د. سعد ناجي جواد
سرقة القرن في العراق: “أبْشِرْ بطُولِ سَلامَة يا مَرْبَعُ”
هذا البيت من الشعر هو عجز البيت الذي سخر فيه الشاعر جرير من غريمه الفرزدق، عندما تناهى الى سمعه ان الاخير هدد شخصا اسمه مربع، وبانه سيقتله. فنظم جرير بيتا من الشعر قال فيه:
زَعَمَ الفَرَزْدَقُ أنْ سيَقتُلُ مَرْبَعاً
أبْشِرْ بطُولِ سَلامَةٍ يا مَرْبَعُ
تذكرت هذا البيت وانا اتابع المؤتمر الصحفي الذي عقده السيد محمد شياع السوداني رئيس وزراء العراق اول امس، نقل فيه لكل العراقيين خبرا سعيدا مفاده ان ادارته تمكنت من استعادة 182 مليار دينار عراقي، كجزء من مبلغ مقداره تريليون و 600 مليار دينار سرقها فاسد واحد او لص من اللصوص الكبار الذين امتلأ، بل ابتُلي بهم العراق منذ عام 2003. وللعلم فان المبلغ الذي سرقه هذا اللص هو جزء من مبلغ اكبر سرقه امثاله قال رئيس الوزراء انه يصل الى 3 تريليونات و754 مليار و642 مليون دينار عراقي. اي حوالي تلاث مليار دولار ونصف، وهناك من اعلن ان المبلغ يتجاوز 5 تريليون دينار (هذه الارقام صحيحة مائة بالمائة وليست من نسج الخيال، ولهذا استحقت العملية لقب سرقة القرن).
اصل العملية باختصار ان مجموعة من اللصوص المتنفذين والمدعومين من لصوص اكبر واكثر نفوذا، اكتشفوا ان هناك مبالغ كبيرة مودعة لدى دائرة الضرائب كأمانات اودعتها شركات ومؤسسات اجنبية لضمان تنفيذ المشاريع التي يحصلون عليها داخل العراق. وقام اللصوص بسحب هذه المبالغ على شكل دفعات بالتواطؤ مع دائرة الضرائب واللجنة المالية في البرلمان والمصارف الحكومية التي اودعت فيها هذه الاموال وسياسيين ومتنفذين كبار، وهربوها واودعوها في حساباتهم الخاصة. لا بل ان احد اللصوص اشترى قاصة (خزانة حديدية) ضخمة تستوعب شاحنة كبيرة صممت خصيصا له لكي يودع فيها الاموال التي سرقها من هذه الامانات. في البداية سُجِلت الجريمة ضد حوالي ثمانية اشخاص يمتلكون مكاتب تجارية، كانت الواجهة لعملياتهم. وكانوا هم الواجهة لمتنفذين وسياسيين كبار ومدراء عامين في دوائر مختلفة. وتم التستر على العملية لفترة طويلة تم خلالها سرقة هذا المبلغ الهائل على شكل دفعات، حتى نشب نزاع بين شخص اراد ان يحصل على حصة من هذه السرقة وصاحب احد المكاتب الذي رفض ان يعطيه ما اراد، فتسربت الاخبار وكشفت وافتضحت تفاصيلها وضخامة المبالغ المسروقة، كل ذلك تم فيزمن حكومة السيد الكاظمي الان انه لم يفعل شيئا كعادته للتصدي لهذه الجريمة، وبعد تشكيل الوزارة الجديدة وتزايد المطالبات بالكشف عن هذه الجريمة ومحاسبة فاعليها، الزم رئيس الوزراء الجديد السيد السوداني نفسه بمتابعتها والكشف عن كل المتورطين فيها. وكان اول الغيث ان ظهر اول امس في المؤتمر الصحفي الذي اشير له اعلاه، مع اكداس من الاموال على جانبيه ليثبت جدية ما كان يقوله. وبرر ذلك المنظر الغريب بالقول ان العراقيين دابوا على سماع القصص عن محاربة الفساد التي لم تصل الى اية نتيجة، ولكي يطمئنهم بان جهوده جادة عرض اكداس الاموال عليهم. لكن هذا العرض الذي قدمه السيد السوداني، والذي اسعد العراقيين لأول وهلة، توجد عليه بعض الملاحظات الجدية.
ـ الملاحظة الاولى: ان السيد السوداني ذكر اسماء ستة اشخاص فقط، قال انهم متورطون في هذه السرقة، وذكر ايضا انهم جميعا هاربون، باستثناء شخصين، واحد القي عليه القبض وتم استرداد الاموال التي عرضها في مؤتمره الصحفي، والثاني في شمال العراق (المنطقة الكردية) وسيتم تسليمه قريبا، ووعد بان الاجراءات القانونية ستتخذ بالتعاون مع الدول المجاورة والاقليمية التي تأوى هؤلاء اللصوص، وزاد على ذلك بان قال ان معيار حسن العلاقة مع هذه الدول سيكون مدى تعاونها في استرداد اللصوص والمبالغ التي سرقوها. وهذا امر جيد ايضا. الا ان الملفت للنظر ان السيد السوداني اغفل ذكر اسماء اشخاص اخرين وردت اسماؤهم في التحقيقات بانهم مساهمون في هذه السرقة. واحد الذين اغفلت اسماؤهم، وهو من المتمتعين بالحصانة، بلغت به الصفاقة والاستهتار ان يقول في برنامج تلفزيوني وعلى الملا ان هذه الاموال هي ليس اموال العراق، وانما امانات من جهات اجنبية! ولم يكلف مقدم البرنامج الذي استضافه نفسه ليقول له، وماذا سيحصل اذا طلبت الجهة التي اودعت الامانة استرداد امانتها؟ أليست دولة العراق هي المسؤولة عن تسديد الامانة؟ كما ان السيد السوداني لم يكشف اسم متنفذ كبير واحد يقف وراء هؤلاء السراق.
، الملاحظة الثانية: ان السيد السوداني لم يذكر اسم الشخص الذي صودرت الاموال منه كاملا مع اللقب، وكذلك الحال مع الاسماء الاخرى، والسبب في ذلك ان بعضهم ينتمي الى عوائل يفترض بانها معروفة وصاحبة تاريخ نظيف ومع ذلك لم تتبرأ من اللصوص من ابنائها.
ـ الملاحظة الثالثة: ان السيد السوداني لم يُظهِر لنا الشخص الذي تم القاء القبض عليه حتى نتأكد من حقيقة انه في قبضة العدالة، قد يقول قائل ان هذا الامر ليس مهما، المهم هو استرداد الاموال. ولا ادري كيف يمكن قول مثل ذلك، كيف سيرتدع لصوص اخرون يرتكبون جرائم مشابهة. الاهم من ذلك ان السيد السوداني صعق المتابعين لمؤتمره الصحفي عندما اعلن ان الاجراء الذي تم اتخاذه بحق ذلك الفاسد او اللص الذي القي القبض عليه، هو ليس ايداعه السجن جراء جريمته، وانما تم اطلاق سراحه بكفالة (لكي يقوم ببيع العقارات التي اشتراها بالاموال المسروقة ويسددها الى الدولة)، وهذا لعمري اغرب اجراء اسمعه في حياتي في مواجهة جريمة سرقة كبرى لم يشهد العالم مثلها من قبل. اما الكفيل للسارق فهي (الاجهزة الامنية) التي ستراقبه حتى يعيد كل الاموال المسروقة!!! الامر الاكثر غرابة ان القضاء المختص اصدر توضيحا اكد فيه ما قاله السيد رئيس الوزراء، وزاد بالقول ان عملية اطلاق السراح قانونية، وانه ليس هناك مادة قانونية تمنع اطلاق سراح المتهم في مثل هذه الحالة لكي يقوم باعادة الاموال المسروقة. هذا التبرير اتركه لخبراء القانون لكي يردوا عليه، لكن سؤالي هو كيف يمكن الوثوق بمجرم فاسد ارتكب مثل هكذا جريمة ولا تزال في حوزته مبالغ هائلة يمكن ان يرسي بها ضعاف النفوس من الاجهزة الحكومية لكي يهرب؟ والسؤال الثاني ماذا سيحصل اذا تمكن المجرم من الهرب فعلا، وهو لا يزال في ذمته مليارات الدولارات؟ واخير كيف سيردع هذا الاجراء امثاله من السراق، ومن سيجبرهم على اعادة الاموال؟ ثم اليس هذا الاجراء هو تشجيع للفاسدين الباقين على الاستمرار في غيهم، او ربما يعتبر ذلك تلويحا لهم بانهم يستطيعون اتباع نفس الاسلوب، وهو اعادة خمسة بالمائة مما سرقوه كي يطلق سراحهم على (امل) ان يعيدوا باقي ما سرقوه؟ كي تغلق القضايا الاخرى المتعلقة بسرقاتهم. او ان يتم تسويف قضاياهم على اساس ان الناس قد تعودت على سماع اخبار الفاسدين وتمتعهم بما سرقوه دون عقاب؟
تاريخ تهريب الفاسدين الكبار والتستر عليهم في العراق اسود وطويل ومؤلم وساهم فيه رؤوساء وزراء وحكومة اقليم كردستان ومتنفذين من الاحزاب السياسية الحاكمة وحتى ادارة الاحتلال وبعض دول الجوار، والكل يعلم كيف هُرِبَ وزراء سابقون وامناء سابقون لمدينة بغداد ومحافظ سابق لكركوك بعد ان تم القاء القبض عليهم وايداعهم السجن، وقسم منهم كانوا قد تم استردادهم عن طريق الانتربول ومع ذلك تم تهريبهم ثانية، فهل ستكون نتيجة هذه الحملة كسابقاتها وتذهب اموال العراقيين المساكين هباءا منثورا؟ (قبل ايام انتشر فيديو يُظهر طالبات بعمر الزهور تحمل كل واحدة منهن حصيرة صغيرة لكي تجلس عليها على الارض، لان المدرسة لا يوجد فيها رحلات، اليست هذه الزهور اولى بهذه الاموال التي يسرقها الفاسدون ويبذروها على نزواتهم وملذاتهم وابنائهم الفاسدين ومصالحهم الشخصية؟)
لا يمكن لاحد ان يشك في ان موقف السيد السوداني محرج بل وصعب جدا. فكل الدلائل تقول ان المتورطين والمستفيدين من هذه السرقة، وغيرها كثير، سياسين كبار كان لبعضهم الفضل في تسميته لمنصبه رئيس الوزراء، وان هؤلاء على استعداد للوقوف وبشراسة في وجه استمراره في كشف تفاصيل هذه الجريمة، او غيرها، واسماء المتورطين بها. لكن السيد السوداني قال في مؤتمره الصحفي انه لن يتوان عن استرداد الاموال وملاحقة الفاسدين ولن يتستر على احد. صحيح ان هذا الكلام لا يتسق مع القرار بالافراج عن المجرم الاخير، ولكنه زاد على وعده بان قال ان هذا المجرم سيعيد الاموال خلال اسبوعين، ونحن سنحسب على السيد السوداني هذين الوعدين وننتظر اسبوعين، فهل سنشهد اعادة الاموال المسروقة وكشف باقي المتورطين ام اننا سنظل نُبَشِر الفاسدين في العراق بطول السلامة كسلامة مربع.
752 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع