د. جابر أبي جابر
ثورة فبراير عام 1917 في روسيا وتداعياتها
- الوضع الناشئ في روسيا عشية الثورة
أسفر دخول روسيا القيصرية الحرب العالمية الأولى في مطلع آب/ أغسطس عام 1914 إلى جانب فرنسا وبريطانيا عن تفاقم تدريجي لأوضاع السكان المعيشية مما أدى إلى اضطرابات في صفوف العمال والجنود. وقد زاد في الطين بلة الإخفاقات العسكرية للجيش الروسي بالجبهة في مواجهة جيوش ألمانيا وألنمسا- المجر وكذلك نفوذ راسبوتين الواسع في أروقة السلطة وتدخل القيصرة ألكسندرا فيودورفنا بشؤون الدولة. وفضلاً عن ذلك فإن قيادة نيكولاي الثاني للجيش الروسي لم تكن ناجحة ولم يرغب القيصر في السماع إلى نصائح الدوما.
وفي ضوء ذلك كان المجتمع الروسي عند تخوم العامين 1916 و1917 يتلهف إلى إيجاد مخرج معقول من الوضع السياسي غير الطبيعي، الذي يزداد غرابة وتوتراً يوماً بعد يوم. وقبل مقتل راسبوتين بعث ميخائيل رومانوف إلى شقيقه القيصر رسالة يحذره فيها من أن الأسرة الحاكمة ستهلك لا محالة إن لم يسارع بتشكيل حكومة مسؤولة أمام الدوما وأضاف قائلاً:" إنني أشعر بقلق بالغ جراء كل ما يجري حولنا، إذ تشهد ميول خيرة الناس تغيرات مدهشة وألاحظ من كل الجهات تبدل نمط التفكير. وهذا الأمر يثير لدي أفظع المخاوف لا عليك وعلى مصير عائلتنا فحسب، بل وعلى وحدة كيان الدولة أيضاً. أما الكراهية الشاملة إزاء بعض الأشخاص المقربين إليك وكذلك تجاه أعضاء القوام الحالي للحكومة فإنها وحدت اليمينيين واليساريين مع المعتدلين. وإن هذه الكراهية وهذه المطالبة بالتغيير يجهر الناس بهما لدى كل فرصة سانحة. وفي ضوء ذلك توصلت إلى قناعة مفادها أننا نقف في فراغ وأن أصغر شرارة قد تسبب كارثة لك ولنا جميعاً ولروسيا".
وكان بعض فصائل المعارضة السياسية يزداد قناعة بضرورة تشكيل حكومة تشغل فيها "كتلة التقدميين" الحقائب المفصلية. أما مجموعة نواب الدوما برئاسة زعيم الليبراليين المعتدلين الكسندر غوتشكوف المعروف بميوله الملكية فقد عكفت مع ذلك على إعداد انقلاب للإطاحة بنيكولاي الثاني من أجل الحفاظ على سلالة رومانوف من الانهيار. وفي كانون2/يناير عام 1917 حذر حفيد نيكولاي الأول الأمير الأكبر الكسندر ميخائلوفتش القيصر قائلاً:" إن وقائع الانهيار والتعسف ماثلة للعيان حيث يزداد الاستياء بسرعة كبيرة وتتسع الهوة بينك وبين الشعب مما يدفعني إلى الشعور باليأس التام من جراء عدم رغبتك في الاستماع إلى أصوات، الذين يعرفون في أي حال تقع روسيا الآن وينصحونك باتخاذ الإجراءات، التي من شأنها أن تخرج البلد من حالة الفوضى هذه".
وفي هذه الأثناء فإن الأحزاب الثورية المعادية للحرب والسلطة، والتي أصبحت شعاراتها تلقى صدى واسعاً في البلد، كانت ترى أن الوضع ليس ناضجاً بعدْ لإجراء انقلاب من أجل إسقاط النظام القيصري. وبهذا الخصوص أعلن نيكولاي تشخيدزه زعيم المناشفة بمجلس الدوما في كانون 2/ يناير عام 1917 قائلاً: " ليس بوسعنا حالياً التعويل على إمكانية إنجاز ثورة ناجحة. وحسب المعلومات المتوفرة لدي فإن الشرطة تحاول التحريض على اندلاع الفتن وجر العمال إلى الشوارع لكي تنكل بهم"(ميخائيل غيللر والكسندر نيكريتش. الطوباوية في السلطة. موسكو، دار نشر"ميك"،2000). أما لينين المنسلخ عن روسيا والذي لم يكن يصله إلى زيورخ سوى النزر اليسير من المعلومات فإنه، على غرار تشخيدزه، صرح في كانون 2/ يناير عام 1917 خلال اجتماع الشبيبة الديمقراطية الاشتراكية في زيوريخ: "إننا نحن أبناء الجيل القديم قد لا نعيش لنرى المعارك الحاسمة للثورة المقبلة"(المصدر السابق). وفي ذلك الوقت أشار ممثل المكتب الروسي للجنة المركزية البلشفية في بتروغراد الكسندر شلابنيكوف إلى أن كافة المجموعات والتنظيمات، التي تمارس النشاط السري، تعارض القيام بتحرك ما في الأشهر القادمة من عام 1917. وهكذا نرى أن الجميع في البلد ينتظر تغييرات حتمية باستثناء الثوريين. وكما قال عضو الدوما فاسيلي شولغين فيما بعد فإن الثوريين كانوا غير مستعدين بينما كانت الثورة جاهزة.
عقد في منزل رئيس الدوما ميخائيل رودزيانكو اجتماع حضره الجنرال كريمسكي، الذي قدم تقريراً مسهباً عن الوضع اختتمه بما يلي: " يسود في صفوف الجيش مزاج يدفع الجميع للترحيب بكل اعتزاز بخبر الانقلاب على السلطة. فالانقلاب سيحصل لا محالة ويشعرون بذلك في الجبهة. وإذا قرروا اللجوء إلى هذا الإجراء الأخير الحاسم فإننا سنؤيدهم، حيث من الواضح أنه ليس هنالك وسائل أخرى. فأنتم جربتم كل شيء مثل آخرين كثيرين. ولكن التأثير الضار للقيصرة أقوى من الكلمات المخلصة، التي قيلت للقيصر. فلا ينبغي إضاعة الوقت بعد الآن".
وقد أعرب العديد من الضيوف عن تأييدهم للانقلاب بينما رفض المضيف هذا الطرح وطلب عدم الحديث عن هذا الأمر في بيته مضيفاً أنه " إذا استطاع الجيش القيام بذلك عن طريق قادته فليقم، أما أنا فسأبقى حتى اللحظة الأخيرة مستخدماً سياسة الإقناع بدلاً من العنف".
في مطلع شباط/ فبراير عام 1917 بعث رودزيانكو إلى القيصر رسالة قدم فيها صورة قاتمة للغاية حول مجمل الوضع السائد في الفترة الأخيرة بالبلد وخاصة الحالة المزرية التي وصلت إليها سياسة الحكومة.
وفي 10 شباط/فبراير من العام نفسه ذهب رودزيانكو إلى المقر الصيفي للقيصر في ضواحي بتروغراد (تسارسكويه سيلو) لتقديم تقريره حول الأوضاع المتردية في الجيش وبتروغراد وتحذير نيكولاي الثاني من أن الثورة لا بد أن تندلع قريباً في حال عدم تشكيل حكومة جديدة مسؤولة أمام الدوما. وقد رد القيصر على هذا التحذير بقوله : "ليكن الله في عوننا!" فأجابه رودزينكو: "لن يعينك الله. لقد أفسدت أنت وحكومتك كل شيء ولا مفر إذن من الثورة". (ميخائيل رودزيانكو. انهيار الإمبراطورية. موسكو، دار نشر"انتربوك"، 1990).
كانت الاضطرابات في بتروغراد قد بدأت حتى قبل الوقت، الذي كان يتوقعه رئيس مجلس الدوما أي بعد بضعة أيام من تقديمه التقرير المذكور لنيكولاي الثاني. ففي 23 شباط/ فبراير المصادف لعيد المرأة العالمي قررت العاملات في مصانع النسيج ببطرسبورغ الخروج بمظاهرة حاشدة للاحتفال بهذه المناسبة والتعبير، في الوقت نفسه، عن الاستياء الشديد من أوضاعهن المعيشية. وقد تسنى لهن ضم الآلاف من عمال المصانع الأخرى إلى المتظاهرات. وأخذت حشود المتذمرين تتجمع في شتى أحياء ومناطق بتروغراد مطالبة بالخبز. وفي 26 من الشهر نفسه قامت الفصيلة الرابعة من فوج بافلوفسكي بإطلاق النار على شرطة الخيالة وشرع الجنود بالانتقال إلى صفوف المتظاهرين. وفي هذا الوقت أعلنت المعارضة البرلمانية عن قناعتها بأن تشكيل حكومة مسؤولة كفيل بإنقاذ الوضع. وقد أبرق رودزينكو إلى القيصر: "الحكومة مصابة بالشلل حيث يتزايد تذمر السكان ويجري في الشوارع إطلاق النار على نحو عشوائي. كما أن وحدات الجيش تقصف بعضها بعضاً. ولهذا من الضروري تكليف شخصية تتمتع بثقة البلد لتشكيل حكومة جديدة. ولا يجوز التباطؤ في هذا الأمر على الإطلاق". غير أن رد القيصر بشأن الخطر المحدق بروسيا والسلالة الحاكمة جاء بتعليق أعمال مجلس الدوما لمدة شهرين (المصدر السابق).
أما المعارضة الثورية، التي فوجئت بالحركة العفوية المتصاعدة، فلم تكن تدري ما الذي ينبغي القيام به في ظروف كهذه واكتفت بالأحاديث حول الحرب والاضطرابات الجارية. ففي شقة الكسندر كيرنسكي، حيث اجتمع ممثلو معظم الأحزاب والتنظيمات السياسية وضمنهم المناشفة والاشتراكيون الثوريون والبلاشفة ورجالات كتلة "ترودوفيكي"، قام قسطنطين يورينيوف القريب من البلاشفة بإخماد حماس الحاضرين بقوله : "لا يمكن الحديث الآن عن الثورة فالردة الرجعية تتزايد بينما نجد لدى العمال والجنود أهدافاً مختلفة. ويجب علينا أن نحضّر أنفسنا لمرحلة طويلة من السطوة الرجعية وأن نتريث ونشغل موقف الراصد للأحداث". وقد كان واضحاً لجميع الحاضرين أن يورينيوف يعبر عن وجهة نظر حزب البلاشفة. كما أن مذكرات فاسيلي كايوروف، الذي كان أحد قادة منظمة الحزب في بتروغراد، تشير إلى أن الأحداث في العاصمة جاءت مفاجئة بالنسبة للبلاشفة وأنه لم ترد أي تعليمات من قيادة الحزب الكائنة في الخارج. وفي مساء 26 شباط/ فبراير لم يكن لدى كايوروف أي شك في انقضاء وزوال شبح الثورة قريباً. فقد جُرّد المتظاهرون من السلاح وحسب اعتقاده لن يستطيع أحد من الآن وصاعداً أن يرد على الحكومة، التي اتخذت تدابير حاسمة لإخماد الاضطرابات. وبقي البلاشفة متمسكين بموقف المراقب ليس فقط لكونهم فيما بعد أُخذوا على حين غرة باندلاع المظاهرات في بتروغراد، وإنما أيضاً لأن لينين كان في خريف عام 1916 قد منع شليابنيكوف منعاً باتاً من إقامة أي تعاون مع بقية الأحزاب الاشتراكية.
وهكذا فإن تعاظم زخم الحركة الثورية في عاصمة الإمبراطورية الروسية دون توفر القيادة لم يتم لكونها حركة قوية، إذ أنها بدت للثوريين المحترفين ضعيفة ومحكومة بالفشل، وإنما لأن خصمها أي النظام القيصري كان ضعيفاً. وفي هذا الصدد أشار نائب الدوما فاسيلي شولغين إلى أنه كان يتعذر آنذاك في هذه المدينة الضخمة إيجاد بضع مئات من الأشخاص المتعاطفين مع السلطة.
- ثورة فبراير وتخلي القيصر عن العرش.
عند ظهيرة يوم 27 شباط/ فبراير عام 1917 انتقل زهاء 25 ألف جندي إلى جانب المتظاهرين فأصبحت بتروغراد برمتها في أيدي الثوار بما في ذلك قلعة بطرس وبولس. وقد اتضح أن ذلك كان كافياً لتحويل التمرد أو الانتفاضة إلى ثورة شعبية حقيقية. وطبعاً لم يكن المتظاهرون في تلك اللحظات يدركون أنهم قد انتصروا. كما لم يكن المهزومون يعرفون أنهم قد هُزموا. وفي مساء 27 شباط / فبراير توجه آلاف الجنود إلى مجلس الدوما بحثاً عن السلطة والحكومة. ولكن الدوما، التي كانت تحلم دائماً بالسلطة، وجدت بشق الأنفس الجرأة على المبادرة بإنشاء "هيئة الدوما المؤقتة"، التي أخذت على عاتقها مسألة إعادة النظام وإحلال الأمن. وقبل ظهور هذه الهيئة ببضع ساعات جرى تشكيل أول مجلس منتخب (سوفيت). وقد طلب هذا المجلس من عمال بتروغراد إرسال ممثل لهم عن كل ألف عامل. وفي المساء انتُخب الزعيم المنشفي نيكولاي تشخيدزه رئيساً لسوفيت بتروغراد وأصبح العضوان اليساريان في مجلس الدوما الكسندر كيرنسكي وميخائيل سكوبيليف نائبين له. وكان عدد البلاشفة في هذا المجلس قليلاً جداً بحيث أنهم لم يتمكنوا من تشكيل كتلة خاصة بهم. وفي 28 شباط/ فبراير قام بحارة كرونشتادت بتصفية حساباتهم مع قادتهم فدبت فوضى عارمة في هذه القاعدة البحرية الروسية.
في هذه الأثناء، حيث صار في بتروغراد سلطتان، كان نيكولاي الثاني يتوجه بالقطار إلى المقر الصيفي بضواحي بتروغراد (تسارسكويه سيلو) قادماً من قيادة الأركان الواقعة بمدينة موغيليوف. وقد قطعت الحشود الثائرة الطريق قرب مالايا فيشيرا . ومن جديد أمر القيصر بالتوجه إلى تسارسكويه سيلو عبر محطة " دنو" للسكك الحديدية حيث اعترض الثائرون طريقه مجدداً. وهنا ذهب إلى بسكوف حيث مقر الجبهة الشمالية. وخلال هذا الوقت شكلت اللجنة المؤقتة للدوما بالتنسيق مع سوفيت بتروغراد حكومة مؤقتة برئاسة الأمير لفوف. وقد وقع القيصر مرسوما بتعيين لفوف رئيساً للوزراء والجنرال لافر كورنيلوف قائداً لمنطقة بتروغراد العسكرية. وقررت الحكومة على الفور عدم إرسال القطعات المشاركة في الثورة إلى الجبهة. وفي ليلة الثاني من آذار/مارس أبلغ رئيس الدوما القيصر مطلب سوفيت بتروغراد بضرورة تخليه عن العرش مؤكداً أن الكراهية للسلالة الحاكمة وصلت إلى أقصى الحدود وأن الجماهير والقوات المسلحة قد عقدت العزم على القتال حتى النهاية الظافرة . وبعد إرسال الجنرال ألكسييف برقيات بهذا الخصوص إلى قادة الجبهات والأسطول أعرب معظم القادة العسكريين عن تأييدهم لهذا المطلب بينما وقف البعض ضده أو التزموا الصمت.
أخيراً اضطر القيصر إلى التخلي عن العرش في 2 آذار/ مارس لصالح شقيقه ميخائيل رومانوف وذلك بعد أن أبلغه الجنرال ميخائيل الكسييف، المدعوم من قبل قادة كافة الجبهات الخمس، أن التخلي عن العرش هو الفرصة الوحيدة لاستمرار الحرب ضد المانيا. وقد أعلن اثنان فقط من قادة الجيش وهما الكونت فيودور كيللر وحسين خان ناختشيفان عن دعمهما لنيكولاي الثاني واستعدادهما لإخماد التمرد على الفور وذلك في برقيتين مرسلتين إلى القيصر. غير أن الجنرال الكسيف أخفى عن القيصر هاتين البرقيتين. والجدير بالذكر أنه لم يكن أحد منهما من أتباع الكنيسة الأرثوذكسية إذ كان الأول بروتستانتياً والثاني مسلماً. وقد كان هنالك جنرالات وضباط وجنود ووحدات عسكرية برمتها جاهزة للدفاع عن القيصر، ولكن لم يستدعيهم أحد في تلك اللحظة التاريخية الدرامية. أما ميخائيل رومانوف نفسه فإنه ترك البت في مسألة استلامه العرش لحكومة منتخبة بعد انعقاد الجمعية التأسيسية . وفي ذلك اليوم العصيب كتب نيكولاي الثاني في مفكرته " أرى من حولي الخيانة والجبن والخداع"(أندريه زوبوف. تاريخ روسيا في القرن 20 . موسكو، دار نشر"اكسمو" المجلد(1)، ص. 486-487).
كانت الأمزجة المعارضة قد امتدت إلى الأوساط العسكرية العليا والجهاز البيروقراطي وبلغت حتى الأمراء الكبار من عائلة رومانوف الحاكمة، الذين قرروا إنقاذ النظام الملكي من القيصر نفسه.
على كل حال لم يكن تنازل نيكولاي الثاني عن العرش لشقيقه ميخائيل شرعياً من وجهة نظر القوانين الروسية وخاصة قانون توريث العرش الصادر في عهد القيصر بافيل الأول، والذي ينص على انتقال العرش من الأب إلى الابن. ولهذا كان عليه تسليم العرش لنجله ألكسي. وبما أنه كان على يقين تام من أن نجله المريض بالنزف الدموي (الناعور) عاجز عن ممارسة مهام القيصر، ولاسيما أن الأطباء أبلغوه بأن ألكسي لن يعيش طويلاً، فقد اضطر إلى مخالفة القواعد المتبعة والتخلي عن العرش لصالح شقيقه.
لم يشارك البلاشفة بشكل فعال في ثورة فبراير نظراً لأن الكثيرين منهم ولا سيما القادة كانوا في السجون والمنفى أو خارج البلد. كما أن العدد الإجمالي لأعضاء الحزب في البلد آنذاك لم يكن يتجاوز 23 ألفاً منهم حوالي الألف عضو في بتروغراد. وفي الأسابيع الأولى للثورة كان نوابهم في سوفيت بتروغراد يشاطرون المناشفة والاشتراكيين الثوريين مواقفهم إزاء الحكومة المؤقتة. ولكن سرعان ما تبدل الوضع في الحزب على نحو جذري. فبعد إعلان العفو السياسي العام بدأ نشطاء الأحزاب الثورية بالتوافد على بتروغراد عقب خروجهم من السجون وعودتهم من المنفى وبلاد الاغتراب. وقد رجع لينين ورفاقه إلى روسيا في 3 نيسان/أبريل بعد أن رتبت السلطات الألمانية مسألة عبورهم الأراضي الألمانية في عربة قطار مغلقة.
وهكذا فقد انهار نظام القيصر نيكولاي الثاني في روسيا بتأييد شامل من جانب الثوريين والليبراليين والموالين للملكية وأصبحت روسيا تنعم بالحرية. وجرى ذلك على نحو خاطف وغير مفهوم تقريباً بالنسبة للمشاركين في هذه الثورة مع سقوط ضحايا قليلة مقارنة بالمقاييس اللاحقة إذ بلغ عددهم 167 شخصاً وجرح حوالي الألف. ولم تشهد روسيا في تاريخها مثل هذا الإجماع للقوى المعادية للحكومة، ومن جهة أخرى لم يكن البلاط القيصري في السابق معزولاً إلى حدّ كهذا.
تشكلت الحكومة المؤقتة من ممثلي المعارضة البرلمانية السابقة. وقد أعلنت هذه الحكومة، التي جاءت من رحم الدوما، عن عزمها متابعة الحرب وعقد الجمعية التأسيسية لتحديد مسألة النظام المقبل في روسيا. ولم يكن لينين يؤمن بهذه الثورة إذ اعتبرها محصلة مؤامرة من تدبير "الإمبرياليين البريطانيين والفرنسيين".
- إعلان الحكومة المؤقتة
“أيها المواطنون!
لقد توصلت الهيئة المؤقتة لأعضاء مجلس الدوما بمساعدة قوات العاصمة وتعاطف السكان إلى تحقيق نصر كبير على القوى الغاشمة للنظام القديم مما أتاح المجال للشروع في إقامة سلطة تنفيذية متينة.
ولهذا الغرض عينت الهيئة المؤقتة القوام الوزاي لأول حكومة وطنية من الشخصيات التالية، التي سبق أن اكتسب نشاطها السياسي والاجتماعي ثقة البلاد والجماهير.
رئيس الحكومة ووزير الداخلية غيورغي لفوف
وزير الخارجية بافيل ميلوكوف
وزير الحربية الكسندر غوتشكوف
وزير المواصلات نيكولاي نكراسوف
وزير التجارة والصناعة الكسندر كونوفالوف
وزير التعليم الوطني الكسندر مانويلوف
وزير المالية ميخائيل تيريشينكو
وزير الزراعة أندريه شينغاريوف
وزير العدل الكسندر كيرنسكي
وزير الرقابة الحكومية ايفان غودنيوف
مفوض شؤون فنلندا فيودور روديتشيف
النائب العام للمجمع الكنسي المقدس (السينودس) فلاديمير لفوف.
وتعتزم الحكومة تحقيق الأمور التالية:
1- العفو العام الفوري عن كافة القضايا السياسية والدينية بما في ذلك الأعمال ذات الطابع الإرهابي والتمرد العسكري والجرائم الزراعية إلخ.
2- ضمان حرية التعبير والصحافة والجمعيات والإضرابات مع شمول الحريات السياسية العسكريين ضمن الأطر، التي تتيحها الظروف العسكرية الفنية.
3- إلغاء كافة القيود الطبقية والدينية والقومية.
4- البدء فوراً في التحضير لانتخابات الجمعية التأسيسية على أساس الاقتراع العام السري والمباشر والتي ستقرر شكل الحكم والدستور.
5- استبدال البوليس بالشرطة الشعبية (الميليشيا) مع انتخاب الرؤساء، الذين سوف يعملون تحت إشراف ورقابة هيئات الإدارة المحلية.
6- إجراء انتخابات الإدارة المحلية على أساس الاقتراع العام السري والمباشر.
7- الامتناع عن تجريد القطعات العسكرية المشاركة في الحركة الثورية من السلاح وعدم إخراجها من بتروغراد.
8- إزالة كافة القيود المفروضة على الجنود بحيث يتمتعون بالحقوق الاجتماعية المتاحة لجميع المواطنين الآخرين شريطة الحفاظ على الانضباط العسكري الصارم وتأدية الخدمة العسكرية. وترى الحكومة المؤقتة من واجبها التعهد بأنها لا تنوي البتة استغلال ظروف الحرب لتأخير تنفيذ الإصلاحات والتدابير المذكورة.
رئيس مجلس الدوما ميخائيل رودزيانكو
رئيس الحكومة المؤقتة الأمير غيورغي لفوف
الوزراء: ميلوكوف ونكراسوف وكونوفالوف ومانويلوف وتيريشينكو ولفوف وشينغاريوف وكيرنسكي.
صدر في 2/3/1917 "
خلال بضعة أيام ظهر عملياً مركزان للسلطة في مكان واحد (مبنى مجلس الدوما) ووقت واحد (مساء 27 فبراير) وهما :
1- الهيئة المؤقتة لنواب مجلس الدوما، التي ضمت أعضاء مكتب كتلة التقدميين البرلمانية وكتلتي المناشفة و"ترودوفيكي"، والتي قامت بتشكيل الحكومة المؤقتة من ممثلي المعارضة في مجلس الدوما.
2- اللجنة التنفيذية لسوفيت نواب العمال والجنود المؤلفة من ممثلي الأحزاب الثورية برئاسة المنشفي نيكولاي تشخيدزه .
لم تستمر طويلاً الوحدة الوطنية، التي شهدتها روسيا في آذار/مارس عام 1917 ،عندما أعلن دعمهم للثورة عدد كبير من أمراء العائلة القيصرية نفسها وكذلك المجمع الكنسي(السينودس) وضباط الدرك والعمال في بتروغراد وريفها والعديد من سكان الأقاليم والفلاحين. وكان ممثلو شتى الشرائح ينظرون بشكل مختلف إلى أهداف الثورة ومهامها. فالإنتلجنسيا كانت تتعطش للحريات الديمقراطية والعظمة القومية لروسيا الديمقراطية الجديدة ومواكبة الدول الغربية المتطورة. وكان الفلاحون يعولون على امتلاك الأرض بينما انصبت رغبات العمال على تقليص يوم العمل إلى 8 ساعات وزيادة الأجور. أما الأقليات القومية فقد كانت تتطلع إلى المساواة في الحقوق. وكان الناس في معظمهم يعتقدون أن سقوط القيصرية سيؤدي بحد ذاته إلى انتهاء الحرب.
انحصرت المهمة الأساسية للحكومة المؤقتة في الإعداد لانتخابات الجمعية التأسيسية. ولهذا تم تأجيل البت في أهم القضايا إلى ما بعد انعقاد الجمعية التأسيسية المدعوة لتحديد شكل نظام الدولة الجديد في روسيا. وقد ارتكبت هذه الحكومة أخطاء مصيرية عجلت في سقوطها وساعدت على مجيء البلاشفة إلى السلطة. ومن هذه الأخطاء إصدارها بالتنسيق مع سوفيت بتروغراد الأمر رقم(1) في آذار/ مارس عام 1917 الذي نص على انتخاب لجان خاصة تخضع لها القطعة العسكرية وإرسال مندوبين إلى سوفيت بتروغراد عن كل سرية، وضرورة خضوع كافة الأعمال السياسية إلى موافقته، فضلاً عن وضع السلاح تحت تصرف لجان الجنود وعدم تسليمه للضباط وإلغاء نظام الألقاب الخاص بالضباط، والاحجام عن تقديم التحية العسكرية خارج أماكن الخدمة. وقد أساء الجنود فهم هذا الأمر وتطبيقه. وجرى طبع آلاف النسخ منه وتوزيعها في كافة أرجاء البلاد. وهكذا خرج الجيش عن نطاق السيطرة وبدأ يفقد قدراته القتالية بعد أن تحول في معظم الحالات إلى تجمعات للمناقشات السياسية. وكان دوره في الأحداث الثورية الدائرة خلال الفترة بين فبراير وأكتوبر عام 1917 بالغ الأهمية. وفي معرض وصفه لأمزجة الجنود أكد الجنرال بروسيلوف أنه" لم يكن لدى الجنود أي تصور عن الشيوعية والبروليتاريا والدستور. فقد كانوا يريدون السلام والأرض وحياة هنيئة بلا هموم أو مشاغل بعيدة عن الضباط والإقطاعيين. وبالنسبة لهم كانت البلشفية في واقع الأمر مجرد تطلع محموم نحو حرية بلا حدود".
ومن هذه الأخطاء أيضاً العفو العام الجنائي الصادر في 17 أيار/مايو عام 1917 الذي بموجبه جرى إخلاء سبيل 80% من المساجين الجنائيين الذين بلغ عددهم عشرات الآلاف. وقد أفرج عن جزء منهم شريطة الانخراط في صفوف الجيش. وأدى هذا العمل "لإنساني" إلى عربدة الجريمة بشتى أشكالها وخاصة في بتروغراد. وفضلاً عن ذلك ألغت الحكومة المؤقتة سلطة رؤساء المقاطعات وحلت أجهزة البوليس رغم أنه كان بود هؤلاء أن يخدموا الحكومة التي تخلت عنهم وحرمت نفسها من مفاصل السلطة في الأقاليم.
ومنذ الأيام الأولى لثورة فبراير شرع الجنود والبحارة بقتل الضباط وكبار الموظفين و"البرجوازيين" عموماً. وعلى سبيل المثال قتل بحارة كرونشتادت الثائرون 120 ضابطاً بوحشية فائقة. ومن جهة أخرى قام وزير الحربية غوتشكوف بناء على طلب سوفيت بتروغراد بتسريح 150 قائداً عسكرياً كبيراً و70 ضابطاً من قادة الفرق العسكرية. كما رفض رئيس الحكومة المؤقتة الأمير لفوف تعيين نيكولاي نيكولايفتش (رومانوف) حفيد القيصر نيكولاي الأول قائداً عاماً أعلى للقوات المسلحة رغم شعبيته الكبيرة في الوحدات العسكرية للجيش الروسي.
في نيسان/أبريل عام 1917 كانت تصدر بروسيا 17 صحيفة أسبوعية بلشفية بعدد نسخ تجاوز 320 ألف نسخة عدا المناسير التي كان يجري طبعها بشكل دائم. وتحت تأثير الدعاية البلشفية المعادية للحرب ومن جراء حالة الفوضى، التي سادت في القطعات العسكرية بعد ثورة فبراير، انتشرت ظاهرة فرار الجنود من القطعات العسكرية المرابطة في الجبهة. وكان هؤلاء يأتون في معظمهم إلى بتروغراد حيث اعتادوا هناك على السكر والعربدة والسرقة وممارسة العنف والاغتصاب (أنطون دينيكين. نبذات من أيام الفتنة. المجلد(1). موسكو، دار نشر"آيريس- بريس"، 2006. ص. 435-450).
لم يعد أحد بعد الآن يتحمل أي نوع من العنف والإكراه بما في ذلك الجنود. وكان الناس يمتعون أنفسهم في المشاركة بالاجتماعات الحاشدة وينعمون بهذه "الحرية". أما الحكومة المؤقتة فقد كانت عاجزة عن إحلال الأمن والنظام في البلد لكونها لم تكن تملك السلطة الفعلية في ظروف ازدواجية السلطة ومساعي البلاشفة الحثيثة لزعزعة الاستقرار بشتى السبل.
في الثالث من نيسان/ أبريل عاد لينين ومجموعة من رفاقه إلى روسيا. وبناء على طلب من بارفوس نظّم غانيتسكي، الموجود آنذاك في بتروغراد، استقبالاً حافلاً للينين بمحطة فنلندا للقطارات حيث كان في ملاقاته عدد كبير من أعضاء الحزب وأنصارهم وكذلك ممثلون عن السلطة الجديدة. وهناك ألقى لينين خطاباً حماسياً أعلن فيه عن ضرورة النضال من أجل استلام السلطة، بينما كان المشرفان الرئيسيان على إصدار صحيفة البرافدا ستالين وكامنيف آنذاك يخططان لإعادة الوحدة مع جناح المناشفة والتعاون مع الحكومة المؤقتة ضمن أطر معينة.
- تطور الأوضاع بعد فبراير
لم تفض الإطاحة بالنظام القيصري إلى تحسين الوضع في روسيا. وبالعكس من ذلك سارت الأمور على نحو أسوأ حيث انهار اقتصاد البلد نظرا لتوقف العديد من المعامل والمصانع عن العمل ولم ينفك نقل المواد الغذائية عن التقلص. كما هبطت قيمة العملة واستمرت الحرب.
وكان الإنجاز الفعلي الوحيد لثورة فبراير يتجلى في حرية التعبير التامة لدى كافة فئات المجتمع الروسي. ولكن بالمقابل عمت الفوضى في البلد ولم تستطع الحكومة المؤقتة ضبط هذه الحالة. أما السوفيتات، التي كانت تؤمن بقوى الشعب العفوية، فلم تكترث لذلك. كما أن المجموعات الراديكالية سارعت في ظل هذه الأجواء إلى "مصادرة" القصور والفيلات. فعلى سبيل المثال قام البلاشفة بانتزاع فيلا راقصة الباليه الشهيرة متيلدا كشيسِينسكايا وحولوها إلى مقر لحزبهم. أما الأناركيون فقد استولوا على منزل رئيس الوزراء السابق الكسندر تريبوف. ولم يتخلف الفلاحون عن هذا الركب إذ قام العديد منهم إلى الاستيلاء على الآلات والأدوات الزراعية وقطعان الماشية التابعة للإقطاعيين. واستغل هذا الوضع زعيم البلاشفة، الذي كان يسعى بكل إصرار إلى إضرام نيران حرب أهلية في روسيا، والسيطرة على الحكم هناك في غمار هذه الأوضاع ثم الإنطلاق من هذا البلد الكبير وإشعال فتيل الثورة العالمية. وهكذا فإن هذه الحرية المُسكرة بدأت تتحول إلى سلاح جبار في أيدي البلاشفة، الذين باتوا يغدقون الوعود ويزعمون أن بوسعهم تحقيقها فوراً (الخبز والأرض والسلام) بينما كانت الأحزاب الأخرى تدعو إلى التريث وانتظار النصر، والتعويل على انعقاد الجمعية التأسيسية ووقف الفوضى. وقد عجزت الميليشيا الشعبية، التي شكلت بدلاً من الشرطة القيصرية، عن أداء مهامها على النحو المطلوب مما أدى إلى ازدياد نشاط اللصوص والعصابات الإجرامية في المدينة.
كما كان بوسع الجنود لطم الضابط على وجهه وإهانة المدنيين وإطلاق النار عشوائياً ورفض تنفيذ الأوامر. وعلى هذا النحو بدأ الجيش في التفسخ تدريجياً وخاصة في القطعات الاحتياطية حيث كان فراغ الوقت والحنين إلى القرية والأهل يدفعان هؤلاء الجنود إلى التعاطي المستمر للمشروبات الحكولية وإغراق أحزانهم بذلك.
- تمرد يوليو البلشفي المسلح في بتروغراد
في 3- 24 حزيران/يونيو عام 1917 انعقد المؤتمر الأول لسوفيتات العمال والجنود ببتروغراد. ومن أصل 777 مندوباً ضم تكتل البلاشفة 105 مندوبين مقابل 248 مندوباً لدى المناشفة و285 مندوباً لدى الاشتراكيين الثوريين. وبالطبع لم يستطع البلاشفة التعويل على إحراز نجاح ملحوظ في قاعة الجلسات. وفي أواخر الشهر المذكور قررت الحكومة إرسال القطعات العسكرية المتفسخة والأكثر تأثراً بالدعاية البلشفية إلى الجبهة. وكان في طليعتها فوج حملة الرشاشات الأول، الذي يعادل فرقة كاملة من حيث تعداد أفراده (11.340 جندي و300 ضابط). وقد استغل البلاشفة ذلك لإقناع الجنود بالتمرد للاستيلاء على السلطة إذ قرر لينين المراهنة على استخدام القوة في الصراع مع الحكومة المؤقتة والخروج إلى الشارع. وجرى ذلك بناء على مبادرة التنظيم العسكري البلشفي ("فوينكا") وبموافقة اللجنة المركزية للحزب.
وقد سبق أن طُرحت مسألة القيام بمظاهرة أثناء انعقاد مؤتمر السوفيتات، ولكن أغلبية المندوبين ارتأت عدم جدوى ذلك. وحيث أن البلاشفة لم يجدوا في أنفسهم الجرأة الكافية للقيام في مواجهة مكشوفة مع الاشتراكيين المعتدلين فقد قرروا العدول عن إجراء مظاهرة العاشر من حزيران/يونيو. أما الآن فقد ظهرت ظروف مساعدة على القيام بحركة جدية للاستيلاء على السلطة وفي طليعتها الاتفاق مع فوج حملة الرشاشات الأول وفشل هجوم الجيش الروسي الصيفي في الجبهة ورفض العديد من القطعات العسكرية المشاركة في القتال ونشوب أزمة وزارية ناجمة عن توقيع مندوبي الحكومة المؤقتة اتفاقية مع الرادا المركزية الأوكرانية حيث انسحب وزراء الكاديت من الحكومة احتجاجاً على التنازلات، التي قدمها وفد الحكومة الروسية للأوكرانيين. وقد اضطر البلاشفة إلى الإسراع بالانتفاضة عقب تلقيهم معلومات تسربت عن طريق بعض الوزراء الاشتراكيين في حكومة كيرنسكي تشير إلى عزم إدارة مكافحة التجسس مداهمة مقر الحزب الكائن في قصر كشيسينسكايا في السابع من تموز/يوليو والقيام بحملة اعتقالات في صفوف البلاشفة.
وفي الأول من تموز/ يوليو كان من المقرر إجراء مسيرة إبداء الثقة بالحكومة المؤقتة بناء على اقتراح المؤتمر الأول للسوفيتات. أما البلاشقة فقد اعتزموا إخراج العمال والجنود إلى الشوارع تحت شعار "كل السلطة للسوفيتات" و"الخبز والسلام والحرية" و" نطالب بالرقابة العمالية على الإنتاج" و"ليسقط جميع الوزراء الرأسماليين". وفي ذلك اليوم جرت مظاهرات ثورية ضخمة في موسكو وكييف وخاركوف ومدن أخرى.
في 2 تموز/ يوليو قرر زعماء الأناركيين الشيوعيين دعوة الجنود إلى الانتفاضة بالاستناد على دعم الفوج الأول. و في اليوم المذكور جاء إلى موقع تمركز الفوج المذكور دعاة أناركيون وبلاشفة. وأثناء ذلك عقد البلاشفة جلسة استثنائية لمكتب القسم العمالي لسوفيت بتروغراد بعد خروج نواب المناشفة والاشتراكيين الثوريين، وأصدروا قراراً ينص على أنه "نظراً لأزمة السلطة يرى القسم العمالي من الضروري الإصرار على أن يأخذ مؤتمر سوفيتات العمال والجنود كامل السلطة بيديه". وكانت هذه الدعوة تعني إسقاط الحكومة. وقد جرى ذلك أثناء قيام وزير الحربية كيرينسكي بجولة تفقدية في الجبهة.
وفي المساء انطلقت مسيرة حملة الرشاشات وبعد ساعة تقريباً وصلوا إلى قصر كشيسينسكايا. وآنذاك علمت هيئة مكافحة التجسس التابعة للحكومة المؤقتة أن البلاشفة يعتزمون القيام في اليوم التالي بانتفاضة مسلحة حيث سيتوجهون إلى قصر تافريدا لطرد النواب الموالين للحكومة المؤقتة والإعلان عن انتقال السلطة العليا إلى السوفيتات ثم تشكيل حكومة جديدة. وفي الساعة 11 مساء وقعت اشتباكات مسلحة قرب المجمع التجاري "غوستيني دفور". ثم جاء في الساعة الثانية بعد منتصف الليل إلى قصر تافريدا زهاء 11 ألف عامل من مصانع بوتيلوف الضخمة وبعض مصانع منطقة فيبورغ الواقعة عند مشارف المدينة. ولم يكن هؤلاء خاضعين للسوفيت ولا لموقع حامية بتروغراد أو البلاشفة. كما كان حوالي 20 ألفاً من بحارة كرونشتادت متجهين إلى بتروغراد. ولدى ذلك قررت اللجنة المركزية للبلاشفة قيادة "المظاهرة السلمية والمسلحة!". وبعد أن امتلأت الساحة الواقعة أمام قصر تافريدا بالجنود والبحارة والعمال فقد البلاشفة القدرة على إدارة هذه الحشود وضبط تصرفاتها.
وفي صباح الرابع من تموز/يوليو وصل جنود وبحارة كرونشتادت إلى بتروغراد لمساعدة البلاشفة. وقد مرت المظاهرة المسلحة بشوارع المدينة الرئيسية ثم اتجهت نحو قصر تافريدا تحت شعار "كل السلطة للسوفيتات" واندلعت في الطريق عدة اشتباكات مسلحة وسلسلة كاملة من أعمال السلب والنهب للشقق السكنية والمحلات التجارية في وسط العاصمة. كما تعرض مقر هيئة مكافحة التجسس لهجوم مسلح وانتهى الأمر بتحطيم ونهب محتوياته وحرق العديد من الملفات الهامة. وبعد ذلك استولى البحارة على قصر تافريدا. ولمواجهة هذه الأمور جرى استدعاء قوات القوزاق وسريتين من فوج الخيالة الاحتياطي التاسع ووحدات الحرس لمدفعية الخيالة، ووضعت القطعات البرية في حالة التأهب القتالي. ورداً على تردي الأوضاع الأمنية أصدر قائد الحامية العسكرية الجنرال بيوتر بولوفتسوف أوامره بمواجهة البحارة وطردهم من هناك. وبعد بعض طلقات تحذيرية فتحت مدفعية القوات الموالية للحكومة المؤقتة نيرانها على المجتمعين أمام القصر مما أدى أخيراً إلى تفرقهم بعد مقتل وإصابة عدد كبير منهم.
وعلى أثر هذه الأحداث انتقلت الحكومة من قصر "مارينسكي" إلى القصر الشتوي وجرى تشكيل قوام جديد برئاسة كيرنسكي، الذي احتفظ بمنصب وزير الحربية.
ومنذ صباح الخامس من تموز/يوليو بدأت حملة اعتقالات واسعة في صفوف أفراد الفصائل البلشفية المسلحة. وزج بالمئات في السجون وهرب لينين مع زينوفييف إلى قرية رازليف في فنلندا. وفي الخامس من الشهر المذكور أطلع وزير العدل بافيل بيرفيرزيف الصحفيين على مواد التحقيق غير النهائي بخصوص صلات لينين والبلاشفة بالألمان. وقد سارع لينين بإرسال ستالين إلى رئيس سوفيت بتروغراد نيكولاي تشخيدزه الجورجي لإقناعه بمنع نشر"الافتراء" فطلب من الصحف الامتناع عن نشر المواد المتعلقة بلينين . ولكن صحيفة"جيفويه سلوفو"(الكلمة الحية) رفضت الامتثال لذلك وسارعت إلى نشر مقالة بعنوان" لينين ورفاقه – جواسيس"(أكيم أرتيونوف. إضبارة لينين بدون رتوش. وثائق ووقائع وشهادات. موسكو، دار نشر" فيتشيه"،1999). وقد أصدرت الحكومة أمراً بإلقاء القبض على لينين ولوناتشارسكي وزينوفييف وبارفوس وغانيبتسكي وعدد آخر من زعماء البلاشفة. كما اعتقل تروتسكي، الذي لم يكن آنذاك قد انضم إلى حزب البلاشفة. وقد وجهت إليهم تهمة الخيانة العظمى من خلال التخابر مع ألمانيا، التي كانت روسيا في حالة حرب معها، وحصولهم على المال من حكومة غليوم الثاني بغية إفساد الجيش الروسي والتحضبر لانتفاضة ضد الحكومة المؤقتة من أجل إرغام روسيا على توقيع صلح منفرد مع ألمانيا وفق شروط ملائمة لها. وبعد إجراء التحقيقات مع المعتقلين أفرج عنهم لانعدام الأدلة. وأثناء هذه الحملة تم العثور على نقود من فئة العشرة روبلات في حوزة الجنود والبحارة المعتقلين. وقد تجاهل سوفيت بتروغراد الاتهامات الموجهة للينين بالخيانة العظمى واعتبر أن البلاشفة قد ضلوا سواء السبيل. وعلى العموم اتسمت ملاحقة البلاشفة بطابع شبه مسرحي. وبعد شهرين تقريباً أطلق سراحهم جميعاً (800 شخص). وعقب فشل التمرد العسكري البلشفي شهدت روسيا انعطافا قويا نحو اليمين أدى إلى النفور من السوفيتات والاشتراكيين عموماً. وقد جرى أنذاك طرد أسرة تحرير البرافدا وإغلاق مقر الحزب البلشفي الواقع في فيلا راقصة الباليه الشهيرة كشيسنسكايا بعد أن تم العثور فيه على وثائق هامة.
ومن المستغرب جداً أن كيرنسكي لم يستخدم الوثائق، التي عثرت عليها إدارة مكافحة التجسس، أثناء مداهمة مقر البلاشفة الكائن في فيلا كشيسنسكايا. ولدى ذلك تم العثور على وثائق تتعلق بتمويل الألمان للبلافة عن طريق حسابات يفغينيا سومنسون. كما وجدت وثائق مخططات الإعداد للانتفاضة وخرائط المراكز الاستراتيجية الهامة في العاصمة المزمع الاستيلاء عليها من قبل الوحدات الموالية للبلاشفة، وكذلك أسماء الأشخاص المسؤولين عن تنفيذ خطة السيطرة على بتروغراد. ولم يقتصر وزير الحربية الاشتراكي على تجاهل هذه الأدلة الدامغة بخصوص تورط البلاشفة في الانتفاضة الفاشلة فقد لجأ أيضاً إلى حل إدارة مكافحة التجسس. وبذلك باتت سياسته تتخذ طابعاً انتحارياً. ويعزو بعض المؤرخين هذه التصرفات من جانب كيرنسكي إلى التقارب الفكري مع حزب البلاشفة واعتقاده الراسخ بقدرته على كبح جماح هذا الحزب.
مرت روسيا في صيف عام 1917 بأزمة سياسية واقتصادية اجتماعية عميقة. وكانت الحكومة عاجزة عن حل المهام الرئيسية الملقاة على عاتقها، رغم أن إخفاق انتفاضة البلاشفة أنهى حالة إزدواجية السلطة بين الحكومة وسوفيت بتروغراد. ولمنع تكرار أعمال كهذه بحثت قوى اليمين عن شخصية قوية قادرة في الظروف الراهنة على ايقاف الفوضى وإعادة هيبة الجيش. وقد وجدت ذلك في شخص الجنرال لافر كورنيلوف، الذي أصبح في 19 تموز/يوليو القائد العام الأعلى للجيش عوضاً عن بروسيلوف. ومن المعروف أن كورنيلوف كان يتمتع بشعبية كبيرة في الأوساط العسكرية، وما أن استلم منصبه الجديد حتى شرع في اتخاد إجراءات صارمة لإعادة النظام إلى الجيش.
وكانت الحكومة الائتلافية الجديدة، التي تشكلت في 26 تموز/ يوليو برئاسة كيرنسكي، تحاول المناورة بين القوى السياسية الرئيسية في البلد مما أثار الاستياء لدى كلا المعسكرين.
وفي اجتماع موسكو الاستشاري الحكومي المنعقد في 12-15 آب/ أغسطس أعلن كورنيلوف عن ضرورة إعادة سلطة القادة العسكريين في الجيش والأسطول وتقييد صلاحيات لجان الجنود ومنع الاجتماعات الحاشدة في الجيش وحظر الإضرابات في المصانع العسكرية ومؤسسات النقل والمناجم، التي تقوم بتلبية احتياجات القوات المسلحة، ودعا إلى إعادة العمل بأحكام الإعدام في وحدات الخطوط الخلفية. وكان من المقرر أن يترأس كورنيلوف مجلس الدفاع الوطني وأن يعين كيرنسكي نائباً له.
وعقب هزيمة القوات الروسية في عملية ريغا وسقوط المدينة يوم 21 آب/ أغسطس في أيدي الألمان حرك كورنيلوف القوات باتجاه بتروغراد، وطلب استقالة الحكومة ومجيء كيرنسكي إلى مقر القيادة العامة. وفي 27 من الشهر نفسه استقال وزراء الكاديت تضامناً مع كورنيلوف. وكان من المقرر أن يدخل العاصمة فيلق الخيالة الثالث بقيادة الجنرال كريموف من أجل "إحلال النظام" هناك. ورداً على طلبات كورنيلوف اعتبر كيرنسكي القائد العام الأعلى للجيش متمرداً على السلطة الشرعية وعزله من منصبه. وقد وجه رئيس الحكومة المؤقتة نداء إلى العمال والجنود للدفاع عن الثورة مما أعطى البلاشفة فرصة ذهبية لإعادة اعتبارهم وتحسين صورتهم أمام الجنود والعمال والسكان عامة. وقد فشلت خطة كريموف للاستيلاء على العاصمة فلجأ إلى الانتحار. واستطاعت سوفيتات بيلوروسيا عزل القيادة العامة عن الجبهات. وفي 29 آب/ أغسطس اعتقلت اللجنة التنفيذية للجبهة الجنوبية جميع قادة الوحدات العسكرية ومنهم الجنرالات الكسندر لوكومسكي وسيرغي ماركوف وايفان رومانوفسكي وغيرهم. كما جرى توقيف قائد التمرد الجنرال كورنيلوف. ومما لا شك فيه أن البلاشفة لعبوا دوراً هاماً في إفشال هذا التمرد بشنهم حملة دعائية واسعة ضد كورنيلوف ومحاصرتهم للسكك الحديدية مما شل حركة الفيلق الخيالة الثالث بقيادة الجنرال كريمسكي باتجاه بطرسبورغ وبعد ذلك سارعوا ببلشفة السوفيتات.
وقد كان كيرنسكي يخشى من أنه إذا عمد عن طريق ضباط وجنرالات القيصرية إلى سحق البلاشفة مع حرسهم الأحمر وأنصارهم من بحارة كرونشتادت فسيغدو بعد ذلك الضحية التالية للثورة المضادة، التي قد تتبعها إعادة نيكولاي الثاني إلى عرش روسيا. وكان في كل مرة يقدم التنازلات للبلاشفة ويتساهل معهم بينما كان موقفه متشدداً إزاء الخطر الآتي من "اليمين". ولم يكن رئيس الحكومة المؤقتة فرحاً لفشل التمرد البلشفي في تموز/يوليو بقدر ماكان خائفاً من "العمل" المنسق للقوات الوفية للحكومة، التي كانت تطلق النار بلا هوادة على مجموعات البلاشفة. ولذلك فإنه لدى الانتهاء من التحقيق في خيانة البلاشفة رفض إقامة محاكمة علنية مدوية لهم. وفي ضوء ذلك ثمة مؤرخون يفسرون هذا التساهل من جانب كيرنسكي بوجود خيط خفي يربط رئيس الحكومة بزعماء البلاشفة والأحزاب اليسارية الأخرى اليهود ويلمحون إلى أنه ابن بالتبني لفيودور كيرنسكي الروسي.
وفي 7 تموز/يوليو أعطى كيرنسكي أوامره بنقل نيكولاي الثاني مع أسرته وطبيبه والخدم من "تسارسكويه سيلو" بضواحي بتروغراد إلى مدينة توبلسك السيبيرية البعيدة لتجنب احتمال قيام جنرال قيصري جسور "فجأة" بالإفراج عن القيصر.
خلال صيف عام 1917 بدأت تظهر علائم الاستياء من ضعف الحكومة المؤقتة. فبعد اعتقال كورنيلوف أخذ يحل تدريجياً الحنين إلى العهد القيصري محل الابتهاج بثورة فبراير. فإن أولئك الذين تأنقوا في آذار/مارس بالشرائط الحمر والقرنفل باتوا يندمون على هلاك النظام القديم الذي، رغم كافة عيوبه، كان وطنياً ومستقراً وقابلاً للتكهن. وقد كانت سنوات القيصرية في ظل مجلس الدوما أوقات نهضة اقتصادية وعملية سياسية واجتماعية بناءة. أما الآن فإن كل شيء يسير نحو الخراب والهلاك. كما أن القيصر نفسه أعرب في أيلول/ سبتمبر لدى إقامته في توبلسك عن أسفه لتخليه عن العرش إذ رأى أن ذلك لم يجلب لروسيا الهدوء والاستقرار ولا النصر في الحرب.
وفي مذكراته عن ثورة فبراير الصادرة بباريس أشار أحد أعضاء الحكومة المؤقتة المنشفي ايراكلي تسيريتيلي، بعد سنوات طويلة من أحداث عام 1917، أنه ورفاقه المناشفة كانوا آنذاك مترددين في حماية النظام الديمقراطي من الخطر الآتي من جانب اليسار الراديكالي بينما أظهروا حزماً شديداً في مواجهتهم للخطر الآتي من اليمين.(ايراكلي تسيريتيلي. ذكريات عن ثورة فبراير. المجلد 2. باريس، 1963. ص. 417).
وبحلول أيلول/ سبتمبر تبدلت الأمور جوهرياً لصالح البلاشفة حيث حصلوا على الأغلبية في سوفيت بتروغراد وانتُخب ليون تروتسكي رئيساً له. وكان قد أعلن فور عودته من الولايات المتحدة في أيار/ مايو عام 1917 عن تأييده للينين ثم انضم في تموز/ يوليو إلى البلاشفة وما لبث أن شغل مكانه وسط زعماء الحزب. ولم يصبح تروتسكي رئيساً لمجلس بتروغراد فحسب، بل وصار أيضاً البوق الأول للثورة القادمة وقائدها الفعلي. وفي 5 أيلول/ سبتمبر نال البلاشفة الأغلبية في سوفيت مدينة موسكو. وقد أصبح ذلك بالنسبة للينين إشارة واضحة إلى أن السلطة غدت قاب قوسين أو أدنى. وحسب اعتقاده فإن الثورة ينبغي أن تحدث الآن أو أنها لن تحدث أبداً. أما رفاقه فكانوا يعولون على قيام مؤتمر السوفيتات لعموم روسيا المزمع عقده في 25 تشرين 1/ أكتوبر بنقل السلطة إلى البلاشفة سلمياً. غير أن لينين لم يستطع الانتظار فقرر العودة إلى بتروغراد بأي شكل من الأشكال.
على كل حال كان لينين خلال الأسابيع، التي سبقت انتفاضة أكتوبر، يصطدم بمقاومة شديدة من جانب قيادة الحزب بالذات لدى إلحاحه على ضرورة القيام بانتفاضة مسلحة. وكان رفاقه يخشون الفشل فيسألون ما الذي سنفعله بعد استلام السطة ويجيبهم لينين قائلاً: "تهدف الانتفاضة إلى الاستيلاء على السلطة. وسنستوضح المهام السياسية عندما تغدو السلطة في أيدينا". وساق لينين بكل طيبة خاطر عبارة نابليون بونابرت الشهيرة" سننخرط ثم نرى".
خلال الأيام الأخيرة، التي سبقت الانقلاب البلشفي، كانت سلطة الحكومة المؤقتة في حالة انهيار، ولم يكن لدى أفراد حامية العاصمة أي رغبة أخرى باستثناء العودة إلى بيوتهم وأهلهم والشروع بتقاسم الأرض. أما الحكومة فإنها لم تكن تدري ما الذي عليها أن تفعل في ظل هذه الأوضاع المضطربة. كما أنها لن تكن تعرف أي قوات عسكرية بالضبط موجودة تحت تصرفها ويمكن الاعتماد عليها. والأهم من هذا كله أنها لم تكن تدرك من هو عدوها الأكثر خطراً. فالإشاعات حول المؤامرة البلشفية، التي يجري إعدادها، لا تتوقف عن التداول في شتى مناطق العاصمة. وفي المقالة الافتاحية لعدد 7 تشرين 1/ أكتوبر من صحيفة "نوفايا جيزن"، التي كان يقوم بتحريرها مكسيم غوركي وكانت توزع بعشرات الآلاف من النسخ في أوساط العمال، حذر الكاتب البروليتاري من أنه إذا كان حزب البلاشفة يعكف على إعداد انقلاب في البلد فإن ذاك سيؤدي لا محالة إلى هلاك الحزب والطبقة العاملة والثورة. وفي اليوم التالي نشرت الصحيفة ذاتها رسالة كامنيف وزينوفييف المعروفة، والتي يعلن فيها رفيقا لينين المقربان أن قيام انتفاضة مسلحة على نحو مستقل عن مؤتمر السوفيتات قبل انعقاده ببضعة أيام يعتبر خطوة غير مقبولة تهدد البروليتاريا والثورة بكارثة فظيعة. وقد أثارت هذه الرسالة حفيظة لينين،الذي نعت رفيقيه بالخيانة واتهمهما بفضح سر الثورة أمام البرجوازية. ولكن لم يكن هنالك، في واقع الأمر، أية أسرار. فقد كشف لينين بنفسه عن ذلك في رسائله ومقالاته ونداءاته المنشورة في الصحف البلشفية.
أما خصوم الحكومة المؤقتة "من اليمين" مثل جنرالات وضباط الجيش فقد كانوا على اعتقاد راسخ بأن البلاشفة، إذا وصلوا إلى السلطة، فلن يبقوا سوى بضعة أسابيع. ولكنهم في طريقهم إلى هذه السلطة سيطيحون بكيرنسكي.
ومما يعكس بكل وضوح الانحلال التام للجهاز الحكومي في روسيا آنذاك أن السلطة لم تكن تبالي بالأحاديث والنقاشات العلنية في الصحافة حول الانتفاضة المسلحة. فقد صرح كيرنسكي بهذا الخصوص قائلاً : "لدينا ما يكفي من القوات بل إنها تزيد عن احتياجاتنا". ورفض رئيس الحكومة المؤقتة استدعاء تعزيزات عسكرية من الجبهة إلى العاصمة. كما أن السلطات لم تسارع إلى اعتقال قائد الانقلاب، الذي يجري الإعداد له، رغم علمها بعودته من فنلندا إلى بتروغراد. وإلى جانب ذلك فإن الجنرال الكسييف عرض على كيرينسكي جمع 5 آلاف ضابط لحماية الحكومة المؤقتة. ولكن رئيس الحكومة كان واثقاً من أنه تتوفر القوات اللازمة لسحق البلاشفة بصورة نهائية.
اتسمت سياسة كيرنسكي بانعدام الحزم. وكان الخوف من سوفيت بتروغراد لنواب العمال والجنود والتآمر البلشفي يشل إرادته عن الحركة. ومع ذلك فبعد فشل انتفاضة البلاشفة الأولى في تموز/يوليو أتيحت له فرصة سانحة لسحقهم بصورة تامة، غير أنه رفض ذلك، وعوضاً عن السعي إلى التوصل لاتفاق مع الجنرال كورنيلوف، لجأ رئيس الحكومة المؤقتة إلى إقالة هذه الشخصية العسكرية القوية والوحيدة القادرة على إعادة الانضباط والنظام في صفوف الجيش. كما أنه رفض اقتراح سفراء بريطانيا وفرنسا وإيطاليا بخصوص إجراء وساطة بينه وبين كورنيلوف. ويبدو أن كيرنسكي قرر استخدام الوضع الناشئ للإجهاز على منافسه، الذي بدأ نجمه يصعد سياسياً. وهنا انتهز البلاشفة قضية عزل واحتجاز كورنيلوف لتعزيز مواقعهم السياسية والدعاية ضد كورنيلوف مما أدى في ذات الوقت إلى تشويه سمعة كيرنسكي نفسه، وكذلك الكاديت والمناشفة والاشتراكيين الثوريين المشاركين في حكومته. كما أن رئيس الحكومة المؤقتة ارتكب خطأً آخر في هذا السياق بتسليمه 20 ألف بندقية للعمال أثناء تمرد كورنيلوف مما صب بشكل مباشر في مصلحة البلاشفة. على كل حال بعد اعتقال الجنرال كورنيلوف ورفاقه أصبح معظم ضباط القطعات العسكرية يناصبون كيرنسكي العداء. أما الجنود العاديون فلم يروا فرقاً كبيراً بين كيرنسكي والبلاشفة واعتبروا النزاع الدائر بينهم مجرد نزاع شخصي على السلطة. ومن حسن حظ البلاشفة أن الحكومة المؤقتة أعلنت في منتصف أكتوبر عزمها على نقل جزء كبير من وحدات حامية بتروغراد إلى الجبهة وهو الأمر الذي أثار حفيظة الجنود ودفعهم إلى دعم البلاشفة.
وبعد إخفاق التمرد في أواخر آب/ أغسطس أخذت في التسارع حالة عدم الانضباط والفوضى في الجيش، الذي كان يضم زهاء 10 ملايين عسكري. ولم يجد كيرنسكي ضرورة في مواجهة الانفلات العفوي الخارق في صفوف الجنود، إذ سبق أن رفض قبول الدعم من جانب الضباط المؤيدين لكورنيلوف والقوزاق وطلاب الكليات العسكرية والمثقفين من ذوي النزعة الوطنية حيث كان يراهن على الاشتراكيين القريبين منه والمتمسكين بـ " الاشتراكية الديمقراطية ".
كان البلاشفة يسيرون نحو السلطة رغم عدم توفر الثقة بالنجاح. كما أن ذلك لم يكن يتم بالوتيرة، التي كان لينين يتوقعها. وقد أصبحت اللجنة العسكرية الثورية، التي شكلها سوفيت بتروغراد، الهيئة الرئيسية لقيادة الانتفاضة. وكانت عملية الاستيلاء على السلطة تتم باسم المجلس المذكور وليس باسم حزب البلاشفة. وباتت السلطة الفعلية في أيدي مكتب اللجنة العسكرية الثورية في 21 تشرين 1/ أكتوبر عندما صدر أمر يقضي بمنع تسليم السلاح دون موافقة هذه اللجنة. وأقيمت في المدينة اجتماعات خطابية حاشدة واندلعت المظاهرات. وألقى تروتسكي خطابه الحماسي في قاعة "نارودنيه سوبرانيه" حيث أغدق الوعود وأكد بأن الحكومة السوفيتية ستعطي الشعب الخبز والأرض والسلام. (نيكريتش وميخائيل غيللر. الطوباوية في السلطة، موسكو، دار نشر"ميك"،2000).
وفي ظل هذه الأوضاع تسنى للبلاشفة الإطاحة بسلطة حكومة كيرنسكي المؤقتة في 25 تشرين الأول/ أكتوبر عام 1917 وبدأت في روسيا حقبة جديدة مفعمة بالأحداث الدرامية والتحولات الجذرية، التي هزت أركان المجتمع الروسي، وأودت بحياة الملايين من سكان البلد ومن ذلك الحرب الأهلية (1918-1922) وعملية نشر التعاونيات الزراعية القسرية(الكلخزة) والتصفيات الستالينية الكبرى في منتصف الثلاثينات .
496 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع