د. جابر أبي جابر
الحركة الشعبوية في روسيا
ظهرت الحركة الشعبوية (حركة النارودنيكي الاشتراكية الزراعية) كتيار سياسي اجتماعي مناهض لرواسب نظام القنانة ومعارض لتطور روسيا في الطريق الرأسمالي. وقد نشطت خلال الثلث الأخير من القرن 19 والعقد الأول من القرن الماضي. وارتبطت هذه الحركة بتحسر الإنتلجنسيا على انسلاخها عن " حكمة الشعب" وأحواله. وهي ظاهرة روسية بحتة تجلت في تقريب الإنتلجنسيا من الشعب البسيط بحثاً عن جذوره وموقعه في الدولة والبلد والعالم. وقد تجسد فيها مجمل النظريات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والفلسفية لأصالة طريق التطور الاجتماعي الروسي وشكلت ظاهرة ملازمة للأدب الروسي الكلاسيكي. ونشأت هذه الحركة في أوساط الفئات الروسية المثقفة الساعية إلى إعادة صلتها بالشعب. وعلى وقع ذلك دعا أنصارها إلى الرجوع للشعب فأقاموا صلات مباشرة مع الناس البسطاء وسعوا إلى الدفاع عن مصالح الفلاحين ودعم مطالبهم. كما عملوا على نشر التعليم والتنوير ضمن الفئات الشعبية من أجل إعدادها للثورة المقبلة. وقد عمد هؤلاء في حالات عديدة إلى الجمع بين الفكر الماركسي والنزعة السلافية السائدة لدى جماهير الفلاحين، ولكنهم آمنوا بطريق تطور متميز عن الطريق الغربي يتجلى في إمكانية تجاوز الرأسمالية وويلاتها والانتقال مباشرة إلى الاشتراكية، ولاسيما أن الفلاح الروسي عرف منذ قرون عديدة نظام المشاعية الزراعية. وقد رأى الشعبويين في هذه المشاعية نقطة انطلاق للتطور الاشتراكي وآمنوا بأن مصادرة الملكيات الزراعية الكبرى ستقود روسيا بفضل المشاعية إلى استبدال الملكية الفردية بملكية تعاونية مما سيضمن رجحان كفة المبدأ الأسمى لعلاقات الملكية. ومن أشهر شخصيات الشعبوية منظر الأناركية والمفكر ميخائيل باكونين والمفكر والمؤرخ بيوتر لافروف والناقد الأدبي بيوتر تكاتشوف والباحث الاجتماعي والناقد الأدبي نيكولاي ميخائيلوفسكي.
ركز أنصار باكونين على انتفاصة الفلاحين آملين أن تتحول إلى ثورة عامة وأن يقام في البلد نظام جمهوري على أساس المبادئ الأناركية. وقد عارضوا إجراء تحولات في إطار الدولة. وكان باكونين ينظر بتشائم وريبة إلى أي سلطة جكومية نظراً لأنها، حسب اعتقاده، أداة قمع حرية الفرد واستعباده. كما ذهب إلى أن الإنسان الروسي بطبيعته وحدسه متمرد وأنه على العمومً قد تشكل لدى الشعب عبر القرون مثال الحرية. ولهذا لم يبق، وفق افتراضه، إلا التوجه نحو تنظيم عصيان عام لا يستهدف تصفية الدولة فحسب، بل والحيلولة دون نشوء دولة جديدة.
ومن جهة أخرى ذهب لافروف إلى أن الثورة غير ممكنة بلا تحضير تمهيدي طويل وبدون صياغة المفاهيم الاجتماعية والسياسية للجماهير الشعبية. كما ركز على النشاط التنويري السلمي ضمن الشرائح الاجتماعية العريضة. أما المفكر البارز للتيار اليعقوبي في الحركة الشعوبية تكاتشوف، الذي تأثر به لينين فيما بعد، فقد ذهب إلى أن آفاق الثورة الشعبية غير واقعية ولذلك ينبغي عدم إضاعة الوقت في تهيئة الشرائح الشعبية العريضة وإنما العمل على تحقيق انقلاب عن طريق تآمر سياسي يجري باسم الشعب ولمصلحته، ولكن دون مشاركته. فخلافاً لرفاقه الشعبويين اعترف تكاتشوف بعجز الفلاحين عن صنع الثورة، بصورة مستقلة، نظراً لخمولهم وجهلهم. ولهذا فإنه ربط نجاح الثورة بوجود تنظيم سري ذي انضباط قوي. وقد تميزت نظرية تكاتشوف عن أفكار باكونين ولافروف في التأكيد على ضرورة إقامة دكتاتورية ثورية. وبإيحاء من مؤلفات الكاتب نيكولاي تشرنيشفسكي وكارل ماركس ذهب تكاتشوف إلى أن العامل الاقتصادي هام جداً كأداة تأثير على التطور الاجتماعي. وعموماً تكمن نظرية الثورة عنده في اعتبار" إرادة الأقلية الفعالة" مصدراً رئيسياً للتطور. وقد أناط بهذه الأقلية الثورية مهمة الإطاحة بالنظام القيصري والاستيلاء على السلطة ثم تعليم الشعب وتنويره حتى يصل إلى مرحلة كافية من الثقافة والتعليم تسمح له بالمشاركة في الحكم.
ويرى المفكر الثوري الراديكالي أن غياب البرجوازية المتطورة في روسيا ليس إلا أفضلية كبرى تسهل فرص الثورة الاجتماعية. وحسب اعتقاده فإن الشعب الروسي اشتراكي بالفطرة. وهكذا فإن تكاتشوف لم يكن ديمقراطياً باعتباره دعا إلى سلطة الأقلية على الأكثرية. وهو، بالطبع، لم يقف إلى جانب أنصار تحويل الدولة الروسية إلى دولة دستورية برجوازية (برديايف. منابع الشيوعية الروسية ومغزاها. دار نشر"آزبوكا"، بطرسبورغ، 2016، ص.81- 84).
نشأت الشعبيوية في البداية كحلقات صغيرة ثم تحولت إلى مجموعات ثورية متماسكة كانت الجمعية الثورية السرية " زيمليا إي فوليا" (الأرض والإرادة) أولها وأبرزها في روسيا. وقد تشكلت من مثقفين ينتمون إلى شرائح اجتماعية مختلفة. وظهر القوام الأول في عام 1861 واستمر نشاطه حتى عام 1864. وكانت هذه الجمعية تضم حلقات سرية في 14 مدينة روسية وأكبرها ببطرسبورغ وموسكو. وقد بلغ عدد أفرادها حوالي ثلاثة آلاف شخص. وفي بداية تأسيسها تأثرت، إلى حد ملحوظ، بأفكار وطروحات الكاتبين المهاجرين الثوريين الكسندر غيرتسن ونيكولاي أوغاريوف. ولكن بعد اعتقال الشخصيات البارزة المرتبطة أو المتعاطفة مع التنظيم ( تشرنيشفسكي وسيرنو- سلفيوفتش وبيساريف وريمانينكو( وكذلك فشل انتفاضة البولنديين، وامتناع الليبراليين عن دعم المعسكر الثوري، اضطرت الجمعية إلى حل نفسها. وقد ركزت "زيمليا إي فوليا" على الدعوة إلى عقد مجلس شعبي لا طبقي.
وبعد بضع سنوات ظهرت في بطرسبورغ جمعية التشايكوفسكيين السرية (نسبة إلى أحد زعمائها تشايكوفسكي) إثر اتحاد عدة حلقات صغيرة كان من أبرز زعمائها مارك ناتانسون وصوفيا بيروفسكايا ونيكولاي تشايكوفسكي.وقد ضمت هذه الجمعية حوالي مئة عضو وكان لها حلقات في موسكو وقازان ومدن أخرى.
وتجلت مهمتها الرئيسية في ممارسة الدعاية ضمن عمال المصانع والسعي إلى القيام بنشاط دعائي واسع في الأرياف. ولكن في مطلع عام 1974 ألقت الشرطة القيصرية القبض على العديد من أعضاء الجمعية. وقد كان ضمنهم بيوتر كروبوتكين. ومع ذلك فإن هذه الاعتقالات لم تمنع نشطاء الجمعية من متابعة نشر أفكارهم في أوساط الشعب.
وخلال الأعوام 1863-1866 نشطت بروسيا حلقة الايشوتينيين (نسبة إلى زعيمها إيشوتين). وقد نشأت من حلقة كانت قريبة الصلة بجمعية "زمليا إي فوليا". وتحت تأثير الأفكار الاشتراكية للكاتب والناقد الأدبي نيكولاي تشيرنيشيفسكي وخاصة روايته " ما العمل؟". عمد زعماء وبعض الأعضاء العاديين لهذه الحلقة إلى إنشاء ورشات وتعاونيات لم يكن لها مالك واحد بمفرده. وكانت الأرباح توزع على جميع العاملين. وعلى هذا النحو تسنى للشباب هناك إرساء تقاليد الملكية التعاونية في العمل حيث رأوا في ذلك عربون التحولات الاشتراكية المقبلة. وقد أعدت المجموعة أفرادها لممارسة الدعاية ضمن فئات الشعب الكادح. وبحلول عام 1866 كان لديها، بالإضافة إلى "المنظمة"، مركز ذو تنظيم سري للغاية باسم" جهنم" وهو مخصص لممارسة النشاطات الإرهابية. وكان الهدف الرئيسي لهذه الحلقة يكمن في اغتيال القيصر ألكسندر الثاني في حال رفض الحكومة تلبية مطالب هذه المجموعة الثورية. وحسب اعتقاد قادتها فإن القضاء على القيصر سيتيح لها الإمساك بالسلطة أو على الأقل إرغام الحكومة على تقديم تنازلات مما سيساعد على إيقاظ الجماهير الخاملة.
وبعد المحاولة الفاشلة لاغتيال القيصر ألكسندر الثاني، التي قام بها كاراكوزوف وانتهت بإعدامه ونفي ايشوتين إلى سيبيريا وإدانة عشرات الأعضاء في هذه القضية، انحسر نشاط الحلقة إلى الحد الأدنى وانضم العديد من الأعضاء إلى جمعية الإرهابي الشهير سيرغي نيتشايف" انتقام الشعب". وقد وصف العالم الجغرافي صاحب إيديولوجيا الشيوعية- الأناركية بيوتر كروبوتكين أعمال أعضاء هذه الحلقة بقوله: " ...كانوا يجلبون المعارف والتنوير للناس البسطاء آملين بأنه سيتسنى لهم تربية جيل جديد قادر على نشر الأفكار السامية. وقد تبرعوا لتحقيق ذلك بأموال كثيرة".
وتجدر الإشارة إلى أن جمعية "انتقام الشعب"- أسسها الثوري الراديكالي مؤلف كتاب"تأهيل الثوري" سيرغي نيتشايف في خريف عام 1869عقب عودته الأولى من أوروبا، التي انتحل أثناء إقامته فيها شخصية ممثل بارز لتنظيم ثوري روسي غير موجود وتعرف على الأناركي ميخائيل باكونين والكاتب الصحفي والشاعر نيكولاي أوغاريوف. وقد استطاع أن يحصل منهما على مبلغ كبير من المال من "صندوق باخميتوف" المخصص لقضية الثورة.
كان لهذه الجمعية، إلى جانب مقرّيها في بطرسبورغ وموسكو، فروع عديدة بالمدن الروسية الأخرى. وقد اتسم نشاطها منذ البداية بسرية مُحكمة وانضباط حديدي. وفي معرض حديثه في كتابه عن طبيعة التنظيم أكد نيتشايف على أن أوقات الدعاية السلمية قد ولت واقترب أوان الثورة المرعبة التي ينبغي التحضير لها باحتراس شديد للغاية. كما أشار إلى" أن على الثوري نبذ العلوم السلمية وتركها للأجيال اللاحقة. أما الآن فمن الأفضل له الاكتفاء بدراسة "العلوم التخريبية" مثل علم الميكانيكا والكيمياء وكذلك الطب... إن الثوري يحتقر الرأي العام ويكن مشاعر الكراهية لأخلاقيات المجتمع الحالي".
وبعد أن رفض الطالب الجامعي ايفانوف الانصياع لأوامر نيتشايف قرر زعيم التنظيم تصفيته. وفي أواخر تشرين 2/ نوفمبرعام 1869 قام بقتله في ضواحي موسكو بالاشتراك مع رفاقه نيكولايف واوسبينسكي وكوزنيتسوف. وقد تسنى له عقب ذلك الهرب إلى الخارج بينما اعتقل رفاقه المتورطين بصورة مباشرة في هذه الجريمة ووجهت إليهم تهمة تأسيس جمعية إرهابية بالإضافة إلى تهمة الضلوع في قتل ايفانوف. وإلى جانب ذلك أحيل إلى القضاء 87 شخصاً وصدرت بحق معظمهم أحكام بالأشغال الشاقة لمهل مختلفة وجرى تبرئة ساحة بعضهم.
ومن المعروف أن الروائي الروسي الشهير فيودور دوستويفسكي استوحى سيرة حياة نيتشايف لدى تصويره الشخصية المحورية لروايته "الشياطين" بيوتر فيرخوفنسكي، الذي لا يتورع عن الإتيان بأي عمل دنيء من دسائس وابتزاز وأعمال قتل في سبيل القضية الثورية.
وفي عام 1876 بُعثت "زمليا إي فوليا" من جديد حيث ضم القوام الثاني بليخانوف وتيخوميروف وبيروفسكايا إلخ. وسميت في البداية بجمعية الشعبويين ثم بالمجموعة الشمالية الشعبوية الثورية. وفي عام 1878 أعيدت لها التسمية القديمة" زمليا إي فوليا". وقد بلغ عدد أفراد هذه الجمعية السرية حوالي المئتين. وتضمن برنامج الجمعية: تحقيق الثورة الفلاحية في أقرب وقت وتأميم الأرض واستبدال الدولة بفدرالية مشاعية. وبدلاً من الدعاية المجردة السابقة للمبادئ الاشتراكية، رفع التنظيم الجديد شعارات تنبثق مباشرة من الوسط الفلاحي وقابلة للتحقيق في المستقبل القريب، مثل تسليم الأرض للفلاحين بحصص متساوية، وإدراج الإدارة الذاتية المشاعية.
أنشأ التنظيم مجموعة عمالية للدعاية في أوساط العمال الصناعيين ببطرسبورغ وخاركوف وروستوف. كما قام بتنظيم أول مظاهرة في تاريخ روسيا عند كتدرائية كازانسكايا ببطرسبورغ (2/12/1876). وهناك ألقى بليخانوف خطاباً أمام المتظاهرين .وأثناء ذلك جرى رفع شعار"زمليا إي فوليا".
لم يشغل الإرهاب في البداية حيزاً كبيراً من نشاط الجمعية، إذ كان مجرد وسيلة للدفاع عن النفس أو الانتقام. ولكن بعد خيبة الأمل في تأثير النشاط الدعائي والتعرض لاضطهاد السلطات القيصرية انتقل بعض الأعضاء إلى ممارسة الإرهاب حيث لجأوا إلى اغتيال عدد من كبار ضباط الدرك وقادة الشرطة. وبعد محاولة اغتيال القيصر ألكسندر الثاني من قبل سولوفيوف (2 نيسان/ أبريل عام 1879) احتج قسم من الأعضاء على إعداد هذا العمل الإرهابي. وآنذاك نشبت خلافات حادة داخل التنظيم بخصوص وسائل النضال ضد الحكم القيصري وجرت محاولات لتذليلها في مؤتمر فورونيج ولكن دون جدوى، مما أسفر عن وقوع انشقاق في صفوف"زمليا إي فوليا". وعلى أثر ذلك أسس الجناح الراديكالي المتمسك بممارسة العنف والإرهاب جمعية" نارودنايا فوليا" ( الإرادة الشعبية) وكان من أبرز ممثليها تيخوميروف وميخائيلوف وكفاتكوفسكي. أما جناح" الشعبويين" ، الذي ضم بليخانوف وبوبوف وآبتكمان، فقد أطلق عليه تسمية جمعية " التقاسم الأسود".
- حزب "نارودنايا فوليا": تأسس على أثر انشقاق تنظيم" زمليا إي فوليا". وقد اتجه نحو اللجوء إلى الإرهاب كوسيلة أساسية لتحقيق أهدافه واستطاع خلال الفترة بين العامين 1879و1883 إنشاء 80-90 حلقة محلية واكثر من مئة حلقة عمالية و40 حلقة طلابية إلى جانب مجموعة عسكرية تضم 50 ضابطاً. وقد تأثر أتباع هذا الحزب إلى حد كبير بأفكار الثوريين الفرنسيين وخاصة لويس أوغست بلانكي.
انطلقت"نارودنايا فوليا" من قناعة مفادها أن الشعب الروسي يعيش في حالة عبودية تامة اقتصادياً وسياسياً. وفي ضوء ذلك وضع الحزب نصب عينيه مهمة إيقاظ الشعب من سباته عن طريق جملة من الاغتيالات السياسية المدوية. ومنذ الأيام الأولى لتأسيسه اتجهت مساعي قادة هذا التنظيم إلى العمل على تنفيذ حكم الإعدام بحق القيصر الكسندر الثاني، الذي أصدروه خلال مؤتمر ليبيتسك. ورغم أن هذا القيصر كان مصلحاً حقيقياً فإن هؤلاء كعادتهم ظلوا يعتبرونه تجسيداً للسلطة الملكية المطلقة. وبعد العديد من محاولاتهم الفاشلة لاغتياله في العامين 1879- 1880 تسنى لهم بلوغ ضالتهم في آذار/مارس عام 1981 وذلك قبل عدة أيام من مناقشة مشروع الدستورالروسي، الذي قام بإعداده وزير الداخلية الكونت ميخائيل لوريس- ميليكوف بمشاركة ممثلين عن المجالس المحلية المنتخبة (الزيمستفو). وعلى وقع اغتيال القيصر المصلح قام القيصر الجديد ألكسندر الثالث بإصدار "مانيفست رسوخ السلطة الملكية المطلقة"، الذي يدل على انتكاسة سياسة الإصلاحات. واحتجاجاً على ذلك استقال كبار رجالات الدولة الموالين للنهج، الذي اتبعه القيصر الراحل، وعلى رأسهم الكونت لوريس- ميليكوف.
أثار اغتيال ألكسندر الثاني ردود فعل عنيقة في الأوساط الروسية الرسمية، إلى جانب الصدى الاجتماعي الواسع للغاية، الذي تجاوز توقعات "نارودنايا فوليا". ولكن اعتقال الشرطة لمجموعة كبيرة من قادة الحزب وأعضائه والحكم بالإعدام على بعضهم أسفر عن إضعافه إلى حد كبير. وفيما بعد أخذ بالانكماش تدريجياً حتى تلاشى تقريباً ( بيوتر رومانوف. مقالة" نارودنايا فوليا- الأهداف والوسائل". صحيفة" ارغومنتي إي فاكتي"10/7/ 2014).
وفي عام 1887 ظهرت مجموعة ثورية جديدة من أنصار"نارودنايا فوليا" بقيادة ألكسندر أوليانوف شقيق لينين الأكبر و بيوتر شيفيريف. وقد عزمت هذه المجموعة على اغتيال الكسندر الثالث في الأول من آذار/مارس عام 1887، ولكن العملية باءت بالفشل. وعلى أثر ذلك اعتقلت السلطات القيصرية جميع المشاركين والقائمين على إعداد هذه العملية ونفذ ببعضهم حكم الإعدام شنقاً وضمنهم شقيق لينين. أما البقية فحكم عليهم بالنفي المؤبد لمدة 20 عاماً.
لقيت الحركة الشعبوية صدى واسعاً في مؤلفات الأدباء الكلاسيكيين الروس ومنهم نكراسوف وليسكوف وتورغينيف ودوستويفسكي فضلاً عن تجسيد نشاطها في لوحات العديد من الرسامين مثل ريبين" زيارة غير متوقعة" و" اعتقال الداعية" و"تحت الحراسة"، وماكوفسكي" المحكوم عليه" و"السجين"، وايفانوف "نقل المحكومين إلى منفاهم".
وكانت رواية تورغينيف"الأرض البكر" أول مؤلف أدبي عن الشعبويين الثوريين. وقد صدرت بصورة علنية. وبعدها نظم تورغينيف القصيدتين النثريتين" العامل البسيط والفتاة المترفة" و"العتبة". وشكلت هذه الأعمال صدى عميقاً على إعدام صوفيا بيروفا المتهمة باغتيال الكسندر الثاني حيث صور الكاتب الروسي الكبير الشعبويين الثوريين كشخصيات نبيلة ومتفانية ولكن نصيبها الهلاك المحتوم.
أما تولستوي فقد كانت ردود فعله في البداية على أعمال الشعبويين سلبية حيث كتب مسرحيتين معاديتين للنهلستية – وهو الاتجاه المواكب للحركة الشعبوية- وهما "العائلة الملوثة" و"النهلستي". ولكنه فيما بعد (في السبعينات) ما لبث أن قيم الشعبويين باعتبارهم"أفضل وأنبل الناس وأكثرهم تفانياً" وبات يصورهم في أعماله الأدبية على هذا النحو كما هو الحال في روايته "البعث".
لم يقتصر الأمر على تصوير الشعبوية في الأدب الروسي بل تعدى ذلك إلى الأدب العالمي حيث وصلت أصداء هذه الحركة إلى كبار الأدباء والفنانين والسياسيين الغربيين الذين أبدوا اهتماماً بالغاً بنشاط الشعبويين. وقد أصبح الثوريون الروس أبطالاً بارزين لمؤلفات الأدب العالمي. ومن هذه المؤلفات رواية ألكسندر دوماس" معلم المبارزة" ومسرحية أوسكار وايلد " فيرا أو النهلستيون" ومسرحية فكتورين ساردو" فيودورا". كما نظم فكتور هيجو قصيدة دفاعاً عن هيسيا هيلفمان المحكومة بالإعدام. أما جول فيرن فقد تطرق إلى موضوع الشعبوية في رواياته" ميخائيل ستروغوف" و"القيصر كاسكابيل"و" دراما في ليفلانديا".
ومنذ منتصف القرن 19 ظهرت في روسيا مجموعة كبيرة من الكتاب الشعبويين مثل غليب أوسبنسكي ونيكولاي زلاتوفراتسكي وبافيل زاسوديمسكي وفيليب نيفودوف. وقد تميز هؤلاء بالمعرفة العميقة لحياة الفلاحين الروس والتصوير الدقيق لأحوالهم المعيشية. وتطلع المعتدلون منهم إلى إجراء تحولات اجتماعية واقتصادية سلمية بينما توجه الراديكاليون إلى الإطاحة القسرية بالنظام القائم وتحقيق مثل الاشتراكية على الفور. وقد شكلوا جميعاً تياراً أدبياً واقعياً خاصاً ضمن الأدب الروسي (نيكولاي سوكولوف. الأدب الروسي والشعبوية. دار نشر جامعة لينينغراد، 1968).
وفي مطلع القرن العشرين نشأ بروسيا حزب الاشتراكيين الثوريين على قاعدة التنظيمات الشعبوية السابقة. وقد أصبح هذا الحزب قبيل ثورة أكتوبر أكبر حزب في روسيا ووصل عدد أعضائه إلى حوالي المليون. وخلال انتخابات الجمعية التأسيسية، التي جرت عقب الثورة البلشفية، حصل الحزب على ضعف الأصوات التي نالها البلاشفة. وفي أواخر الحرب الأهلية الروسية انتهى نشاط الحزب وانضم العديد من أعضائه إلى الحزب الشيوعي الحاكم.
392 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع