الأستاذ الدكتور باسل يونس ذنون الخياط
بين البُردَة ونهج البُردَة في ذكرى مولد فخر الكائنات
البُردَة هي كساء يُلتَحف به، وقد أُطلق اسماً على القصيدة اللامية (بانت سعاد)، التي مدح بها كعب بن زهير النبي محمد ﷺ عندما جاءه مسلماً متخفياً بعد أن أهدر دمه، وقد نالت القصيدة استحسان النبي الكريم، فخلع بُردَته الشريفة على كعب بن زهير تعبيراً عن إعجابه بها، فسُميت قصيدة كعب تلك (البُردَة).
وقصيدة (البُردَة) هي قصيدة عصماء حافلة بذكر محاسن الرسول ﷺ ونبل أخلاقه وفرادته، فكان أن ذاع صيتها وانتشر صداها وسط العرب والمسلمين في كل مكان، وظلوا يرددونها عبر الأزمان.
بانَت سُعادُ فَقَلبي اليَومَ مَتبولُ ... مُتَيَّمٌ إِثرَها لَم يُجزَ مَكبولُ
وَما سُعادُ غَداةَ البَينِ إِذ رَحَلوا ... إِلّا أَغَنُّ غَضيضُ الطَرفِ مَكحولُ
أُنبِئتُ أَنَّ رَسولَ اللَهِ أَوعَدَني ... وَالعَفُوُ عِندَ رَسولِ اللَهِ مَأمولُ
إِنَّ الرَسولَ لَسَيفٌ يُستَضاءُ بِهِ ... مُهَنَّدٌ مِن سُيوفِ اللَهِ مَسلولُ
قال ابن الأثير في صفة البُردَة الشريفة أنّها كانت شملة (وهو لباس يُتَغَطَّى به ويُتَلَفَّف به) مخططة. وذكر أحمد بن حنبل عن عروة بن الزبير: "أن ثوب رسول الله الذي كان يخرج فيه للوفد رداء حضرمي طوله أربعة أذرع، وعرضه ذراعان وشبر".
عند تأسيس الدولة الأموية أراد معاوية بن أبي سفيان شراء البُردَة من كعب بن زهير، إلا أن كعبًا لم يسمح ببيعها لمعاوية، وقال: "لم أكن لأوثر بثوب رسول الله أحدًا". فلما مات كعب اشتراها معاوية من ورثته بعشرة آلاف درهم. وورثها خلفاء الدولة العباسية من بعده وكان الخلفاء يلبسونها في الأعياد والمناسبات.
بقيت البُردَة عند خلفاء الدولة العباسية في بغداد إلى أن انتزعها السلطان سنجر السّلجوقيّ من الخليفة المسترشد بالله، ثم أعادها إلى الخليفة المقتفي لأمر الله عند ولايته في سنة 535هـ. فبقيت بعدها في خزائن العباسيين إلى حين نهاية الدولة العباسية سنة 656 هـ على يد المغول.
وذكر القرماني أن هولاكو لما غزا بغداد سنة 656هـ خرج إليه الخليفة المستعصم بالله وعليه البُردَة الشريفة مع جمع من العلماء والأعيان بغية مصالحة هولاكو، إلا أن هولاكو غدر به وقتله وأخذ منه البُردَة وجعلها في طبق من نحاس وأحرقها وذرّ رمادها في نهر دجلة.
بردة البوصيري:
تُعد بُردَة البوصيري من أشهر القصائد في مدح النبي صلى الله عليه وسلم؛ وتسمى أيضا (الكواكب الدّرية في مدح خير البرية). وهي دُرَّة من دُرر المسلمين ومُلهمة للمبدعين، وصار الشعراء يقلدونها وينسجون على منوالها لشدة تأثرهم بها.
و محمد بن سعيد البوصيري (1213- 1295م) هو مدّاح وصوفي مصري لأسرة ترجع جذورها إلى قبائل البربر. ومن القصائد التي اشتهرت للبوصيري قصيدته (الهمزية) المؤلفة من 457 بيت والتي يقول في مطلعها:
كيف ترقَى رُقِيَّك الأَنبياءُ... يا سماءً ما طاوَلَتْها سماءُ
لقد أصاب البوصيري شلل نصفي، فأكثر من دعائه وتوسلاته، ونظم قصيدة يستشفع بها الله في أن يشفيه ويعافيه. وبعد أن أتم نظم هذه القصيدة رأى النبي صلى الله عليه وسلم في منامه يمسح عليه بيده الكريمة ويلفه في بردته، فلما أفاق من نومه وجد نفسه سليما معافى.
ولهذا السبب فقد سميت هذه القصيدة باسم (البُردَة)، أي بُردَة النبي التي رءاها البوصيري في منامه. وقد أشار البوصيري إلى البُردَة في البيت قبل الأخير من القصيدة التي خاتمتها:
وَهَذِهِ بُرْدَةُ المُخْتَارِ قَدْ خُتِمَتْ ... وَالحَمْدُ للهِ فيِ بِدْءٍ وَفيِ خَتَمِ
أَبْيَاتُهَا قَدْ أَتَتْ سِتِّينَ مَعْ مِائَةٍ ... فَرِّجْ بِهَا كَرْبَنَا يَا وَاسِعَ الْكَرَمِ
تتألف القصيدة من عشرة مقاطع في 160 بيت، كل مقطع خُصص لجانب معين. يبدأ البوصيري القصيدة في بيت غزلي ويتحدّث عن الغرام والشكوى والغزل والتغنّي بذكر ديار المحبوب:
أمِنْ تذَكُّرِ جيرانٍ بذي سلمِ ... مزجتَ دمعًا جرى من مقلةٍ بدمِ
أَيَحْسَبُ الصَّبُّ أنَّ الحُبَّ مُنْكتِمٌ ... ما بَيْنَ مُنْسَجِم منهُ ومضطَرِمِ
لولاَ الهَوَى لَمْ تُرِقْ دَمْعًا عَلَى طَلَلٍ ... ولا أرقتَ لذكرِ البانِ والعَلمِ
فكيفَ تُنْكِرُ حُبَّا بعدَ ما شَهِدَتْ ... بهِ عليكَ عدولُ الدَّمْعِ والسَّقَم
ويدور المقطع الثاني من القصيدة حول التحذير من هوى النفس، تلك النفس التي تستولي على الكبير والصغير. وفي المقطع الثالث يبدأ البوصيري المديح النبوي:
محمدٌ سيدُّ الكونينِ والثَّقَلَيْنِ ... والفريقينِ من عُربٍ ومن عجمِ
نبينَّا الآمرُ الناهي فلا أحدٌ ... أبَرَّ في قَوْلِ (لا) مِنْهُ وَلا (نَعَمِ)
هُوَ الحَبيبُ الذي تُرْجَى شَفَاعَتُهُ ... لِكلِّ هَوْلٍ مِنَ الأهوالِ مُقْتَحَمِ
دعا إلى اللهِ فالمستمسكونَ بهِ ... مستمسكونَ بحبلٍ غيرِ منفصمِ
فاقَ النبيينَ في خلْقٍ وفي خُلُقٍ ... ولمْ يدانوهُ في علمٍ ولا كَرَمِ
ثم يتحدث البوصيري في باقي المقاطع عن مولده الشريف، ثم معجزاته، ثم بيان شرف القرآن الكريم، ثم التحدث عن الإسراء والمعراج، ثم عن جهاد النبي (صلى الله عليه وسلم) وقتاله في الأشهر الحرم، ثم رجاء شفاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم القيامة ونحو ذلك.
وجعل البوصيري المقطع العاشر لمناجاة الله تعالى ودعائه ورجائه أن تشمله رحمته وأن يكون من الذين يشفع بهم النبي عليه الصلاة والسلام:
يا أكرَمَ الخلق مالي مَنْ أَلُوذُ به ... سِوَاكَ عندَ حلولِ الحادِثِ العَمِمِ
وَلَنْ يَضِيقَ رَسولَ الله جاهُكَ بي ... إذا الكريمُ تَحَلَّى باسْمِ مُنْتَقِمِ
لقد تُرجمت بُردَة البوصيري إلى عدة لغات، منها الإنجليزية والفرنسية والألمانية والتركية والهندية والفارسية وغيرها، لما تحظى به من مكانة روحية وفكرية كبيرة، جعلتها أيقونة المديح النبوي عابرة لـثمانية قرن من الزمان، منذ أن خطها الإمام البوصيري، في القرن السابع الهجري.
لقد أجمع معظم الباحثين على أن قصيدة البُردَة للإمام البوصيري تُعد من أفضل وأعجب قصائد المديح النبوي إن لم تكن أفضلها، حتى قيل: إنها أشهر قصيدة مدح في الشِّعر العربي بين العامة والخاصة، وقد انتشرت هذه القصيدة انتشارًا واسعًا في البلدان الإسلامية، وتُقرأ كل ليلة جمعة في بعض البلدان، كما تُقام لها مجالس للصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم.
يقول الدكتور المصري زكي مبارك: "البوصيري بهذه البُردَة هو الأستاذ الأعظم لجماهير المسلمين، ولقصيدته أثر في تعليمهم الأدب والتاريخ والأخلاق، فعن البُردَة تلّقى الناس طوائف من الألفاظ والتعابير غنيت بها لغة التخاطب، وعن البُردَة عرفوا أبوابًا من السيرة النبوية، وعن البُردَة تلّقوا أبلغ درس في كرم الشمائل والخلال. وليس من القليل أن تنفذ هذه القصيدة بسحرها الأخاذ إلى مختلف الأقطار الإسلامية، وأن يكون الحرص على تلاوتها وحفظها من وسائل التقرب إلى الله ورسوله الكريم".
كشف الغمة في مدح سيد الأمة:
لقد ألهمت قصيدة البُردَة الكثير من الشعراء والأدباء والعوام على مرِّ العصور، وأشهر من نهج على نهج البوصيري محمود سامى البارودي (1839- 1904م) (رب السيف والقلم) في قصيدة من مئات الأبيات، وقد تغنّى بها في مدح الرسول صلى الله عليه وسلم وسرى على نهج البوصيرى فيها.
لقد نشر البارودي القصيدة في مؤلفه (كشف الغُمّة في مدح سيد الأمة)، حيث عارض فيها قصيدة البُردَة للإمام البوصيري.
والمعارضة في الشعر معناها أن يقرأ شاعر قصيدة معينة لشاعر آخر فيعجب بها ثم ينظم قصيدة أخرى على وزنها وقافيتها وفي موضوعها في الغالب.
يا رَائِدَ البَرقِ يَمّمْ دارَةَ العَلَمِ ... وَاحْدُ الغَمامَ إِلى حَيٍّ بِذِي سَلَمِ
مُحَمَّدٌ خاتَمُ الرُسلِ الَّذي خَضَعَت ... لَهُ البَرِيَّةُ مِن عُربٍ وَمِن عَجَمِ
قَد أَبلَغَ الوَحيُ عَنهُ قَبلَ بِعثَتِهِ ... مَسامِعَ الرُسلِ قَولاً غَيرَ مُنكَتِمِ
فَذاكَ دَعوَةُ إِبراهيمَ خالِقَهُ ... وَسِرُّ ما قالَهُ عِيسى مِنَ القِدَمِ
نُورٌ تَنَقَّلَ في الأَكوانِ ساطِعُهُ ... تَنَقُّلَ البَدرِ مِن صُلبٍ إِلى رَحِمِ
حَتّى اِستَقَرَّ بِعَبدِ اللَهِ فَاِنبَلَجَت ... أَنوارُ غُرَّتِهِ كَالبَدرِ في البُهُمِ
نهج البُردَة:
لقد كانت قصيدة محمود سامى البارودي (يا رَائِدَ البَرقِ) بمثابة إلهام لأمير الشعراء أحمد شوقي (1868-1932م)، فسرى على نهجها في كتابته لقصيدة ( نهج البُردَة) الشهيرة.
تُعدُّ قصيدة (نهج البُردَة) واحدة من أجمل قصائد شوقي، كما تُعد من أروع قصائد المدح النبوي، لبساطة كلماتها وعذوبة ألفاظها.
إن اختيار شوقي (نهج البُردَة) عنواننا لقصيدته دليل على مبلغ تأدبه وتواضعه، فهو لا يعارض قصيدة البُردَة وإنما يقول قصيدة على نهجها كأنه يقتفي خطاها وينظر إليها على أنها الأصل الذي لا يُجاري ولا يُعارَض، فهو يريد أن يسير على نهجه ويقتفي أثره ويستوحيه ويتتبع خطاه.
تقع قصيدة (نهج البُردَة) في مائة وواحد وتسعين بيتا، وكما بدأ البوصيري قصيدته بالنسيب (الغزل) فقد بدا شوقي قصيدته بالنسيب أيضا.
ريمٌ عَلـى القـاعِ بَيـــــــــنَ البـانِ وَالعَلَـمِ ... أَحَلَّ سَفكَ دَمـي فـي الأَشهُـر الحُــــــرُمِ
لَزِمـتُ بـابَ أَميــــــــــرِ الأَنبِيـاءِ وَمَــن ... يُمسِـك بِمِفتـــــــــــاحِ بـابِ الـلَـهِ يَغتَـنِـمِ
مُحَمَّــــــــــدٌ صَـفـوَةُ الـبـاري وَرَحمَـتُـهُ ... وَبُغيَـةُ اللَـهِ مِـن خَلــــــــقٍ وَمِـن نَسَـمِ
وَصاحِبُ الحَوضِ يَـومَ الرُسـلِ سائِلَـةٌ ... مَتــى الـوُرودُ وَجِبريـلُ الأَميـنُ ظَمـي
لَمّا دَعا الصَحبُ يَستَسقـونَ مِـن ظَمَـإٍ ... فاضَـت يَـــــــداهُ مِـنَ التَسنيـمِ بِالسَـنَـمِ
وَنـودِيَ اِقـــــــرَأ تَعالـى الـلَـهُ قائِلُـهـا ... لَم تَتَّصِـل قَبـلَ مَـن قيلَـت لَـــــهُ بِفَـمِ
هُـنـاكَ أَذَّنَ لِلـــــــــــرَحَـمَـنِ فَـاِمـتَـلَأَت ... أَسمـاعُ مَكَّــــــــةَ مِـن قُدسِـيَّـةِ النَـغَـمِ
حَتّى بَلَغـتَ سَمــــــــاءً لا يُطـارُ لَهـا ... عَلى جَنـــــاحٍ وَلا يُسعـى عَلـى قَـدَمِ
وَقيـلَ كُــــــــــــــلُّ نَبِـيٍّ عِـنـدَ رُتبَـتِـهِ ... وَيا مُحَمَّـــــــدُ هَـذا العَـرشُ فَاِستَلِـمِ
قصيدة (نهج البُردَة) وأم كلثوم:
لقد غنت كوكب الشرق أم كلثوم قصيدة (نهج البُردَة) في العام 1946 بعد أن تم اختيار 29 بيتا لها من القصيدة الأصلية لشوقي.
من يسمع أم كلثوم وهي تغني قصيدة (نهج البُردَة)، تحديدًا حفلة دمشق، يلاحظ أنّ أم كلثوم تُحلّق إلى السّماوات العلى من الوجد.
ولا نستطيع حصر الإبداع في هذه الأغنية بمقطع شعري أو تنويع لحني أو مقدرة صوتية، ففي كلّ كلمة تنطقها أم كلثوم في هذه الأغنية تفردٌ في اللحن والصّوت.
لنتوقف عند قول شوقي:
حتّى بلغتَ سماءً لا يُطارُ لها ….. على جناحٍ ولا يُسعى على قدمِ
الإبداع في هذا البيت جاء كتابة أولًا حين بنى شوقي الفعل (طار) للمجهول، فأصبح يُطار، والفعل (يَسعى) أصبح (يُسعى)، بما يفيد شمول الاستحالة على أيٍّ كان في الوصول إلى المرتبة العليَّة التي بلغها رسولنا الكريم ﷺ.
لقد تمكن السنباطي لحنًا وأم كلثوم أداءً من جعل حروف العربية تحمل قدرة تصويرية يكاد السّامع يراها رؤية العين حين غنّت:
أتيتَ والنّاسُ فوضى لا تمرُّ بهم ….. إلّا على صنمٍ قد هامَ في صنمِ
فالضّاد في (فوضى) تعطي السّامع إيحاءً بالفوضى التّامة، سيراها بوضوح وكأنّه يشاهد فيلمًا.
ولو عدنا إلى البيت المعجز لحنًا وأداءً (حتّى بلغتَ سماءً) سنجد الهاء في (لها) تترنّح في انخفاض وصعود وكأنّها قبسٌ من نور. أما اللام في (لا) فتمتدُّ في مقام الوجد لتأتي الألف بعدها موحية ببعد المسافة وعظمتها، بينما ترتعش الرّاء في كلمة (العرش) ارتعاش الخاشع، وكأنّ أم كلثوم في حضرة النّبي ﷺ الذي يتقدّم لاستلام العرش.
وعندما تصل إلى (يا ربِّ هبّتْ شعوبٌ من منيّتِها)، نجد أم كلثوم تنطق (يا ربِّ) بطريقة تتدرج في تكرارها مرّة إثر مرّة صاعدة السّلم الموسيقي حتّى وصلت إلى (جواب السيكا) ثمّ؛ وبكلّ أناقة؛ تعود إلى القرار في الذّهاب والعودة ويصعد المستمع سماء لا حدود لها ويرجع إلى أرضيته ليصرخ معها: (يا رب).
وُلِـدَ الـهُـدى فَـالكائِناتُ ضِياءُ ... وَفَـمُ الـزَمـانِ تَـبَـسُّـمٌ وَثَناءُ
وكل عام وأنتم والعراق والأمة الإسلامية بخير.
https://www.youtube.com/watch?v=-Fh7xq6KFWM
364 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع