د. جابر أبي جابر
حول رواية دوستويفسكي "الجريمة والعقاب"
"الجريمة والعقاب" رواية اجتماعية نفسية واجتماعية فلسفية عكف المؤلف على كتابتها خلال العامين 1865-1866. وقد أثار صدورها نقاشات عنيفة في الأوساط الأدبية بروسيا حيث تراوحت آراء النقاد بين الإعجاب الشديد والنفور التام. وهي تتضمن اعترافاً حقيقياً يطرح فيه المؤلف قضايا النظرة البشرية للعالم ويصور آفات المجتمع ويؤكد على الحاجة إلى التوبة حسب المفهوم المسيحي.
تبدأ أحداث الرواية في صيف قائظ بمدينة بطرسبورغ حيث اضطر الطالب روديون راسكولنيكوف إلى ترك الجامعة نظراً لعدم توفر المال اللازم لدفع الأقساط. وهو يعيش في غرفة صغيرة ذات سقف واطئ هي أقرب إلى جحر منها إلى مسكن وتطالبه صاحبة البيت بتسديد ديونه المتراكمة لقاء استئجاره لهذه الغرفة. كما أنها تتوقف عن تقديم الطعام له.
ويتجه البطل إلى شقة المرابية العجوز أليونا ايفانوفنا لاستطلاع مشروعه القاضي بقتلها وسرقة مالها. إنه يعتقد أن جريمة واحدة ستبدل حياته وتحسّن أحوال الكثيرين وخاصة أسرته بالإضافة إلى رغبته في أن يؤكد لنفسه أنه من الأشخاص غير العاديين، الذين يملكون الحق في تجاوز الأعراف والقوانين الوضعية والإلهية. وفي طريق العودة يعرج على إحدى الحانات الرخيصة حيث يتعرف على الموظف السابق سيمون مرملادوف، الذي يروي له الكثيرعن الظروف القاسية، التي تعيشها أسرته، بما في ذلك أن مرض السل والفقر دفعا زوجته كاترين ايفانوفنا للإتيان بعمل فظيع، إذ أرسلت ابنته الكبرى من زوجته الأولى صونيا لكسب المال من خلال ممارسة الدعارة لكي تقوم على هذا النحو بإعالة الاسرة. وفي نهاية الجلسة يضطر راسكولنيكوف لإيصال مرملادوف إلى بيته نظراً لشدة سكره. وقد تعرف هناك على زوجته كاترين إيفانوفنا وابنته صونيا.
ويتلقى روديون رسالة من والدته بعثت بها من بلدتهم البعيدة تبلغه فيها أن شقيقته دونيا، التي عملت مربية في بيت مالك الأراضي سفيدريغالوف، قد تعرضت للافتراء إذ أنه "وضع عينه عليها" مما دفع زوجته مارفا بتروفنا إلى إهانتها وإذلالها. وبالإضافة إلى ذلك فإن بيوتر لوجين وهو رجل أعمال ثري إلى حد ما، يسعى للزواج من دونيا. وفي هذه الرسالة تعلمه والدته أنها وشقيقته ولوجين سيأتون إلى بطرسبورغ قريباً. وقد أثارت هذه الرسالة حفيظته. فهو يعارض زواج دونيا من هذا"المحسن".
بعد قراءته لرسالة والدته، التي أقلقته أشد القلق، وخاصة بالنسبة لمشروع زواج دونيا من لوجين، ومضت في ذهنه من جديد فكرة قتل المرابية." غير أن هذه الفكرة ليست الآن ما كانت عليه البارحة، والفرق بينهما وبين فكرة البارحة أنها لم تكن منذ شهر ولا ليلة أمس إلا حلماً، أما الآن فهي لا تُعرض له في صورة حلم، بل هي تُعرض في صورة جديدة، في صورة رهيبة مخيفة لا عهد له بها من قبل... "لقد أدرك ذلك على حين بغتة... فأخذ الدم يدق في صدغيه، واسودّ كل شيء أمام عينيه".
ومنذ بداية تفكيره بقتل هذه المرأة المقيتة كان راسكولنيكوف يبرر ذلك بأنه سيستطيع بمالها تحقيق الكثير من الأعمال الصالحة وتخليص والدته وشقيقته من الفقر. ولم يكن يعتبر هذا الفعل الإجرامي خطيئة. فهذه المرابية، حسب اعتقاده، جمعت ثروتها مستغلة مصائب الغير ولذلك فلما لا يسلبها مالها على هذا النحو المقرف لإعطائه إلى الذين في أمس الحاجة إليه؟ وقد كان يسعى، في الوقت نفسه، إلى اختبار ما إذا كان ينتمي إلى الفئة الأولى من البشر او الفئة الثانية حسب نظريته، التي عرضها في مقالته،" حول الجريمة" المنشورة قبل بضعة شهور في إحدى صحف العاصمة والتي يؤكد فيها أن الناس ينقسمون إلى فئتين أولهما "الأشخاص العاديون" أي كل من يعيش بانسجام مع النظم والركائز الاجتماعية ويخضع للقانون ولا يريد أن يبدل شيئاً. وهذه هي الكتلة الرمادية وهم مخلوقات ترتجف. أما فئة الأشخاص غير العاديين فإنهم أشخاص يتجاوزن القوانين والتقاليد بكل جرأة ويسعون إلى تبديل مجرى التاريخ والتصرف بحيوات الآخرين. فالشخص العائد إلى هذه الفئة قوي وشجاع ولا يسير مع التيار وواثق من نفسه.
ويحلم راسكولنيكوف نهاراً بمشهد فظيع من أيام طفولته حيث يقوم رجال سكارى بتعذيب حصان هرم حتى الموت ولا يستطيع روديون الصغير أن يفعل شيئاً لإنقاذ الحصان المسكين. وقد أبدع دوستويفسكي إبداعاً مذهلاً في وصفه لهذا الحلم. وخلال مرور راسكولنيكوف بسوق العلف يرى أليزابيت ايفانوفنا الأخت غير الشقيقة للمرابية وهي تتحدث مع الباعة. ويعلم من خلال الحديث أنها لن تكون بالبيت في الساعة السابعة مساء. وعند ذلك أدرك أن قراره بقتل المرابية أصبح الآن نهائياً ولا رجوع عنه.
ورغم الاستطلاع، الذي قام به، فإن الخطة المدروسة بعناية تنهار من جراء ما ألم به من ذعر شديد فقد قتل أليونا إيفانوفنا، ولكنه نسي إغلاق الباب، الذي دخلت من خلاله فجأة أليزابيت الإنسانة الطيبة الوديعة، فاضطر إلى قتلها أيضاً. وهكذا فإن الصدفة أرغمت البطل على قتل امرأة هي بالأصل كانت ضحية استبداد أختها أي أنه في الوقت نفسه قتل المرابية الظالمة وضحيتها. ولهذا الحادث مغزى هام للغاية يدل على أن "حساب الحقل غير حساب البيدر". فهنالك اختلاف بين ما يأمل به الإنسان وما هو قادر على تحقيقه وكذلك ما بين النظرية والتطبيق. وقد يؤدي هذا الأمر إلى عكس ما يُرجى منه تماماً. ويتسنى لراسكولنيكوف أن يهرب من شقة المرابية بأعجوبة دون أن يلاحظه أحد.
وفي اليوم التالي يستيقظ راسكولنيكوف على دقات باب غرفته حيث تسلمه الطباخة ناستيا ورقة استدعاء إلى قسم الشرطة مما يثير في نفسه خوفاً شديداً. ولدى وصوله إلى هناك يدرك أن الأمر يتعلق بضرورة تحرير التزام بتسديد دينه لصاحبة البيت. وما أن همَّ بالخروج حتى سمع حديث رجال الشرطة حول احتجاز كوخ والطالب بيستريكوف اللذين كانا يقرعان باب المرابية عندما كان لا يزال داخل شقتها فيغمى عليه فوراً. وما أن استعاد رشده حتى حاول توضيح الأمر على أنه مريض. غير أن الملازم سأله بارتياب عما إذا كان قد نزل إلى الشارع مساء أمس.
وخوفاً من حدوث مداهمة لغرفته يقوم راسكولنيكوف بإخفاء الأشياء المسروقة في مكان عشوائي خارج مسكنه وهي جزء صغير مما كانت تملكه المرابية العجوز. وخلال ذلك يصاب بحمى شديدة تحت وطأة ارتكابه للجريمة الفظيعة حيث تتحول حياته إلى جحيم. فهو يعاني من وخز الضمير المتواصل ويعيش باستمرار في حالة توتر ورعب خوفاً من افتضاح أمره. ولهذه الأسباب يغدو على حافة الجنون. ومن الواضح أن المؤلف يسعى عبر وصفه الرائع لمعاناة البطل أن يؤكد على بطلان نظريته.
وأثناء مرضه يعتني به صديقه رازوميخين، الذي يتعرف فيما بعد على شقيقته دونيا ويقع في حبها. ولدى تحسّن حاله أعلمه صديقه أن المحقق بورفيري بتروفتش يشتبه في ارتكابه الجريمة وذلك استناداً لمقالته "حول الجريمة". ويزوره صاحبه الطالب في كلية الطب زوسيموف، الذي يشرع بالحديث عن مقتل المرابية وأختها أليزابيت، ويشير إلى اشتباه الشرطة بالعديد من الأشخاص وضمنهم الدهان ميكولا ويعلن أنه لا توجد لدى الشرطة حتى الآن أدلة مؤكدة بخصوص القاتل. ثم يأتي خطيب شقيقته بيوتر لوجين للتعرف عليه. وخلال ذلك يتهمه راسكولنيكوف بأنه يعتزم الزواج من دونيا حصراً لكي تبقى طيلة حياتها ممنونة له لانتشالها وأسرتها من ربقة الفقر. ولكن لوجين يسعى جاهداً إلى انكار هذا الأمر فيُطرد من هناك. ويقلق رازوميخين على حالة صديقه حيث يرى أنه ثمة شيء ما ثابت وثقيل الوطأة يقبع في ذهنه. وخلال وجود والدته وشقيقته تأتي صونيا لدعوته إلى حضور وليمة تأبين والدها، الذي دهسه الحصان في الشارع وما لبث أن فارق الحباة في اليوم نفسه. وعلى الرغم من أن سمعة الفتاة لا تسمح لها بالتواصل على قدم المساواة مع والدته ودونيا فإن الشاب يعرفها على قريبتيه ولدى خروج صونيا تنحني لها دونيا بكل احترام مما أحرج الفتاة بشدة.
وفي حديثه مع صونيا بعد اعترافه لها بجريمته البشعة يقول راسكولنيكوف: "اسمعي كيف جرت الأمور ... لقد أردت أن أصبح نابليون، ومن أجل ذلك إنما قتلت. فهل فهمت الآن؟....إنني لم أقتل إلا قملة قذرة، لا فائدة منها، مسيئة... إنني أعلم الآن يا صونيا أن مَنْ كان قوي النفس والعقل، فذلك هو سيدهم، ذلك هو مولاهم! مَنْ كان يمتلك جرأة كبيرة فذلك هو الذي له الغلبة عليهم!... إنني حين قتلت لم أرد يا صونيا إلا أن أجرؤ! ذلك هو السبب الذي جعلني أقتل!.... كنت أشعر شعوراً واضحاً بأنني لست نابليون. ذلك هو العذاب الذي عانيته يا صونيا، والذي أردت أن أتخلص منه دفعة واحدة.... أردت أن أقتل لنفسي، لنفسي أنا وحدي!... إنني لم أقتل في سبيل أن أساعد أمي! لا! لا ولا في سبيل أن أصبح محسناً إلى الإنسانية بعد أن أملك وسائل الإحسان إليها.... كان عليّ أن أعرف عندئذ، بأقصى سرعة ممكنة، أ أنا قملة كسائر الناس، أم أنا رجل، أ أنا أستطيع أن أتخطى الحاجز أم أنا لن أستطيع ذلك،.... أ أنا مخلوق مرتعش أم أنا أملك "الحق"...".
ومع ذلك لا يمكننا الجزم بأن ذلك كان السبب الوحيد الذي دفع راسكولنيكوف إلى ارتكاب جريمته. فهو لم يقم بذلك لإرضاء رغباته ودوافعه الأنانية وإنما من خلال إحساسه بالظلم الفظيع المتفشي في العالم والمجتمع. وحيث أنه إنسان بعيد عن اللامبالاة فهو يرى العديد من المصائر المحطمة والناس الذين يعيشون أسوأ منه. وقد كان بوده مساعدة والدته وشقيقته وأسرة مرملادوف وضمنها الفتاة الغارقة في الذل والهوان وكذلك الإتيان بآلاف الأعمال الصالحة. ولكنه في النتيجة لا يصل إلى هدفه المنشود ويحكم على نفسه بمعاناة لا حصر لها. إن الخطيئة الوحيدة، التي كان راسكولنيكوف يؤاخذ نفسه عليها هي أنه لم يستطع الصمود. وحسب قوله فإن كثيرين من العظماء، الذين أحسنوا إلى الإنسانية ولم يكونوا قد ورثوا السلطة وراثة، وإنما استولوا عليها كان ينبغي أن تقطع رؤوسهم منذ خطواتهم الأولى. وهو يؤكد قائلاً" إن الفرق الوحيد بين هؤلاء وبيني هو أنهم قد احتملوا ثقل أفعالهم، فكان ذلك"مبرراً" لهم. أما أنا فلم أقدر على الصمود. إذن كان لا يحق لي أن أجيز لنفسي القيام بتلك المحاولة". وهكذا فإنه يقتنع بعد حصول الجريمة الشنعاء بأنه نفسه ليس الشخص، الذي يجرؤ على تقرير مصير الناس. وهذا يجرح كبرياءه إلى حد كبير.
وفي لقائه الأخير مع بورفيري بتروفتش يوجه إليه هذا المحقق بصراحة التهمة بارتكاب الجريمة ويمهله يومين للتفكير في مسألة المجيء إلى قسم الشرطة والاعتراف بفعلته. كما أن صونيا تطلب منه أيضاً ذلك حيث تقول له :" إذهب فوراً، في هذه اللحظة نفسها، اذهب إلى مفترق طرق، فاسجد على الأرض، واتجه إلى جهات العالم الأربع جهة بعد جهة، ثم ارفع صوتك عالياً قوياً أمام جميع الناس بقولك: لقد قتلت! عندئذ سيرد إليك الله الحياة. أتذهب؟ أتذهب؟". وعقب ذلك ذهب ونفذ ما قالته له صونيا ولكن صوته كان مخنوقاً، ثم توجه بعد ذلك للاعتراف بجريمته أمام الشرطة. وهكذا نجد أن صونيا تسعى إلى مصالحته مع القيم المسيحية-عن طريق إهدائه الإنجيل والصليب، ومع القيم الوطنية- من خلال مطالبتها له بالسجود على الارض والقول أمام جميع الناس"لقد قتلت!".
وفي غضون ذلك تفارق كاترين ايفانوفنا الحياة ويتولى سفيدريغالوف تنظيم أمور الجنازة وإيواء الأطفال اليتامى في ملجأ للأيتام على نفقته. ثم يعرج على صونيا ويعلمها أنه سيسافر إلى أمريكا ويعرض عليها ثلاثة آلاف روبل لتعيش حياة طبيعية. فترفض في البداية عرضه، ثم تدرك أهمية هذا المال من أجل سفرها إلى سيبيريا للحاق بحبيبها راسكولنيكوف فتقبل منه هذا المبلغ. أما سفيدريغايلوف فقد كان يعاني من كوابيس متعلقة بفتاة انتحرت غرقاً بسببه ومن امتناع دونيا عن الاستجابة لمشاعره الجياشة تجاهها. وفي النهاية يقدم على الانتحار. وعلى أثر اعتقال راسكولنيكوف مرضت والدته ثم توفيت. وتزوجت شقيقته دونيا من صديقه رازوميخين. وبالنسبة له فقد حكم بالسجن ثماني سنوات مع الأشغال الشاقة في سيبيريا وكان الحكم مخففاً نظراً لاعترافه بجريمته بنفسه وإعادة المال والأشياء المسروقة كاملاً، إلى جانب إنقاذه لطفلين أثناء الحريق واعتنائه بصديقه المريض وتسديد نفقات علاجه من ماله الخاص.
في خاتمة الرواية تنتقل الأحداث إلى أحد السجون في سيبيريا حيث يحتجز راسكولنيكوف المحكوم بالأشغال الشاقة. ثم تلحق صونيا به إلى سيبيريا في محاولة لدعم البطل بحبها المتفاني. وتؤدي صحوته التدريجية إلى رفض "الفكرة النابليونية" والإيمان بأنه سيستطيع بحبه ووفائه أن يكفر عن كافة معاناة صونيا. وهي، بدورها، تقدر عن طريق الكتاب المقدس، الذي أعطته له، أن تجعل الطالب المجرم يتعطش من جديد للحياة. ويدرك راسكولنيكوف أن الحياة الجديدة لم يحصل عليها سدى فإن عليه أن يدفع ثمنها غالياً وأن ينالها بجهود شاقة قاسية ومضنية. وهكذا ففي نهاية الرواية يأتي البطل إلى الخالق ويدرك أن العقوبة من وجهة نظر القانون أقل إثارة للخوف والمعاناة من عذاب الروح وعقاب الضمير.
تشغل الخاتمة مكاناً خاصاً عند دوستويفسكي حيث يتخللها نور الروحانية والأمل يمستقبل باهر. ويتحدث الكاتب هنا عن كيفية تطور حياة شخصيات الرواية لاحقاً, وهو ، في الوقت نفسه، يعطي الأمل لجميع البشر الذين يعيشون في الأرض للتكفير عن خطاياهم. فهو يشير إلى إمكانية شفاء راسكولنيكوف بفضل التوبة الصادقة والإيمان بالخالق. وقد أصبح البعث الأخلاقي للبطل أمراً متاحاً نظراً لإعادته النظر في حياته وتصرفاته وقيمه بصورة تامة. لدى تحليل الرواية لابد من الأخذ بعين الاعتبار ذلك العامل الهام، الذي يتجلى في أن دوستويفسكي أمضى سنوات طويلة في سجن الأشغال الشاقة بسيبيريا وخلال وجوده هناك احتك بشتى المجرمين واللصوص والمعتقلين السياسيين. ففي تلك السنوات الصعبة درس الكاتب بكل دقة مصائر هؤلاء المساجين. ولم يقتصر الأمر على سيرة حياتهم بل وشمل أيضاً الظروف والبواعث، التي دفعتهم إلى ارتكاب هذه الجريمة أو تلك.
وقد استنتج دوستويفسكي بأنه في معظم الحالات كان وراء هذه الجرائم استياء أصحابها من الوضع الاجتماعي الظالم في روسيا. ويعرض الكاتب رؤيته الخاصة لطريق حل المشاكل الاجتماعية في البلد بعيداً عن الحركة الثورية وتوجهاتها بخصوص الإطاحة بالنظام القيصري. فهو يؤكد على ضرورة تحسين الحياة الروحية للشعب وغرس الأخلاق المسيحية في وعي الجماهير. وحسب اعتقاده فإن المبادئ المسيحية بالذات يمكنها التأثير على قلب الإنسان وإعادة بناء عقله وروحه.
استوحى دوستويفسكي موضوع الرواية حول قاتل المرابية بالفأس من جريمة واقعية حدثت في مطلع عام 1865 حيث قام أحد سكان موسكو غيراسيم تشيستوف بقتل امرأتين مسنتين بالفأس وسرق منهما أشياء قيمة ونقوداً. والمعروف أن القاتل منشق (راسكولنيك باللغة الروسية) من أتباع طائفة المؤمنين القدامى، التي رفضت إصلاحات البطريرك نيقن الدينية في منتصف القرن السابع عشر وانشقت عن كنيسة موسكو الأرثوذكسية الرسمية.
وتتجلى الفكرة الرئيسية للرواية في أنه لا بد للعقاب أن يتبع أية جريمة حتى وإن لم تكن في شكل حرمان المجرم من حريته ولكنه لن يفلت من ضميره. وثمة فكرة هامة أخرى في هذا العمل وهي أن الحب قوة عظيمة بوسعها أن تقلب حتى العالم الداخلي للمجرم. فالحب الحقيقي قادر على شفاء الإنسان وبعثه. وبهذا الصدد يعطي المؤلف دوراً بارزاً لصونيا مرملادوفا حيث أن حبها يساعد راسكولنيكوف على التوبة. فالإيمان بالخالق يغرس فيه الثقة بنفسه والإيمان في قيامته وولادته الجديدة.
يسعى دوستويفسكي في هذه الرواية، قبل كل شيء، إلى إيصال تصوراته المسيحية حول الحياة والتي بموجبها ينبغي على الإنسان العمل على العيش باتباع القيم الأخلاقية والابتعاد عن الغطرسة والشهوات والأنانية. كما عليه أن يعيش من أجل القريبين وصنع الخير والتضحية بمصالحه الخاصة في سبيل المجتمع. ولهذا السبب بالذات يصل راسكولنيكوف في نهاية الخاتمة إلى الإيمان الذي هو إنقاذ لروحه المعذبة ويحصل على الأمل بالخلاص. وقد تسنى له تحقيق بعثه الأخلاقي بفضل مراجعته التامة لحياته وتصرفاته وقيمه. يولي المؤلف، بالإضافة لاهتمامه الكبير ببطله الرئيسي، اهتماماً خاصاً بالشخصيات المركزية الأخرى للرواية مثل رازوميخين ودونيا ووالدته وصونيا وسفيدريغايلوف ويصور شخصية كل منهم بألوان زاهية. ويتضح في نهاية الرواية أن مصيراً مأساوياً ينتظر بعضهم.
يبرز العديد من الباحثين ضمن صور الرواية مدينة بطرسبورغ عاصمة الإمبراطورية الروسية آنذاك. فهم لا يكتفون باعتبارها مكاناً لأحداث هذا العمل الأدبي الكبير وإنما يرون أنها تكاد تكون البطل الرئيسي لهذا العمل. ففي حديثه مع راسكولنيكوف خلال اللقاء الأول بينهما يقول سفيدريغايلوف"... أهذه مدينة؟ كيف أمكن أن تنشأ مدينة كهذه المدينة؟ هل شرحت لي هذا، من فضلك! هي مدينة موظفين وطلاب من جميع الأنواع!". وفي لقاء آخر مع راسكولنيكوف يشير سفيدريغايلوف في معرض حديثه عن بطرسبورغ إلى أن كثيراً من الناس هناك يكلمون أنفسهم بصوت عالٍ أثناء سيرهم، وهو يرى أن "هذه المدينة سكانها نصف مجانين ولو كان عندنا علوم لاستطاع الأطباء ورجال القضاء والفلاسفة أن يجمعوا عن بطرسبورغ ملاحظات ثمينة، كل في ميدان اختصاصه، ويصعب أن تجد مدينة أخرى تضاهيها فيما نلاحظ فيها من تأثر النفس الإنسانية بمؤثرات غامضة مظلمة غريبة إلى هذا الحد. أيكون مرد هذا إلى مناخها؟".
في ستينات القرن التاسع عشر لم يكن الوضع في بطرسبورغ المكتظة بالسكان مزدهراً تماماً حيث ازداد معدل الجريمة وارتفع عدد الفقراء وظهرت المزيد والمزيد من النساء اللواتي يمارسن الدعارة وارتفعت أعداد المدمنين على تعاطي المشروبات الكحولية من جراء الفقر, كما اتسع نشاط المرابين. وإلى جانب ذلك راجت ظاهرة النهلستية (العدمية) وانتشرت الأفكار الاشتراكية والماركسية والدعوات إلى المساواة بين الجنسين والنزعة الفردية. كما أن النساء كن يخشون المشي في الشوارع وحدهن نظراً لأن المدينة لم تكن آمنة.
ومنذ بداية الرواية نغوص في أجواء الغبار المنتشر في كل مكان والرائحة الكريهة المنبعثة من مجارير الصرف الصحي النتنة والمياه الراكدة والهواء الخانق في معظم أحياء المدينة وخاصة الحي الفقير، الذي يعيش فيه الطالب المسكين. فهذا المكان لا يمكن أن يكون بأي حال من الأحوال مصدر إلهام وإبداع لأحد. وإن كافة اللحظات المأساوية في حياة الأبطال مرتبطة بوصف بطرسبورغ في الرواية. وكأن المدينة تدفع البطل إلى ارتكاب جريمته وتؤدي إلى تفاقم حالته المرضية عقب هذه الجريمة. وبالمناسبة فإن جاءت شوارع بطرسبورغ المظلمة والباهتة جاءت كإضافة ملاءمة لمزاج راسكولنيكوف. وقد خصص دوستويفسكي حيزاً لا بأس به من الرواية لهذه الشوارع.
مما لا شك فيه أن سانت بطرسبورغ تشغل مكانة هامة في أعمال الكتاب الروس. ويجدر الإشارة إلى أن بطرسبورغ عند دوستويفسكي تشبه تلك، التي وصفها الشاعر نكراسوف بأنها مدينة مظلمة دائماً واعتبرها سبب كل مصائب سكانها. وتبدو هذه المدينة عند مؤلف"الجريمة والعقاب مزدوجة الطابع. فهناك بطرسبورغ القصور الفخمة والساحات الجميلة والنوافير الرائعة، وهناك، من جهة أخرى، الأحياء الفقيرة والحانات ذات الطاولات المتلاصقة والشوارع الضيقة والسلالم السوداء والجير المنتشر في كل مكان والطوب والغبار والروائج الكريهة والازدحام الشديد والسكان الذين يعاملون بعضهم بعضاً بالريبة وعدم الثقة.
وهكذا فإن بطرسبورغ في الرواية مدينة ميتة وباردة وغير مبالية بمصير الإنسان. ولذلك فإن صور هذه المدينة في"الجريمة والعقاب" تتخللها آلام عميقة للإنسان وشعور ملتهب بالسخط الاجتماعي. ومن المؤكد أن الوحدة تقود أبطال دوستويفسكي إلى إدمان الخمر والجريمة والموت. وتعمل المدينة كمحرض ومشارك غير مرئي في جريمة راسكولنيكوف.
وليس من قبيل الصدفة أن وصف دوستويفسكي للمدينة يهيمن عليه اللون الأصفر وهو رمز المرض والفقر وقذارة الحياة، إذ يلاحظ القارئ أوراق الجدران الصفراء في شقة المرابية العجوز. كما أن غرفة راسكولنيكوف الصغيرة صفراء وهي شبيهة بخزانة أو صندوق. ونرى أيضاً أن المباني في هذه الأحياء الفقيرة مطلية باللون الأصفر الضارب إلى الرمادي . وبالإضافة إلى ذلك فإن أوراق الجدران في غرفة صونيا صفراء. والأمر على هذا النحو في مكتب المحقق بورفيري بتروفتش حيث الأساس الخشبي المصقول الأصفر. وأخيراً نجد أوراق الجدران الصفراء بغرفة سفدريغايلوف في الفندق. وعليه فإن اللون الأصفر يشدد السقم والانحراف والقلق ويثير الشعور بانقباض النفس والاغتمام.
غالباً ما يكون أبطال مؤلفات دوستويفسكي معكري المزاج ومعذبين. ولم يكن رد فعل البطل الرئيسي على الفقر والحرمان صراعاً هادئاً ولكنه اقتصر على المعاناة الداخلية. وقد صوّر المؤلف ببراعة التأثير الجسدي والنفسي لغرفة راسكولنيكوف الضيقة والقذرة وذات السقف الواطئ حيث كان يستلقي على سريره وهو في حالة غضب واستياء. فوصل به الأمر في النهاية إلى كره المجتمع. وهناك ضمن مونولوجاته الصفراوية، التي تشغل حيزاً كبيراً من الرواية، يقوم بالتخطيط لقتل المرابية العجوز المثيرة للاشمئزاز وتنفيذ خطته بدهاء حيث أنه اعتبر وجودها أمراً ضاراً للناس.
يكشف دوستويفسكي في وصفه للوجين وسفدريغايلوف عن نهايتين محتملتين للمسار الذي شرع فيه بطله الرئيسي. فإن لوجين وغد" عن طريق الإقناع" يغدو الربح والمنفعة الشخصية بالنسبة له فوق كل شيء. وهو لا يتورع في سبيل ذلك عن الإتيان بأي حقارة (قصة بطاقة الائتمان من فئة المئة روبل التي دسّها لصونيا). إنه نابليون صغير يمشي فوق الجثث. أما سفدريغايلوف فإنه نموذج معدل من لوجين، فهو الشخص الذي من أجل تأكيد شخصيته ينبذ بوعي القواعد الأخلاقية ويرتكب جرائم أيضاً. ولكن ليس من أجل تحقيق المنفعة الشخصية أو السعادة للآخرين، وإنما لتأكيد إرادته ليشعر بحرية تامة في فعل الخير أو الشر.
ينبغي الإشارة إلى أن للحلم في هذه الرواية دور هام فهو ليس طريقة فعالة للتنبؤ بحدث معروف للكاتب مسبقاً إذ له في "الجريمة والعقاب" طريقة ثابتة للمعرفة الفنية تقوم على سعة الاطلاع بعلم النفس البشري والنظرة إلى العالم. فمن خلال الحلم يبحث دوستويفسكي عن شخص في شخص. وتتضمن "الجريمة والعقاب" خمسة أحلام لراسكولنيكوف وأهمها الحلم الأول، الذي يراه البطل في الفصل الخامس من الجزء الثاني للرواية، حيث يرى البطل في حلمه حصاناً هرِماً يجرّ حمولة ثقيلة ثم يتوقف فجأة مما دفع صاحبه ميكولا إلى ضربه بوحشية حتى الموت. ونرى لاحقاً بعد قتل راسكولنيكوف للمرابية وأختها أن الصباغ الذي أخد على عاتقه مسؤولية قتلهما، اسمه أيضاً ميكولا.
في هذا الحلم بالذات يصور الكاتب على نحو متسم بالغلو الجوهر الحقيقي لنظرية راسكولنيكوف حول الأشخاص الذين "يملكون الحق" ويستيقظ البطل وهو يرتجف ويشعر بنفسه كحصان منهك للغاية. وليس سراً أن الأحلام هذه لا تشكل مجرد لوحات غير مترابطة انتزعت من سياق العمل وظهرت في العقل الباطني للبطل. فهي تتضمن في معظم الحالات مغزى عميقاً وتفسيراً صحيحاً قادراً على أن يروي أموراً كثيرة عن حالته النفسية وطريقة تفكيره ودوافع تصرفاته.
إن موت الحصان هو نذير بحدوث جريمة قتل فظيعة. ويبدو من خلال الرواية أن راسكولنيكوف شخص متناقض. فهو من جهة يتعاطف مع الحيوانات، ومن جهة أخرى يقتل المرابية بنفس راضية ودون أسف. وفي حلم آخر يرى راسكولنيكوف المرابية، التي قتلت على يده، وهي تضحك ويحاول بشتى الطرق الممكنة طرد هذه الصورة من عقله الباطني. لكنه على عكس الحياة الواقعية لا ينجح في التخلص من هذه المرأة المسنة. فمهما كانت المحاولات التي قام بها، تضحك هذه المرأة أكثر من السابق مما يسبب له حالة من الرعب المخيف.
إن التراث الإبداعي للكاتب هائل, لكن من الطبيعي تماماً أن اهتمام النقد الأدبي في عمله لم يهدأ على مر السنين سواء في روسيا أو خارجها. وقد بدأت ردود الفعل على "الجريمة والعقاب" فور صدورها، إذ استقبل المعاصرون هذه الرواية بحماس بالغ وفضول كبير. وقد استنكر بعض النقاد العمل الجديد بينما أُعجب الباقون به وهم الأكثرية. على كل حال لم يبق أحد بدون اكتراث.
تناول نيكولاي ستراخوف، وهو أحد ابرز النقاد الأدبيين في ذلك العصر، تحليل بنية الرواية وتطرق بالتفصيل إلى شخصية البطل الرئيسي ونظريته. وحسب اعتقاده فإن راسكولنيكوف شاب ذكي وعاطفي ولكنه تورط في نظريته الخاصة، التي شوشت ذهنه مما دفعه إلى ارتكاب جريمته الفظيعة. ويعتقد الناقد أن السمات الهامة للرواية تتجلى في الوصف الموضوعي للشخصيات. ومع ذلك فإن مؤلف الرواية يتعاطف مع بطله الرئيسي. ويشير ستراخوف، وهو الخصم اللدود لآراء النهلستيين المادية والإلحادية، إلى أن النهلستية، وهي الظاهرة الاجتماعية والفكرية المرافقة لذلك العصر، قد وجدت انعكاساً قوياً لها في الرواية، مع أن راسكولنيكوف عند دوستويفسكي يبدو نهلستياً مسكيناً ومنكود الحظ يعاني أشد المعاناة من وضعه البائس. أما الظاهرة نفسها فيلفت الناقد النظر إلى أن المؤلف يعرضها في روايته على أنها سبب الكوارث الحياتية للعديد من الناس. ويؤكد ستراخوف على أن قوة دوستويفسكي تكمن في التصوير الماهر ل"حركة الروح" وبساطة البنية ودقتها، فضلاً عن انعدام مواقف المؤلف الشخصية تجاه أي من الأبطال.
أما الكاتب والناقد الأدبي الشهير دمتري بيساريف فقد نشر مقالة خاصة لتحليل رواية دوستويفسكي الجديدة بعنوان " الكفاح من أجل الحياة" حيث قدم تحليلاً عميقاً للرواية ووصفاً مسهباً للشخصيات وبصورة رئيسية لراسكولنيكوف. وقد أوضح مؤلف المقالة مسبقاً أن ما يهمه في "الجريمة والعقاب" قبل كل شيء، هو الظروف المعيشية والظواهر الحياتية للواقع المحيط التي تصوره الرواية. ويرى بيساريف أن النظرية التي يدعو لها البطل الرئيسي هي حجر الأساس في "الجريمة والعقاب"، ويؤكد على أن جوهر هذه النظرية يكمن حصراً في رغبة هذا الشاب بتبرير سعيه للحصول على المال بشكل سهل وغير مشروع.
وأعلن الناقد يفغيني ماركوف أن هذه الرواية هي " قصة شاب فقير مغرور وليس غبياً يحتاج إلى تبني قضية كبيرة وهو يعاني من حرمان وإهانات شديدة لا تنفصل عن الفقر. وقد كان يحلم بأن يكون شخصية صادقة ومفيدة للمجتمع ويأمل بعد تخرجه من الجامعة أن يغير مصيره إلى الأفضل. ولدى ذلك وثق كثيراً بنفسه وبقوة التعليم. ولا عجب أن سمح لكل من والدته وشقيقته بحرمان نفسيهما من خلال مساعدته على إكمال الدراسة الجامعية. وكان على يقين من أنه سيتسنى له قريباً أن يكافئهما مئة ضعف. غير انه لا يزال بحاجة إلى المزيد ولا تزال والدته وشقيقته تضحيان بكل شيء وعليه أن يقبل تضحياتهما. وقد أحب راسكولنيكوف كثيراً والدته وشقيقته اللتين تعانيان من الفقر في زاوية ريفية بعيدة". ويضيف ماركوف قائلاً:" لقد كشف دوستويفسكي عن دقة استثنائية وعمق كبير في الملاحظ النفسية لكل التفاصيل الصغيرة بخصوص تحضير راسكولنيكوف لارتكاب جريمة القتل ثم تنفيذها. كما أن الكاتب صور ببراعة التأثير الجسدي البحت للغرفة المنخفضة والضيقة والقذرة "حيث يستلقي بطله الغاضب باستمرار على سريره". ويشير الناقد إلى أن راسكولنيكوف لا يؤمن كثيراً بنظريته ويتعامل معها بارتياب. وقد أظهرت النتائج المباشرة لجريمته درجة إيمانه الضعيفة وعدم ثقته بها." فلو كان إيمانه بهذه النظرية قوياً بالفعل لكان، بالطبع، سيبذل على الأقل محاولة لإطلاع أشخاص مثل شقيقته دونيا وصديقه رازوميخين عليها. كما أنه بعد القتل لم يتصرف كمتعصب لفكرته إلا قليلاً، بينما أدرك أنه محتال تافه وجبان ضعيف القلب.... وهو بعد ارتكابه لفعلته الدنيئة كان يخاف، قبل كل شيء، من العقاب الجنائي ومن إدانة أقربائه له. فالعقاب المذكور سيحطم حياته كلها ويطرده من مجتمع الأشخاص الشرفاء ويسد طريقه إلى الأبد نحو السعادة والاحترام... وكان يدرك تمام الإدراك أن اكتشاف الحقيقة الرهيبة سيقتل والدته ويرغم شقيقته وجميع أصدقائه على الابتعاد عنه نهائياً".
وأكد ماركوف على" أن رواية "الجريمة والعقاب" واحدة من أكثر روايات دوستويفسكي جدية وعمقاً وأصالة. وهي أيضاً من أنجحها. ولا يضاهيها أي عمل له من حيث شمولية الدراسة والحقيقة النفسية الداخلية.... ومن الصعوبة بمكان رسم صورة أكثر اتقاناً وصدقاً لنفسية المجرم.... وهناك العديد من نماذج الشخصيات الأدبية الأصلية المعبرة مثل سيمون مرملادوف وزوجته الثانية كاترين ايفانوفنا وبورفيري بتروفتش وأركادي سفيدريغايلوف. وهذا كله يتميز بالأصالة وقوة الفكرة والمقصد. وإن سفيدريغايلوف من أكثر النماذج الحقيقية والمفضلة لدى المؤلف. فهو صندوق عجائب نفسي يحتوي على سمات مفاجئة ومتناقضة بطبيعته تقفز جاهزة تماماً إلى عيني القارئ. وفي معرض حديثه عن الرواية يتطرق الفيلسوف الروسي المهاجر نيكولاي برديايف إلى مشكلة السقوط الاخلاقي للإنسان. وحسب اعتقاده فإن النشاط اللاأخلاقي يمكن أن يفضي إلى انحطاط الفرد. وأشار إلى أن "الجريمة والعقاب" رواية اجتماعية فلسفية سيكولوجية ولكن المسار السيكولوجي هو الأبرز. وهو يرى أن العامل الأكثر أهمية في كافة أعمال دوستويفسكي يتجلى في الأساس الأرثوذكسي لنظرته إلى العالم. وتكمن أصالته كفنان في أنه جلب أشكالاً جديدة من الرؤية الفنية وتسنى له بالتالي اكتشاف ورؤية أبعاد جديدة للإنسان وحياته, ويكمن أحد هذه الأشكال في الحلم. تركت "الجريمة والعقاب" تأثيرها الملحوظ على العملية الأدبية العالمية بعد أن تُرجمت إلى عشرات اللغات الأجنبية. فقد ظهرت روايات مشابهة في الآداب الفرنسية والألمانية والإيطالية تابعت تطوير الموضوع، الذي طرحه دوستويفسكي في عمله الخالد. كما نُقلت الرواية إلى المسرح والسينما والأوبرا في روسيا وخارجها. وبشكل خاص أثارت القضايا الفلسفية العميقة لهذا العمل اهتمام الكتاب والقراء الأوروبيين بدءاً من مطلع القرن العشرين. وقد تأثر العديد من الكتاب الغربيين بهذه الرواية ومنهم فرجينيا وولف وديفيد هربرت لورنس وجان بول سارتر ألبير كامو وستيفان زفايغ وهربرت موزيل. أما في روسيا نفسها فقد كان لدوستويفسكي تأثير كبير على تلميذه المفكر فلاديمير سولوفيوف والكاتب والفيلسوف قسطنطين ليونتيف.
994 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع