د. منار الشوربجي
علام الخلاف الألماني الفرنسي؟
أوروبا مقدمة على مرحلة توترات بالجملة ليس من الواضح ما إذا كانت ستفلح في تلافى تداعياتها على الأقل في المدى القصير.
فبينما تعيش القارة حرباً ضارية وصعوداً لليمين المتطرف وأزمة طاقة طاحنة، يطرح تصدع العلاقات بين ألمانيا وفرنسا تساؤلات جوهرية حول قدرة الاتحاد الأوروبي على العمل أصلاً.
ففي الشهور القليلة الماضية، برزت علامات عدة تشير لتصدع العلاقات بين القوتين الأكبر في أوروبا، والتي وصفت دوماً بأنها «المحرك» للاتحاد الأوروبي، والعلاقات الثنائية الأهم في القارة عموماً. والخلافات ظلت مكتومة لأشهر حتى خرجت للعلن مؤخراً في صورة تصريحات غاضبة، خصوصاً من الجانب الفرنسي.
برزت الإشارات الأولى في أغسطس الماضي حين ألغي اجتماع كان مقرراً بين المستشار الألماني ورئيسة الوزراء الفرنسية. وقيل وقتها إن السبب هو إصابة المستشار الألماني بفيروس كورونا. لكن ما لفت الانتباه لم يكن إلغاء الاجتماع وإنما الإعلان عن اجتماع بديل يعقد عن بعد ثم إلغائه.
فوقتها ما إن بررت ألمانيا الموقف بأن مستشارها «مريض للغاية»، لم يقو على الاجتماع عن بعد، حتى فوجئت به فرنسا يظهر، بالصوت والصورة، ليعلن على الهواء قرار منح الأسر والشركات دعماً هائلاً صار في ذاته أهم مصادر التوتر بين البلدين.
ثم تسارعت وتيرة الخلافات حتى طفت من جديد، حيث أعلن مؤخراً عن لقاء قمة يصحبه اجتماع وزاري موسع. وبعدها بساعات تم تأجيل الاجتماع. وما إن مرت سويعات أخرى حتى بعدها أعلن الجانبان أن القمة ستتم ولكن دون الاجتماع الوزاري الموسع. وانعقدت القمة فعلاً دون مؤتمر صحفي يتبعها، في إشارة جديدة لحجم التوتر.
ورغم أن إعلان اجتماع وإلغاءه وارد تماماً في العلاقات الدولية إلا أنه يمثل سوابق في العلاقات الألمانية الفرنسية. صحيح أنها، مثل كل العلاقات الثنائية، تشهد صعوداً وهبوطاً، إلا أن الأصل هو حرص البلدين، على الأقل في العلن، على تأكيد صلابة العلاقة.
وأسباب الخلاف متعددة ولكن مصدرها كلها الحرب في أوكرانيا. فألمانيا، التي تعتمد على إمدادات الطاقة الروسية، كانت في مؤخرة طابور الاصطفاف الغربي وراء أوكرانيا. وهي حتى الآن تقدم رِجلاً وتؤخر الأخرى في تقديم الدعم العسكري لها. لكن التوتر الأكثر خطورة بين الجانبين، كان سببه المباشر إعلان المستشار الألماني عن دعم مقداره 197 مليار دولار للمواطنين والشركات الألمانية لمواجهة ارتفاع أسعار الكهرباء والغاز.
والمشكل ليس في القرار وإنما في الإعلان عنه دون التشاور المسبق مع فرنسا أو حتى إخطارها، كما جرت العادة. وهو ما أثار حفيظة الفرنسيين حتى أن وزير المالية الفرنسي طالب «بإعادة تعريف العلاقة» بين البلدين.
فالقرار من شأنه أن يؤثر بالضرورة على أسعار الطاقة في السوق الأوروبية، واتخذته ألمانيا بعد أن كانت قد رفضت مقترحاً أوروبياً بإيجاد ميزانية مشتركة لدعم الدول الأوروبية الأصغر على مواجهة أزمة الطاقة حفاظاً على استقرار اليورو. والجدير بالذكر أن فرنسا قامت مع كل من إسبانيا والبرتغال بإلغاء خط أنابيب كانت تأمل ألمانيا في أن يمدها بالغاز حين اكتماله، فيما بدا، في توقيت الإعلان عنه، وكأنه رد فعل انتقامي بسبب الموقف الألماني.
لكن الحرب لم تفجر فقط خلافاً اقتصادياً وإنما امتدت للرؤية العسكرية أيضاً. ففرنسا لم تعد تثق بجدية أمريكا في حماية الأوروبيين. ومن ثم لا تجد مصلحة أوروبا في الاعتماد فقط على حلف شمال الأطلسي (الناتو) للدفاع عن دول القارة، وتسعى لإيجاد نظم دفاعية أوروبية مستقلة. لكن ألمانيا ترى في الاعتماد على الحلف ما يكفي دفاعياً. وبالفعل قامت بالاتفاق مع 14 دولة من دول حلف الناتو، ليس من بينها فرنسا، على إيجاد نظام دفاع جوي مشترك، ودون إخطار الفرنسيين.
واستمراراً للنهج الاستقلالي ذاته، زار المستشار الألماني الصين، حيث سعت حكومته للاتفاق على منح الصين حق إقامة بنى تحتية في ميناء هامبورغ، وهو ما أثار هو الآخر توتراً مع فرنسا التي تدعو لرسم سياسة أوروبية موحدة تجاه الصين. بعبارة أخرى، يريد البلدان تبني سياسة خارجية «مستقلة» لكن المسألة الاستقلال عن من! ففرنسا تريده استقلالاً أوروبياً عن أمريكا بينما ألمانيا تريده استقلالاً لألمانيا، بمعنى مزيد من حرية الحركة في إطار أوروبي.
ورغم أن السياسة الخارجية للبلدين تبدو وكأنها محور الخلاف إلا أن الأوضاع الاقتصادية في ظل أزمتي الطاقة والتضخم هي جوهر الأزمة. لذلك، فالسؤال الأهم على الإطلاق هو ما إذا كانت تلك الأوضاع الاقتصادية الصعبة ستؤدي لمزيد من صعود القوى الفاشية في مجمل أوروبا.
938 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع