وزير صحّـة بلا صحّـة... ولكن؟!

                                                                 


                                    صفوة فاهم كامل


وزير صحّـة بلا صحّـة... ولكن؟! مُستل من كتاب(من ذاكرة الأيام والأزمان)لمؤلفه: صفوة فاهم كامل

      

 

بُعيد انسلاخه عن الدولة العثمانية وفي ظل الاحتلال أو الانتداب البريطاني تشكّلت في العراق عام 1920، أول وزارة في تاريخه الحديث، سُميت بالوزارة النقيبية الأولى نسبةً إلى رئيسها عبد الرحمن الكيلاني النقيب. ومن بين وزاراتها وزارة (المعارف والصحة العمومية)، عرفت فيما بعد بوزارة الصحة.

ووزارة الصحة هي الوزارة الحاضرة في أي تشكيلة وزارية وفي ظل كل الحكومات والأنظمة المتعاقبة ولغاية اليوم، لأنها وزارة خدميّة إنسانية تُقدّم عطاًء عظيمًا لكل إنسان ولكل مواطن منذ ولادته وحتى مماته.
وقد بلغ عدد الوزراء الذين حملوا حقيبة وزارة الصحة بكل عهودها من أول وزارة ولغاية كتابة هذه السطور اثنان وثلاثون وزيرًا، بعضهم حملها مرة واحدة وبعضهم حملها لأكثر من مرَّة، لكن جلَّهم من الأطباء المعروفين الذين لهم باع طويل وخبرة متراكمة في المجال الطبي أو الصحي.
ومن بين هؤلاء الوزراء الدكتور صادق علوش، الطبيب العسكري الذي شغل منصب وزير الصحة عام 1982، وزيرًا مختصًا وبعثيًا قديمًا وطبيبًا معروفًا، لكن في عام 1988، حدث ما لم يكن بالحسبان فقد أقصيَ من منصبه حينما صوّت المجلس الوطني (البرلمان) بالإجماع على توصية بإعفائه من منصبه، في واقعة غريبة وغير مألوفة في ظل نظام حزب البعث، لا كما هو المعتاد حين يتم ذلك بإرادة رئيس الجمهورية وبمرسوم جمهوري، فكانت تلك أول وأخر واقعة تحدث في تلك الحقبة...!
وبعدها بأسابيع قليلة أي في 12أيار 1988، وعند الساعة الثامنة مساءً، خرج مذيع نشرة الأخبار الرئيسة في التلفزيون ليعلن في أول خبر له صدور أمر بتعيين سمير عبد الوهاب الشيخلي وزير الداخلية، وزيرًا للصحة وكالةً إضافة إلى منصبه. فكان خبرًا غير متوقّع؛ فاجأ الأطباء والوسط الصحي والشعب بشكل عام، في واقعة هي الأخرى غريبة أيضًا في مضمونها ...!
لا الأستاذ سمير، عرف ولا أي شخص آخر أدرك هذا الفعل...! لماذا وكيف اختار صدام حسين، رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء أيضًا، هذه الشخصية لهذا المنصب، وعلى ماذا استند من مؤهلات علمية أو تجربة سابقة أو خبرة عملية له، كي يوكله هذه الوزارة المهمّة، في وقت كانت فيه معارك التحرير الكبرى بين العراق وإيران في ذروتها وتقترب من نهايتها وضحاياها مئات الشهداء والجرحى.
ربما كان في ذهن الرئيس حسابات سياسية أو إدارية وفنّية أو تصوّرات أخرى لهذه الوزارة، وهذا هو الغموض الذي كان يكتنف صدام حسين، في الكثير من قراراته...!
وسمير عبد الوهاب الشيخلي، المولود في بغداد عام 1945، والمعروف والمشهور بلقب (أبو سمرة)؛ بعثي قديم انتمى إلى صفوف حزب البعث في بداية ستينيات القرن الماضي، تخرّج قبل انقلاب تموز 1968، في كلية الاقتصاد والعلوم-جامعة بغداد. وفي عام 1969، تولّى مناصب حزبية أمنيّة متعدّدة وكان مُرشّحاً لتولي مدير عام دائرة الإذاعة والتلفزيون في السبعينيات. وفي حينها لم يكن معروفاً لدى عامة الشعب أو شخصية متداولة في الإعلام إلا بعد أن تمَّ تعينيه أميناً لعاصمة الرشيد بغداد في نهاية عام 1978، واستمرّ فيها لغاية عام 1982. ومنها بدأ ظهوره الإعلامي اللافت بشكل شبه يومي ومن خلال عمله الواسع، خاصة وأن مدينة بغداد كانت على أعتاب تطوّر عمراني مذهل وعقود إنشائية ضخمة فنجحَ نجاحًا مبهرًا في عمله، رضي عنه البغداديّون وأعجبوا به وبشجاعته وجرأته في تنفيذ المشاريع العملاقة وما أنجزه لمدينتهم في مدّة محدودة، لا زالت أثارها شاخصة إلى اليوم.
ويعتبر سمير الشيخلي، واحداً
من الوزراء القلّة والمعدودين ممن استوزروا أكثر من وزارة لمرّات متتالية، وهذه حالة نادرة في تاريخ الوزارات العراقية على مدى قرن من الزمن. فضلًا عن تسنّمه منصب أمين العاصمة بدرجة وزير، وتسنّم منصب وزير التعليم العالي والبحث العلمي، وهي أيضًا من الوزارة المهمة والخطرة، وواظب على استيزارها لثلاث سنوات تقريبًا ونجح بإدارتها بجدارة أيضًا، بشهادة من عمل معه في تلك المدّة.
وفي عام 1987، تسنّم منصب وزارة الداخلية وهي الوزارة الأكثر تماسًّا واحتكاكًا بالشعب، ومن مهامها الأساسية حفظ الأمن وحقوق وأرواح المواطنين، ونجح فيها بكفاءة كسابقاتها، ووصلت الجرائم والسرقات والمشاكل اليومية في عهده إلى أدنى مستوياتها الإحصائية، وعاش العراق والعراقيون ردحًا من الزمن في أمن وأمان وبحبوحة من الهدوء والسكينة، وخصوصًا بعد انتهاء الحرب العراقية الإيرانية. لكنَّ هذا النعيم انفرط بعد دخول العراق إلى الكويت وخروج الشيخلي من وزارة الداخلية. كذلك تدرّج الشيخلي في درجات ومناصب حزب البعث حتى وصل إلى درجة عضو قيادة قطرية، وهي أرفع درجة بالحزب.
أسئلة مطروحة راودت المسؤولين والمعنيين وظلَّ الناس يتداولونها في الأيام الأولى من عمل الوزير الجديد في وزارة الصحة؛ فالجميع يعرفون سمير الشيخلي، شخصية عراقية وطنية برز في المجال الحزبي أو في المجال الخدمي غير الصحة، فهو لا يحمل شهادة طبّية أو أي تخصص صحي ولا أدنى خبرة في هذا المجال! فماذا سيقدّم هذا الرجل لهذه وزارة؟ وكيف سيدير الوزارة في المرحلة القادمة في ذلك الوقت الحرج؟
وهل سيستطيع سبر غور هذه المؤسسة الاختصاصية الكبيرة والغوص في أعماقها الموحلة وينجح كما نجح في وزارته السابقة؟

وبما أن السيد الوزير، كان يُدير أيضًا وزارة الداخلية أصالةً فكان لزامًا عليه أن يقسّم وقته ويوازن في عمله ما بين الوزارتين؛ فالأولى مُرهقة وواسعة والثانية تعاني ما تعانيه من ثغرات في خدماتها، وفوضى في بعض مؤسساتها ومرافقها، وأصبحت ملامة من الشعب، والقيادة السياسية تنظر إليها بعين الرقيب والترقّب بعد أن فقد وزيرها منصبه بسبب ذلك.
وأول مهمّة بدأ بها الشيخلي، فور تسلمه الوزارة هي إعادة النظر بالهيكل الإداري التنظيمي للوزارة بما يجعلها قادرة بأن تؤدي دورًا قياديًا في إدارة المؤسسات الصحية بشكل فاعل ومؤثّر حتى يضمن تقديم خدمات علاجية صحية وقائية للمريض أكثر مما هو عليه في واقعها الحالي، وبدأ بمعالجة شحّة الأدوية وسوء توزيعها فقام بجرد كل الأدوية في المخازن الرئيسة ومخازن كل المحافظات وأعاد توزيعها، بما يتناسب واحتياج كل محافظة وعدد نفوسها. وطلب الوزير أيضًا تشكيل لجنة عليا لاستيراد ما يوجب استيراده من أدوية مهمّة من أي دولة كانت ومن منشئها الأصلي ومن شركات رصينة معروفة من غير وساطة شركات ثانوية، ونقلها بالطائرة مباشرة وأوكل تلك المهمّة إلى رئيس الهيئة الوطنية لانتقاء الأدوية، وترتبط بمكتب الوزير مباشرة.
ووزارة الصحة وعلى مدى تاريخها الطويل وفي ظل كل الأنظمة والحكومات المتعاقبة كانت تقدّم خدماتها الصحية للشعب مجّانًا. أما بعد عام 2003، فالأمر اختلف جذريًا، ومن المعيب ذكْرهُ أو مقارنته مع سابقتها بأي حال من الأحوال!
عندما استلم الشيخلي الوزارة كانت هناك أدوية معيّنة لعلاجات معيّنة كانت تباع للمواطن في صيدلية خاصة بأثمان مُعتدلة، نظرًا لغلائها ونُدرتها، ومحدودية صرفها، فألغى هذه الصيدلية وجعلها مجّانية كأقرانها أيضًا، فأصبح كل ما يُقّدم للمواطن من هذه الوزارة مجّاناً.
وفي جانب إداري آخر شكّل الوزير لأول مرّة هيئات قطّاعية طبّية متخصصة، يترأسها أكفأ الأطباء في كل تخصص، وواجبات كل هيئة من هذه الهيئات هي:
اختار الدواء الفعّال لمعالجة المشكلة المرضية من مناشئ عالمية
استيراد المستلزمات الطبية الحديثة والمتطوّرة.
توزيع الأطباء الاختصاصيين على المحافظات بشكل عادل وحسب الاحتياجات المطلوبة.
توزيع خرّيجي طلبة الكليات الطبية على المستشفيات في عموم مراكز المحافظات والأقضية والنواحي.
إيفاد الأطباء إلى المؤتمرات الطبّية والعلمية خارج القطر وحسب الاختصاصات.
إقامة المؤتمرات العلمية الفاعلة في داخل القطر وكذلك فتح الدورات التدريبية التي يحتاجها الطبيب لغايات التطوير وحُسن الأداء.
بدأ الأطباء المتخصصون والأطباء بصورة عامة العمل بحرية وجدّية في المستشفيات الحكومية وبدوام كامل وتفاعل الأطباء مع سياسة الوزير الجديد حرصًا منهم على تقديم ما لديهم من إمكانيات طبّية، وأصبح الكادر الطبي متأهبًا لاستقبال المرضى من باب المستشفى بكل إمكانياتهم وحتى خروجه سالمًا معافى، وتلمّس المرضى هذه الإجراءات بوضوح وأتت أكلها. فضلًا عمل الأطباء في عياداتهم الخاصة التي عدّها الوزير مصدرًا للمستشفيات العامة، وعاملًا مساعدًا وعنصرًا مهمًا في امتصاص الزخم الحاصل عليها وربّما الشفاء قبل مراجعة المستشفى. ومن جهة ثانية بات الطبيب الاختصاصي أو الاستشاري متواجدًا في العيادة الخارجية للمستشفى على مدار الساعة بعد أن كانت تلك المهمّة محصورة بالطبيب المقيم فقط.
وأنشأ الوزير (دائرة خاصة) في الوزارة تتولى مسؤولية تعقيم كل المستشفيات الحكومية وبخاصة غرف العمليات وما هو أدنى منها، ولكل محافظات القطر، وربما كانت هذه سابقة غريبة في هذا المجال. وأنشأ أيضًا (دائرة خاصة) أخرى للتغذية الصحّيّة وفق قياسات طبّية دولية، بما يناسب طبيعة كل مريض ومرضه. وفي عهده بدأت المستشفيات تأخذ منحى آخر من الاهتمام والنظافة والخدمات الصحية، ولمدة طويلة أشادت بها المنظمات الدولية من خلال زيارتها التفقدية وتقاريرها الدورية استكمالًا لسنوات سابقة من تطور الجانب الصحي في العراق.
وبعملهِ في وزارة الداخلية وقبلها في الجهاز الحزبي؛ تراكمت لسمير الشيخلي، خبرة في الحس الأمني وولّد لديه قدرة في الحصول على المعلومة والوصول إليها في أي موقع، وهذا ما انعكس على عمله في وزارة الصحة، فقد وضع في كل مستشفى عيونًا ساهرة على أداء جميع العاملين وسير العملية الإدارية فيها، حتى يقوم بمتابعتهم شخصيًا في ضوء ما يصله من معلومات عكسية.
وكان الطبيب في المستشفيات الحكومية يعاني ما يعانيه من تجاوزات واعتداءات من المراجعين ومن المرضى ومرافقيهم ومن حاشية بعض المسؤولين، وولّدت تلك الحالات ردّة فعل عكسية وتخوّفًا من الأطباء والكادر الصحي والموظفين كحالة غير حضارية في المجتمع.
وأوعز الوزير في حينها باعتباره وزيرًا للداخلية أيضًا بتواجد دائم لسيارة شرطة نجدة مع أفرادها أمام كل مستشفى حكومي، فبدأ الطبيب يشعر بالاطمئنان النفسي وبهيبته ومكانته بين معيّته ومرؤوسيه سواء في المستشفى أو في الحياة الاجتماعية العامة.
وكمثال لهكذا حالات وتمَّ معالجتها، ويتذكّرها المعنيّون في حينها عندما أقدم مدير عام في رئاسة الجمهورية وهو شاعر معروف، بالتجاوز الجسدي واللفظي على طبيب في مستشفى اليرموك؛ فوصلت تلك الحالة السلبية إلى مسامع الوزير على الفور. وتأكيدًا على تنفيذ توجيهاته في هذا الشأن وفرض الهيبة للمؤسسة الصحية وتطبيق القانون على الجميع فقد أمر بردع هذا الشخص أمام الجميع وإيداعه التوقيف من غير الرجوع إلى دائرته التي تتطلب ذلك، أو هكذا كانت الأوامر الصادرة حينذاك حيال موظفيها. ولقي موقف الوزير هذا ارتياحًا من كل الأطباء ومن أعلى السلطات الحكومية، وصدر بيان رسمي نُشر في الصحف والإعلام بمعاقبته، فكانت تلك الإجراءات عبرة لمن لا يعتبر ...!
وبما أن المستلزمات الطبّية، هي عصب العمل الطبي وعامل مهم في نجاح كل مستشفى أو مركز صحي، فقد كانت هذه المستلزمات هي الأخرى تعاني ما تعانيه من كثرة العطلات والإهمال الذي أدى إلى نقصها في عموم المستشفيات، وكان العراق حينها يعاني من ضائقة اقتصادية بسبب الحرب ودخوله حالة تقشّف قصوى. فقام الوزير بجمع تلك المستلزمات من كل المحافظات ونقلها إلى العاصمة، وبدأ بحملة فورية كبرى لتصليحها وإدامتها أسهم مهندسو هيئة التصنيع العسكري في ذلك، ووفرت لهم كل الوسائل المتاحة لإنجاح هذه الحملة وبالفعل نجحت. وأُعيد توزيعها على المستشفيات والمراكز الصحية ونتج منها فائض كبير فأُقيم معرض تجاري كبير في مخازن (الدّبّاش) لتباع إلى المستشفيات والعيادات الأهلية بأسعار زهيدة. واتخذت الإجراءات نفسها من الوزير بالنسبة لسيارات الإسعاف الفوري حتى تم تصليحها بالكامل، ووزعت في مناطق منتخبة من العاصمة لتقدّم إسعافاتها فورًا وخلال دقائق، وفي بعض المناطق المزدحمة، وبخاصةً التجارية منها، كانت عجلة إطفاء ترافق سيارة الإسعاف في حالات الطوارئ.
وفي واقعة يتذكرها أهالي المناطق السكنية المجاورة لوزارة الصحة في الباب المُعظّم والمناطق المقابلة لها عبر نهر دجلة، ما جرى لمستشفى مدينة الطب ذلك الصرح الكبير، والذي يفتخر به كل عراقي عندما نهضوا صباح أحد الأيام وشاهدوا سيارات الإطفاء الحمراء وقد التفّت حول المستشفى وهي تُسدّد مياهها القوية وتقذفها باتجاه واجهة المستشفى من كل زاوية، ورجال الإطفاء منهمكون كخلية نحل مع خراطيمهم وعجلاتهم، وساور الناس القلق وضنّوا أن النيران تلتهم هذا البناء الشاهق من الداخل...! لكن الواقع كان العكس تمامًا فهي عملية فورية لغسل واجهات المستشفى الأربع بقوة الماء، وهي الأولى منذ إنشائها في الستينيات، وكان هذا الإجراء بتوجيه من الوزير لتكتمل مستشفى مدينة الطب بأجمل حلّة لها بكل مرافقها في عهد مديرها الهمام آنذاك. فكانت حادثة طريفة وغريبة، لا زال الكثير من أهالي هذه المناطق يتذكرونها.
إن من يقرأ هذه المنجزات والمآثر والمواقف للسيد سمير الشيخلي لا بد من أن يخرج بتوقع زمني لكل ما جرى وحدث في عهد وزارته للصحة، لا يقل عن سنة تقويمية، لكن الواقع والحقيقة التي قد لا تصدّق هي أنها فترة وجيزة لم تتعدّى خمسة وسبعين يومًا، هي كل مدّة وكالته لهذه الوزارة، وأعفي منها في 31 تموز 1988، في واقعة هي الأخرى غريبة بل أغرب من واقعة تعيينه، ليحل محلّه وزير جديد هو المهندس عبد السلام محمد سعيد...!
وبذلك يكون سمير الشيخلي قد دخل تاريخ الوزارات العراقية كثاني وزير صحة بلا صحة... في الدولة العراقية الحديثة أي بلا مؤهل طبيي أو صحي يؤهله تولّى منصب وزير الصحة كما هو معروف ومعتاد في كل أنحاء العالم. وكان الوزير عبد الرحمن جودت، هو الآخر بلا مؤهل طبي قد شغل هذا المنصب في وزارة مصطفى العمري عام 1952.
وتأسّف منتسبو الوزارة وأطبّاؤها وصدمهم هذا القرار، لتبدأ مرحلة جديدة من إدارة هذه الوزارة بوزير جديد الذي هو الآخر لم يكن طبيبًا!
إن أغلب الخطط التي وضعت والأهداف والاستراتيجيات التي اتخذها الوزير رأت النور بسرعة وأخذت طريقها إلى التنفيذ في هذه المدّة القصيرة، وأصبحت فيما بعد خطوطًا عريضة لسياسة الوزارة لزمن قادم.
والسؤال الذي يمكن أن يسأله القارئ أو المتابع بعد سؤاله السابق: ترى ماذا كان سيحدث لهذه الوزارة وماذا ستقدّم للمواطن لو بقيَ السيد سمير الشيخلي، على رأسها ردحًا آخر من الزمن، وماذا سيجني المواطن ويلتمس من بقية إجراءاته وأفكاره وطموحاته...؟
والمعروف عن شخص السيد سمير الشيخلي، وطبيعته أنه رجل صِدامي في عمله حد استخدام قوة اليد أحيانًا أو هكذا عُرف عنه، شديد القسوة في التعامل مع المخطئ المهمل، صارم في تطبيق القانون مهما كانت صفة الشخص، لا يجامل أحدًا، عصبي المزاج، صعب المراس، لكنه صادق في وعوده، أمين في عمله، حريص على معيّته، مخلص لوطنه لا تشوبها شائبة في ذلك، لم يعاقب أي موظف طيلة حياته العملية خارج إطار القانون والصلاحيات الممنوحة ممن هم تحت إمرته، لأن هدفه وإيمانه في العمل إسقاط الخطأ من الإنسان وإصلاحه، لا إسقاط الإنسان نفسه، وهذه رسالته في الحياة لكنه في المقابل رجل طيّب القلب، نقي السريرة، دمث الخلق...!
كل ما ذكرته أعلاه وتناولته وعرفت عنه أكثر جاء من خلال لقاء شخصي طويل وممتع معه في شقّته المتواضعة بمدينة عمان صباح يوم 1 حزيران 2021، ولقاءات أخرى متوالية، وأيّد كل كلامه وهذه المعلومات التي أوردتها في هذه السطور أحد مساعديه المقرّبين مدّة عمله السابقة في الوزارة.
وبعد احتلال بغداد الأبيّة في نيسان 2003، بمدّة وجيزة ألقت قوات الاحتلال الأمريكي القبض عليه وأودعته سجن بوكا، على الرغم من أنه لم يكن مطلوبًا لديهم ضمن قائمة الخمسة والخمسين سيئة الصيت أو في أي قضية أدين فيها، إلا أن عملاء الاحتلال وأذنابهم وخونة الداخل، أوشوا به، فظلَّ قابعاً في سجون الاحتلال أربعة أشهر تقريبًا قبل أن يُطلق سراحه لعدم وجود أي تهمة أو شكوى ضدّه.
والآن وبعد هذه السنين الطوال وبعد كل ما حدث لبلده العراق وما جرى لمدينته بغداد فان الأستاذ سمير الشيخلي، وهو في خريف العمر تجاوز الخامسة والسبعين منه، وبعد أن فقد أعزّ الناس إليه زوجته ورفيقة دربه، وتغربَّ فلذة أولاده عنه وعن بلادهم؛ فانه الآن يقيم وحيدًا صامدًا في بلده الثاني الأردن، لكن بلا إقامة رسمية ولا قانونية، لا يملك جواز سفر أقرّه له الدستور(الإصلاحي) بلا قيد أو شرط، معاشه الشهري الضئيل ومصدر رزقه الوحيد ابتلعته الحكومة العراقية الحالية. ومع كل هذا وذاك فما زالت عيناه وقلبه على بغداد من بعيد وقلبه يعتصر على العراق وأهله، وما زال متفائلًا ومتمسّكًا بالحياة ومبتسمًا لها على الرغم مّما أصابه من وجع الأحداث وعثرات السنين، بعد أن قدّمَ ما يرضى الله وضميره وخدم الدولة والشعب بكل جوارحه مدّة ناهزت الربع قرن، وخرج منها عفيفًا نظيف اليد وطاهر الأثواب. أما بيته وروضة أطفاله في حبيبته بغداد، فما زال مُغتصب من قبل المليشيات المشبوهة وما أكثرها. 
وللأسف فإن القانون وميزانه العتيد نائم وغافل عن كل ما يجري، فهل سيصحى ويصحى معه الشعب ليقول كلمته الأخيرة ويضعها في ذلك الميزان أم سيبقى الحال على ما هو عليه من ظُلم وجور لهؤلاء الرجال ...!
وصدقَ ذلك الإعرابيُّ حين أَرسلَ للإمام الحسن بيتين من الشعر، يستنجده من خلالهما:
لم يبقَ عندي ما يباع ويُشتـرى

ويُشترى

يكفيك رؤية مظهري عن مَخبـري
مخبري
إلّا بقيّة ماءَ وجه صنتهُ

عن أن يباع وقد وجدّتك مُشتري

وعلى أمل أن تردَّ الحكومة العراقية كما ردَّ الإمام على هذا الأعرابي حين قال له:
عاجلتنا فأتاك عاجل برنا

ويُشترى

طلّاً ولو أمهلتنا لم نُقصـّرِ
مخبري
فخذ القليل وكن كأنك لم تب

ما صنته وكأننا لم نشتـرِ

فكما كان للخليفة العظيم أبو جعفر المنصور الفضل في بناء مدينة بغداد، وازدهارها عبر التاريخ ... فإن للأستاذ سمير الشيخلي فضله في إعمار تلك المدينة من جديد وإظهارها بحلّة أخرى في زمانه، وسيظل العراقيون عمومًا والبغداديون خاصةً يتذكرون لعقود من الزمن هذا الرجل وإنجازاته الخالدة لمدينتهم وبلادهم وفضله الوارف عليهم، وسيبقى اسمه عالقًا في أذهانهم إلى ما شاء الله...!

*كان وزير الداخلية الهمام السيد عثمان الغانمي، وخلال زيارته إلى عمان ولقاءه بالجالية العراقية بتاريخ ١٨/٩/٢٠٢١، قد وعدَني وأمام السفير العراقي، بانه سيعمل على إصدار جواز سفر للأستاذ سمير، لأنه حق دستوري، ووجه أمراً مباشراً بذلك لمدير الجوازات الذي كان حاضراً اللقاء. وما زال ذلك الأمر هواءٌ في شبك.

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

636 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع