ونحو ذلك. ان هذا النوعَ من العقل المحدود لا يترتب عليه تكليفٌ او مسؤولية، والأجدر أن يُسَمّى إدراكًا، او فطنةً، او تحايلًا بدلًا من عقل. بهذا الفهم، ربما كان الحسُّ الذي تحدث عنه الزهاوي هو منشأ الإدراك الحيواني، وما يعقب ذلك من تصرف.
ينبغي ألا ننسى ان العقل الانساني الكلي ينطوي على عقل ظاهر، او ما يسمى بالعقل الواعي، وعقل باطن او ما يسمى بالعقل اللاواعي. ولا يشكل العقل الظاهر الا جزءًا صغيرًا من العقل الكلّي مقارنةً بالعقل الباطن الذي تحكمه ضوابط مخزونة، كثيرة، محكمة، اعتمادًا على خبراتٍ متراكمةٍ، متعددةِ المصادر، تُسْتَدْعى متى كانت هناك حاجةٌ او موقف.
ان مثل هذا العقل الكلي الغريزي (الهيولاني) هو الذي أهَّل الانسانَ لكي يُطالَبَ بإعمار الارض، (هو انشأكم من الارض واستعمركم فيها ). ان اللهَ قد احكم خلقَ هذا الكونِ السحيق (ادركناه ام لم نُدركْه) بنظامٍ مثاليٍّ دقيقٍ لا عشوائيَّةَ فيه، لا بد أن يستخلف من هو قادرٌ على إدامتِه وإعمارِه، فاخْتار الانسانَ لسبرِ اغوارِه واستثمارِه، لما يتمتع به من عقلٍ مفكِّرٍ مستوعِبٍ، ولم يستخلف الحيوان مهما كان حجمه، اذ حسبُهُ أنَّه خُلق لدور اخر أهَّلَه له دونما مسؤوليَّة.
اما بالنسبة لما ورد في القرآن الكريم او السنة النبوية من وصفٍ لبعض الحيوانات التي تمتعت بنوعٍ من العقلانيةِ المحدودة التي تقترب مما يتمتع به الإنسان من ذكاءٍ ونطْقٍ، فانها حالةٌ خاصةٌ ارتبطت بمعجزاتٍ مُنحت لأنبياء في مكان وزمان معينين، حيث أدَّت أدوارًا رُسِمَت لها دون تكرارٍ.
1381 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع