محمد الهجابي
تقديم د. زكي الجابر لكتاب: التصوير والخطاب البصري (تمهيد أولي في البنية والقراءة) *
كان ذلك الصباح مشرقاً سعيداً حين جلس محمد الهجابي على مقربة مني.. ودار ثمة حديث بيني وبينه عن التصوير الشعبي ومدي تعبيره عن فلسفة الفنان وسلوك الناس، وبعد ذلك مدى قدرة المنهجيات الحديثة من بنيوية وسيميولوجيا وألسنية وتحليل نفسي وتمكنها من سبر أغوار تلك الفلسفة وذلك السلوك. وغاب عني الهجابي باحثاً وغبت عنه في حومة الصراع مع متطلبات الدرس وسطوة العلل.
التقينا صبيحة يوم آخر مشرق وسعيد. كان وجهه يبتهل فرحاً، وهو يتأبط مخطوط هذا الكتاب الذي بين يديك. إنه حصيلة جهد لا يقوى عليه إلا من نذر نفسه مخلصاً للبحث والتقصي. وقد يكون لزاماً علي أن أعرفك به.. وأن يكون هذا التعريف مستعيراً مصطلح جونيت، على شكل "عتبات" متدرجة تتصاعد بك وبي لاستشراف ما يمكن استشرافه.
(1)
بادئ ذي بدء، قد يروق لك، كما راق لي، أن تتعرف على سر الاهتمام بالخطاب البصري، أو في صياغة أخرى: لماذا هذا السعي لمحو الأمية البصرية؟ ربما نجد جواباً مباشراً عن هذا التساؤل في ما ذهب إليه كرتس من أن 75 إلى 80 بالمائة من التلقي الحسي للإنسان إنما هو بصري، و بالرؤية يرتبط الإدراك والذاكرة والانفعال، وكذلك التلقي. وفي العين 10 بالمائة من الرؤية، وفي الدماغ 90 بالمائة منها، وأنها تشكل 60 بالمائة من فعالية مقدمة الدماغ. ولن نبتعد عن الحقيقة حين نزعم بأن الثقافة البصرية هي المكون الحاسم لكل قنوات التواصل الممتدة عبر الحاضر والمستقبل. كما أننا لا نبتعد عن الحقيقة حين نقول بأن القراءة والكتابة لا تخلقان حضارة، ولكنهما تنقلان الموروث. إن حضارة الإغريق العظيمة بشعرها ونحتها وفنونها البصرية، وما نهضت عليه من بناء سياسي أخذت مكانها في زمن لم يكن فيه منشؤها العظام يحسنون القراءة والكتابة.
وإذا صحت المقولة بأنّ حضارة الإنسان إنما هي خلق التواصل الإنساني، فإن هذا الاتصال لم يكن بالكلمة مكتوبة أو منطوقة فحسب، وإنما بالصورة أيضاً. وفي ضوء ذلك، أصبح القول بأن تأريخ العقل الإنساني ينشطر إلى شطرين: ما قبل الألفبائية وما بعدها.
وبعد ذلك، فالمجتمعات تختلف في تحديد ضروب الفوائد والوظائف التي يوفرها تعلم القراءة والكتابة، وكذا الأمر مع قراءة الصورة. ولكن ذلك الاختلاف لا ينفي أن ذلك التعلم هو نظام من الخبرات والقيم يأخذ مكانه في إطار وضعية خاصة؛ ولعل أهم ما يميز الرسائل الإيقونية في هذا النظام هو إمكانية فهمها من قبل أناس لا يحسنون "كلام" صانعيها. وربما يدفع بنا هذا إلى القول بضعف الاعتماد على الكلام المنطوق أو المكتوب اعتماداً كلياً في التواصل الإنساني. وفي كل ذلك ما يستدعي تكوين ثقافة بصرية توازي الثقافة اللفظية.. ثقافة تمكن من قراءة ما يرى وفهمه، وتساعد على توليد نصوص تفهم لدى الرؤية، وتسهم في تكوين ثقافة كونية ذات قدرات متميزة في التفسير والتجاوب، وذات مشاركة شمولية في إدراك المعاني.
إن محاولة الهجابي في كتابه الذي بين يديك مساهمة في تكوين تلك الثقافة البصرية. وهي في طموحها الأبعد تتجاوب مع المواصفات التي وضعتها "لندا شابر" للمثقف بصرياً. إنه في رأيها ذلك الذي يتمكن من:
- قراءة وتصوير الفعل البصري وموضوعاته ورموزه، وفهم قواعد البصرية ونحوها.
- تقييم الاتصال البصري وتذوقه من وجهة نظر معرفية، نقدية.
- كتابة أو خلق رسائل بصرية تلائم رسائل الاتصال، وتغذي عملية الإبداع.
- القدرة على إنجاز ضروب التكامل بين المحتويين البصري والسمعي عبر مراحل تنفيذ الرسالة.
- إدراك المسؤوليات القانونية والأدبية والأخلاقية التي ينبغي تحملها عند تقديم الصورة.
- فهم الجانب التقني ذي الصلة بوسائل الاتصال بحكم التأثير العام الذي يحققه انتشار الرسائل البصرية من خلال تلك الرسائل.
(2)
... ولكن لمَ هذا التركيز على التصوير الشعبي؟
إن القول بأنه "شعبي" ينفي عن هذا التصوير كونه أكاديمياً أو نخبوياً.. بل ينفي عنه، كذلك، أنه يكشف عن طراز متكامل.. ولكنه ينم عن كونه مصفاة للتقاليد والمعتقدات في تفاعل مع فلسفة جمالية يعتنقها الفنان وجمهوره. إنها فلسفة الإنسان في حياته اليومية. وبذلك، تنفلت من أسار التعبير الذاتي لتفصح عن الوجدان الجمعي، وتغدو قادرة على كشف الاتجاهات الشعبية بما لها من عناصر تمثل بنيات معرفية محددة عن العالم. إن التصوير الشعبي بطبيعته "المحافظة" يأخذ مكانه مباشرة في وحدات اجتماعية صغرى، ولا يأتي عبر وسائل الإعلام التي تنشر ما يعرف بالثقافة "الجماهيرية" بما فيها من آنيةٍ وسرعةٍ وتوجهٍ إلى أناس غير محددي الهوية.
إن التصوير الشعبي يقع ضمن إطار الثقافة الشعبية؛ والشعبية وصف تتباين مدلولاته من محيط إلى آخر. وفي مجال الفنون لن يوصف الفن ب"الشعبي" إذا ما اتسم بالعذوبة والرقة، فتلكما من صفات ما يعرف بالفن "العالي". ولن يحمل هذا الوصف، كذلك، ذلك الفن الذي تطبعه الراديكالية ويهلل للآلة وإمكانياتها اليوطوبية العظيمة. إن ذلك من صفات ما يعرف بالفن "الطليعي". والفن الشعبي لا ينضوي تحت شعار الفن للفن والدعوة الفردانية، فذلك من خصائص ما يعرف بالفن "الحديث". وقد يقترب موضوع الفن الشعبي من "الفولكلور" كنقيض للفن "العالي". وإنه، في معظم نتاجه، وليد المجتمع الزراعي أو ما قبل الصناعي. ولكنه، بالتأكيد، في منأى عن مفهوم الفن الشعبي Popular Art كما تحدد معالمه بعض وجهات النظر الأميركية والأوربية والتي تراه في الرياضة وألعاب السيرك والملاهي والعنف والجنس، وكل ما يطلق عليه فن "النفايات" بطابعه الاستهلاكي. وهو يقترب من هذا المفهوم إذا ما تحدد بالنزعة الخفية في بعض نتاجاته لمقاومة النظام المسيطر، وبالتحدي الساخر للكلام المتدثر بالرسمية.
وأخيراً، وهو، بالتأكيد، أيضاً ليس ذاك الذي يعرف بالفن "الجماهيري" Mass Art الذي هو حصيلة أميركية نشرت امتداداتها في فترة تقع قبل الحرب العالمية الثانية وتصاعدت مع تصاعد نمو نتاجات هوليود وشبكات الراديو ومجلات هنري لوس. وبها تحولت الثقافة إلى صناعة تعتمد التسلية لا الفن.
ولم يبق الفن "الشعبي"، بمعناه الذي يقترب من "الفولكلور"، وبشكله الإيقوني، رهين الأفق الفلاحي، بل امتد إلى أحياء العمال ودكاكين الباعة البسطاء وزوايا قراء الطالع وواجهات سيارة الأجرة وبيوت الكادحين... مع ملاحظة استفادته من تقنيات الاتصال الجماهيري وخاصة في مجال الطباعة وفرز الألوان.
(3)
وماذا بشأن مناهج ودراسة الثقافة الشعبية التي يدخل في إطارها الفن الشعبي.. وبالتالي التصوير الشعبي؟
لقد بذل الهجابي كثيراً من الجهد في تطبيق ما جاءت به الألسنية وعلم الدلالة والبنيوية والاستبطان. وكأنه بهذا التوليف ينشد الهروب من تحليل المضمون في مفهومه الكمي ويحاول أن يوظف تقنيات التأمل والتجلي بل الاستغراق فيها إلى درجة تقربه من تأملات الصوفيين وتجلياتهم. وأكثر من ذلك واجد شذرات هنا وهناك مما أنتجه العقل الصوفي. ولعل مرد هذا التوجه كامن في أن دراسة الثقافة الشعبية ما زالت تخلو من تعاريف إجرائية واضحة من جهة، كما أنها لم تصل من جهة أخرى إلى وضع تصنيف يتسم بالشمولية. وهذان هما المحوران الأساسيان اللذان ارتكز عليهما دوركهايم في مقاربته للسوسيولوجيا.
وقد يكون من المناسب أن نسجل هنا بعض الملحوظات ذات المساس بمحاولة الهجابي التوليفية:
- إن محاولة التوليف هذه لم تقترب من المنهج التأريخي الذي يعتمد الأنثروبولوجيا الاجتماعية والتصوير والأركيولوجيا والمقارنات..
- إن توظيفه البنيوية أبعده عن استكشاف الغرض الأيديولوجي الذي لا تخلو منه أية ثقافة.
- وفي تطبيق الألسنية ثمة توسع في مفهوم "اللغة". لقد انضوت تحت عباءتها الأشكال غير اللفظية سيراً على خطى ليفي شتراوس. ولكن هذا التوسع، بالرغم مما فيه من مزايا، لا يمكّن من نظرة أعمق إلى ما هو غير لفظي في الثقافة الشعبية. وربما وقع توليف الهجابي في مآزق لو طبق قواعد التوليدية كما أفرزتها كتابات نعوم شومسكي، أو مذهب روف في أن المدرك اللغوي هو ما يحدد معالم العالم.
- وقد يكون في تطبيق التحليل النفسي طرافة الاجتهاد، ولكن أية مدرسة من مدارسه أجدر أن يتبع. ولأن موضوع الاستبطان من التعقيد مصطلحاً ومنهجاً يجعل من الصعب اختيار مدرسة من مدارسه أقرب من غيرها للتطبيق على الخطاب البصري. وربما يكون هذا الإدراك هو الذي دفع الهجابي إلى توظيف نظرة "كلية" في عمليته التحليلية, ولعل أروع ما في نظرته الكلية هذه هو الرجوع إلى تفاسير علماء المسلمين في مجال الأحلام، وعدم الوقوف عند المدرسة الفرويدية.
إن التردد الذي رافق النقاد عند تطبيقاتهم مبادئ التحليل النفسي في حقول الدراسات الأدبية يظل قائماً في مجالات دراسات الخطاب البصري باعتباره مكوناً من مكونات الثقافة الشعبية. وما مرد هذا التردد إلا التخوف من الوقوع في التبسيط الذي ينتهي بالناقد إلى السذاجة في التحليل. ومن هنا، فإن انطلاقة مؤلف هذا الكتاب إلى الاستعانة بمناهج أخرى تبدو على حظ من النجاح بحيث أبعدت التحليل إلى حد كبير عن "الفهامة".
- ولعل أبرز الملحوظات تتجلى في ابتعاد التوليف عن توظيف مبادئ المادية الجدلية في محاولة التحليل. ربما يكون الاتساع في التوليف مانعاً، ولكن أهمية علاقة الإنتاج ونمط الإنتاج والتفاعل المادي بين الناس في تشكيل الوعي الإنساني تدفع إلى الاستعانة بها في تبصر الإستيتيقا الجدلية الرافضة لفصل الشكل عن المضمون. وليس في ذلك ما يحمل الخطاب البصري على البوح عنوة بما ليس فيه على نحو ما تفعله البنيوية والألسنية في أمثلة كثيرة.
(4)
إذا ما سايرنا لويس ألتوسر في رؤيته بأن المعرفة إنتاج، فإن نتاج التصوير الشعبي ممثلاً بعينة الدراسة يشكل مادة أولية تنظيرية للمعرفة في حقول الثقافة الشعبية. ولقد كانت أدواته المستخدمة في تحويل تلك المعرفة توليفاً يقع تحت مظلة "النزعة الإنسانية". ولقد انتهى إلى حصيلة هي هذا الكتاب الذي أريد لك أن تتدارسه بروية القارئ الناقد، وتشوق من ينشد اللذة الفنية.
لن أقول لك إن الهجابي قد نجح في محاولته، ولكني لن أتردد في الزعم بأنك ستجد عبر صفحاته الكتاب متعة روحية مردها إبداع الفنان الشعبي العربي المسلم، كما ستجد فيه الغذاء العقلي الذي يخصب بستان المعرفة بما فيه من تنوع. ولعلك ستشد على يد المؤلف معجباً مثلما فعلت.. ولكني كنت معجباً إعجاب المعلم بنجاح تلميذه، والأب بما أصاب ابنه من فلاح.
د. زكي الجابر (أستاذ سوسيولوجيا الإعلام والتلفزة في المعهد العالي للصحافة بالرباط/ المغرب)
في 10 أبريل 1993
* هذا الكتاب هو في الأصل أطروحة جامعية، تحت إشراف الأستاذ المقتدر الفقيد زكي الجابر، تقدم بها محمد الهجابي لنيل ديبلوم الدراسات العليا في الصحافة بالمعهد العالي للصحافة بالرباط سنة 1992.
748 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع