اجيالنا الشعرية واشكالية تسمية قصيدة النثر

                                                   

                              عيسى الياسري

اجيالنا الشعرية واشكالية تسمية قصيدة النثر

    

12

" من ْ لم ْ يقرأ ِ الأدب َ العربي َ القديم َلن ْ يستطيع َ أن ْ يقدم َ أدبا ً حديثا ً ......."
- الدكتور طه حسين –
في منتصف ِ الستينيات , كنت ُ أطلّع ُ على منجز ٍ شعري ٍ جديد ٍ , فيه ِ مغايرة ٌ إلى حد ٍ ما عما أنجزه ُ الرواد ُ من أمثال السياب ونازك الملائكة وعبد الوهاب البياتي و أكرم الوتري ومحمود البريكان وشاذل طاقه - , بل وحتى الشعراء الذين َ يمثلون َ حلقة َ الربط ِ بين َ الرواد ِ ومنجز ِ شعراء الستينيات , ومنهم يوسف الصائغ ورشيد ياسين ولميعة عباس عمارة ومي مظفر وسعدي يوسف وراضي مهدي السعيد ومجيد رشيد ورشدي العامل وزكي الجابر وعبد الرزاق عبد الواحد ْ.
صرنا نقرأ ُ كتابات ٍ تظهر ُ هنا وهناك َ عن شعراء ِ الستينيات ِ , وتُجرى معهم ُ مقابلات ٌ أدبية ٌ وأطلق َ عليهم ُ النقاد ُ تسمية َ " الجيل الستيني " .. كان هذا المصطلح ُ مبهما ًبالنسبة لي على الأقل , فهو يفتقرُ إلى الوضوح ْ , ففي معناه الظاهر ِ يعطي لهذا الجيل ِ ومنجزه ُ الإبداعي المهم َ مساحة ً زمنية ً مسيجة ً بحدود ِ العقد الستيني , وهذا مخالف ٌ تماما ً لإمكانية ِ عطاء ِ هؤلاء الشعراء الذين ما زال َ معظمهم أحياء ً ومنتجين َ أمد َ الله ُ في أعمارهم .
في هذه المرحلة ِ تبنت ْ هذا الجيل َ " مجلة الكلمة " التي أصدرها الأديبان ِ الراحلان الباحث " حميد المطبعي " والقاص " موسى كريدي " وراحت ْ تبشر ُ بولادة ِ هذا الجيل ِ الشعري الجديد , وأخذنا نتعرف ُ على أسماء ِ شعراء َ من هذا الجيل ِ مثل سامي مهدي وحميد سعيد وعبد الامير معله وعبد الرحمن طهمازي وحسب الشيخ جعفر ونبيل ياسين وياسين طه حافظ وكاظم الحجاج وصلاح نيازي وحسين عبد اللطيف وآمال الزهاوي وبشرى البستاني وأرشد توفيق ومحسن اطيمش ومعد الجبوري وعلي جعفر العلاق وحميد الخاقاني وخليل الاسدي وعبد الإله الصائغ وتركي الحميري وعلي الطائي وعلي الأنباري وكاظم نعمه ومحمد علي الخفاجي وعبد الأمير الحصيري وخالد علي مصطفى وصادق الصائغ ومهدي زياره وآخرين َ . بقيت ُ أنظر ُ بحيادية ٍ لمنجز ِ هؤلاء ِ الشعراء ْ , رغم أنني كنت ُ أقرأ ما ينشرونه ُ بحب ٍ وإعجاب ٍ وبحذر ٍ أيضا , إيمانا ًمني بأنّ أيّ تحول ٍ فني ٍ في أبنية ِ النص الشعري أو القصصي والمسرحي لابد وأن يرتبط ُ بتحولات ٍ مهمة ٍ ذاتية ٍ وموضوعية ٍ , حتى لا يكون َ التجديد ُ مفروضا ً من خارج ِ طاقة ِ النص وقوة ِ شفرته ِ السحرية , لذا لم ْ أجد ْ نصي مهيأ ً لخوض ِ تجربة ِ التجديد , وظل َّ محافظا ًعلى شكله ِ التراثي وبنيته ِ الرومانسية ْ , كنت ُ أرى أن َّ أنماط َ الحياة ِ التي نعيشها لم تشهدْ تحولا ً مهما ً في الحياة التي تمثل الوسط َ الذي يتحرك ُ فيه ِ نص ُ الشاعر حتى يأتي التحديث ُ منسجما ً مع َ تحديث ِ الواقع . كان َ أول ُ بلد ٍ ظهرَ فيه ِ مصطلح ُ – التجييل *- هو اسبانيا , حيث ُ شهدت ِ الساحة ُ الثقافية ُ فيها ولادة َ جيل -96 18- .. هذا الجيل ُ برز نتيجة َ الهزة ِ التي تعرض َ لها المجتمع ُ بعد َ انحسار ِ الإمبراطورية ِ الإسبانية ِ , وقد أراد َ هذا الجيل ُ أن ْ يعيد َ للشعب ِ ثقته ُ بنفسه ِ , لأن َّ اسبانيا الآن تقيم ُ جسور َ الثقافة ِ بينها وبين الشعوب ِ التي استعمرتها وهي الأبقى من َ الجسور ِ التي تقيمها الجيوش ُ الغازية ُ . ومن رموز ِ هذا الجيل الشاعر والقاص – باروخا - . والشاعر – أنطونيو ماشادو وغيرهما .
.................................
*مقتطف من موضوع ترجمه – حسن عيسى الياسري – عن الاسبانية ونشره في احد اعداد جريدة – الرأي الأردنية – عام 2000

بعد هذا الجيل ظهر جيل 1927 , وقد أسس َ حركة ً شعرية ً اطلق َ عليها اسم – السوبر سوريالية – تمييزا لها عن السوريالية الفرنسية , وقد انضم َ إلى هذا الجيل الكثير ُ من َ الشعراء ِ الأسبان من أهمهم الشاعر – لوركا – والشاعر – رافاييل البرتي - .
وأثناء الحرب الاهلية الاسبانية ظهر جيل 1936 حيث انضم له معظم ُ شعراء ِ الجيل ِ السابق
وقد حاول هذا الجيل ُ إحياء َ الموروث ِ الشعبي , والتراتيل الكنسية , والأغاني الغجرية التي تركت ْ بصماتها على قصائد ِ – لوركا – بصورة خاصة .
من هنا نجد ُ أن َّ هناك َ تحولات ٍ مهمة ٍ مجتمعية وثقافية فرضت ِ ظهور َ الأجيال ِ التي ذكرناها , لذا فإن َّ – إسبانيا – هي البلد الأوروبي الوحيد الذي ظهر ُ فيه ِ – التجييل -, لأن بقية الدول الأوروبية ظهرت فيها – مدارس شعرية – مثل الرومانسية والرمزية والدادائية والسوريالية وغيرها . أمّا نحن ُ فلم نشهد تحولات ٍ كبيرة ً كما حصل َ في إسبانيا تستدعي ظهور مصطلح – التجييل - , مع هذا يبقى شعراء ُ الستينات يشكلّون علامة ً نوعية ً في تطور شعرنا العراقي عمَّقها وأضاف َ لها الشعراء ُ الذين أعقبوهم في المرحلة ِ السبعينية , حيث ُ حاول َ شعراء ُ السبعينات أن يبتعدوا عن المدارس ِ التي تأثر َ بها الشعراء ِ الذين سبقوهم ومنها الموجة ُ الوجودية ُ ومدارس ُ العبث ْ واللاّمعقول ْ , وراحوا يزاوجون َ بين َ الموضوع ِ وبين َ البناء ِ الفني للنص , بل ْ ورأوا في الشعر مرادفا ً لشرط ِ الحرية ِ , لذا أخذوا يؤسسون َ رؤيتهم الخاصة َ للواقع الثقافي والسياسي والاجتماعي الذي يعيشون َ ضمن َ نسيجه ِ وفق َ هذا المنطلق الأكثر قربا ً من التمرد ِ على الواقع ِ القامع ِ للحرية ِ , ومحاولة ِ تغييره ِ من ْ داخل ِ النص ِ الشعري , أو على الأقل ْ عدم الإنقياد ِ لمشيئة ِ ذلك َ الواقع القمعي , كما أنّهم وظفوا الأساطير َ توظيفا ً مغايرا ً لتوظيف " السياب " وغيره ِ .. وبرز هذا الاتجاه واضحا ً عند الشاعر " خزعل الماجدي " منذ ُ صدور ِ مجموعته ِ الشعرية الأولى " يقظة دلمون " .. حيث ُ قاده ُ كشفه ُ المدهش هذا إلى التوغل ِ بعيدا ً في غابات ِ اساطرينا الكثيفة ِ , وحفر َ عميقا ً في تربة ِ الديانات ِ والحضارات القديمة ِ المرتبطة ِ بها حتى اصبح َ الآن َ من َ الباحثين َ الكبار في هذا الاتجاه ْ , والذين َ من ْ دون ِ قراءتهم ْ لن ْ نستطيع َ أن ْ نتعرف واقعنا المعاصرَ على الاطلاق ْ نظرا ً لاارتباط ِ الحاضر ِ بالماضي البعيد ْ.
كما أن َّ شعراء َ " العقد السبعيني " أخذوا يقيمون َ بُناهم ُ الفنية َ وفق َ تجربتهم الذاتية , مع الإفادة ِ من تطور وعيهم المتلقي لما ينتجه ُ الآخر من دون ِ الإنجرار ِ لمضامين ِ موضوعاته ِ أو تقنياته ِ التي تعتمد ُ التجريب ِ وتعقيدات ِ اللغة ْ , ومن هنا جاءت ْ رموزهم واستعاراتهم وأخيلتهم الجمالية ُ معمدة ً بذلك َ الثقل ِ النفسي والروحي الذي يعانق ُ أزمة َ الإنسان ِ في عالمه ِ الشرس.
من شعراء ِ هذا الجيل ِ الشاعر خزعل الماجدي وسلام كاظم وحميد قاسم وزاهر الجيزاني وفاروق يوسف وأديب كمال الدين وعبد الهادي سعدون وجواد الحطاب وهادي الربيعي وأمجد محمد سعيد وموفق محمد وحامد عبد الصمد البصري وفوزي السعد وهادي ياسين وجبار الكواز و شكر حاجم الصالحي وعبد الحميد الصائح ومحمد تركي نصار وماجد البلداوي وسعد جاسم وكريم راهي وسعد يوسف ياسين ومحمود عبد المطلب وعبد المنعم حمندي وميسر الخشاب وعبد الزهره الديراوي وغزاي درع الطائي ومرشد الزبيدي وحميد حسن جعفر وعادل عبد الله وهاشم شفيق وشاكر العيبي وحطاب ادهيم وحامد حسن الياسري وعيسى العبادي وساجده الموسوي ووئام ملا سلمان وزهير بهنام بردى وموفق ساوا وليث الصندوق وكثيرين غيرهم . , حيث مهدت تجاربهم الطريق أمام ظهور شعراء الثمانينات الذين تفتح حقلهم

 


الإبداعي تحت َ حرائق الحروب , وبين الانفاق التي تُتخذ ُ كسواتر َ توهم ُ بحماية ِ من يختبئ خلف َ حجارتها من هدايا الموت التي تُوزَع عليهم على مدار الساعة , مما جعلنا نقف أمام منجز إبداعي ٍ مختلف ٍ في تشكّل ِ تجربته ِ وتنوع ِ أدواته ِ الفنية ِ , ومن شعراء هذا الجيل وهم كثيرون عدنان الصائغ وعبد الرزاق الربيعي , وفضل خلف جبر ونصيف الناصري ووسام هاشم وأحمد هاتف وخلود المطلبي ومكي الربيعي ويحيى السماوي ودنيا ميخائيل وأمل الجبوري وشاكر سيفو ونجاة عبد الله وهادي الحسيني وعلاوي كاظم كشيش وفاضل فرمان وكزار حنتوش ورسميه محيبس وعداله العيداني وهاله العبيدي وحازم العيبي وطالب عبد العزيز ووديع شامخ وكريم راهي وصلاح حسن وريسان الخزعلي وصالح البياتي وطه الطاهر.
وقد استطاعت هذه الأرضية التي أبدعها شعراء العقود الثلاثة السابقة , أن تهيء َ الحقول َ الشعرية َ العراقية َ الغنية َ بخصوبتها لتستقبل َ ثراء َ وتمرد َ القصيدة َ التسعينية ِ التي أطلق َ عليها النقاد خطأ ً اسم " قصيدة النثر " وهي قصيدة ذات تقنية ٍ متميزة ٍ , وأعتقد أنني أسهمت ُ أيضا ً بالتبشير بشعراء ِ هذه القصيدة ِ الذين ظهروا في مطلع ِالتسعينيات ْ , وتابعت إصداراتهم التي كانت ْ تُطبع ُ على هيأة ِ كراريس َ صغيرة مستنسخة ٍ .. حيث ُ كانوا يزورونني في مكان ِ عملي الذي أمارس ُ فيه ِ " كتابة العرائض " ويهدونني اصداراتهم , أذكر أنني كتبت ُ عن الكثير من هؤلاء الشعراء في الصحافة ِ العراقية , وقبل مغادرتي العراق افتتح َ " اتحاد الأدباء " موسمه الجديد َ بمحاضرة ٍ لي , قدمني فيها الناقد الراحل " سليم السامرائي " .. تحدثت ُ فيها عن شعراء " العقد التسعيني " .. وأتذكر أنني لم احدد ْ توصيفا ً لهذه ِ القصيدة , بل كنت ُ اطلق ُعليها اسم منجز شعراء التسعينيات , وقد ضم َ هذا الجيل ُ كلا ً من ْ سلمان داود محمد وزعيم نصار وجمال الحلاّق وحيدر الحجاج ومحمد الحمراني وعبد الأمير جرص وجمال جاسم أمين ونصير الشيخ وكريم النجار ورعد زامل ووسام هاشم ووديع شامخ وكريم جخيور وجليل وادي وفرج الحطاب وغريب إسكندر وعباس اليوسفي وعمر السراي وعلي السومري وماجد الحسن وحسن النواب وعلي نوير وأحمد عبد الساده وصفاء ذياب وجمال الهاشمي وحسين الهاشمي وخضير الزيدي وعمار المسعودي وباسم فرات ونامق عبد ذيب وخالد خشان ومازن المعموري وسعد الصالحي وراوية الشاعر وسعد السمرمد ورياض الغريب واحمد الياسري وعلوان حسين وعلي سعدون وهادي الحسيني وعبد الحسين فرج وعبد الخالق كيطان ومهدي محمد علي ومنشد الكناني وياسر عيسى الياسري .والقائمة ُ تطول ُ وتحتاج ُ ذاكرة ً فتية ً.
الآن َ وأنا أتأمل ُ منجز َ " شعراء التسعينيات " تأكد لي أن َّ ما كتبه ُ هؤلاء ِ الشعراء لم ْ يكن ْ " قصيدة َ نثر ٍ "لإن َ هذا المصطلح َ لم ْ يكن ْ دقيقا ً , ويفتح ُ الباب َ واسعا ً أمام الطارئين َ على الشعر ْ, كما أنه ُ يفتقر ُ إلى التحليل ِ النقدي , المستند ِ إلى قوانين النقد ِ الحديث , ونظرياته ِ الخلاقة ْ , إنني .. ومن خلال ِ متابعتي لما يُترجَم ُ عن تطور الشعر العالمي , لم أجد ْ سوى إشارات ٍ خجولة ٍ تُطلق ُ على هذه ِ القصيدة ْ , حيث ُ يأتي مصطلح ُ " قصيدة نثر " عابرا ً وليس مُنظراً, وبالعودة ِ إلى قراءة ِ كتاب ِ "ثورة الشعر الحديث " الذي ترجمه ُ الناقد " د. عبد الغفار مكاوي " بجزأيه ِ الأول الذي اعتمد الدراسات ِ النظرية َ , والثاني الذي ضم َّ النصوص َ الشعرية َ التطبيقية َ , وكذلك كتاب " التجربة ِ الخلاّقة ِ " لمؤلفه ِ " أرشيبالد مكليش " وكتاب " الشعر الفرنسي في القرن العشرين " لمؤلفه " غايتون بيكون " وكتاب " جماليات المكان

 


لباشلار " ترجمة الروائي " غالب هلسا " وغيرها , نجد ُ أن َّ الجانب َ النظري َ في هذه الأعمال نادرا ً ما يتطرق إلى ما يُعرَف ُ بقصيدة " النثر " .. وكان المصطلح ُ السائد ُ هو " الشعر الحديث " .. وبناء ً على هذا يكون ُ شعرنا العراقي والعربي المعاصر قد انتج َ ثلاث َ تقنيات ٍ فنية ٍ , تتمثل " بالقصيدة ِ الكلاسيكية ِ الجديدة وقصيدة ِ التفعيلة ِ والقصيدة ِ الحديثة " , مما يدعونا أن ْ ننحي مصطلح َ قصيدة ِ النثر جانبا ً , وحتى مصطلح " الشعر الحر " .. حيث لا يوجد ُ " شعر ٌ حر ٌ " , فالشعر ُ تحكمه ُ قوانين فنية مهمة , إن َّ تسمية " الشعر الحر " هو
خطأ ٌ وقعت ْ فيه ِ الشاعرة ُ " نازك الملائكة " في كتابها " قضايا الشعر المعاصر " .
عندما صدرت ْ مجموعتي الشعرية ُ " صمت ُ الاكواخ " .. كان َ الناقد ُ " عبد الجبار البصري " من ْ بين ِ من ْ كتبوا عنها , وقد ْ وصفها بأنها " قصائد ُ نثر ٍ " .. وقد استغربت ُ ذلك ْ , فما اعرفه ُ عن الأستاذ البصري أنه ُ من َ النقاد ِ الذين َ لهم ُ إلمام ٌ جيد ٌ بالعروض ِ الشعري .
عندما التقيته ُ وناقشته ُ في قصائد ِ المجموعة ِ , واخبرته ُ أن َّ " المتدارك " هو َ الذي يغطي معظم َ القصائد .. وهو " بحر ٌ " عندما لايحرك ُ النص ُ الذي يتخذ ُ منه ُ أداة ً عند َ قراءته ِ يبدو وكأنه ُ نص ٌ كتب َ بطريقة ِ " النثر " .. ثم قرأت ُ له ُ بعض َ النصوص ِ " مشكلة ً " .. وهنا اعتذر َ, وطلب َ مني أن ْ ارفع َ عبارة َ " قصائد نثر ٍ " إذا ما وثقت ُ ماكتبه ُ عني , وفعلا ً نفذت ُ ماطلبه ُ عندما نُشرت ْ مقالته ُ في كتاب ِ " حقول " .. الذي أعدته ُ وقدمت ْ له ُ الشاعرة والروائية اللبنانية " فاطمة خليفة " .
كان َ بعض ُ النقّاد ِ العرب ِ القدامى يطلقون َ على " بحر ِ المتدارك " بأنّه ُ " مطية ُ الشعراء ْ " .. لسهولة ِ القصيدة التي تنسج ُ على نوله ِ كما يتوهمون ْ , في حين ْ وجدت ُ أن َّ اكتشاف َ " المتدارك " يمثل ُ فتحا ً تجديديا ً في الشعر .
كان َ – الخليل بن أحمد الفراهيدي – قد أغفل َ هذا – البحر - .. وربّما لم يتعرف ِ عليه ِ , فاكتفى بذكر ِ – المتقارب – الذي تربطه ُ آصرة ٌ كبيرة ببحر - المتدارك - .. لذا كان َ رائد ُ اكتشاف ِ – المتدارك – أو ما يسمى بالبحر – المحدَث ِ – هو – الأخفش – . يتكون ُ – المتدارك – من ثماني تفعيلات ٍ من – فعلن - , اربع منها تقع ُ في صدر البيت ِ الشعري والاربع الأخرى في عجزه ِ , واصلها من خماسي – فاعلن - .. ويكون ُ المتدارك ُ إمّا تاما ً أو مجزوءا ً . إن َّ اكتشاف َ هذا – البحر - , لا يقل ُ أهمية ً عن ْ التجديد ِ عند َ " شعراء ِ الريادة ِ المعاصرين ".. بل ْ هو َ الذي فتح َ طريق َ التجديد ِ في الشعر ِ العربي على سعته ِ , فهذا البحر ُ يتوفر ُ على إيقاع ٍ داخلي ٍ يرتقي إلى إيقاع ِ القصيدة ِ الحديثة ِ الداخلي , كما أنّه ُ يمنح ٌ الشاعر َ حرية َ تشكيل ِ صوره ِ الشعرية ِ المشبعة ِ بالاستعارات ِ والرموز ِ الموحية ِ والتكثيف ِ دونما تكلف ٍ , وهو َ يبعد ُ الشاعر َ عن ْ الحشو والاستطالات ِ التي تسيء ُ إلى جماليات ِ الصورة ِ الشعرية ِ وموسيقاها الداخلية ِ , كما أن َّ له ُ القدرة َ على التداخل ِ مع َ بعض ِ البحور ِ الشعرية ِ ومن ْ أهمها " الرجز " بيسر ٍ وانسيابية ٍ هادئة ٍ , ويمكن ُ أن يحدث َ هذا التداخل ُ حتى في الجملة ِ الشعرية ِ الواحدة ِ دون َ أن نشعر ِ بأي ِّ ارباك ٍ عند َ القراءة ِ , شريطة َ أن ْ تكون َ لدينا موهبة ُ " فن ِّ الالقاء ْ " .
وهذا البحر ُ يجعلنا نقتصد ُ باللغة ِ إلى حد ٍ كبير ٍ , حيث ُ نستطيع ُ أن ْ نولد َ عددا ً كبيرا ً من َ الصور ِ الشعرية ٍ بأقل ٍ الكلمات ْ , إن َّ " المتدارك َ " لديه ِ القدرة ُ على تفجير ِ كل ّ الطاقات ِ الشعرية ِ المختبئة ِ في حقول ِ لغتنا العربية ِ المدهشة ِ .. بيد َ أنّ الوصول َ إلى هذا " البحر ِ " واكتشاف ِ طاقاته ِ الخلاّقة ِ لا يمكن ُ أن ْ يتحقق َ من ْ خلال ِ الاعتماد ِ عليه ِ في بداياتنا الأولى مع َ
الشعر ْ, فالوصول ُ إليه ِ يتطلب ُ منا أن ْ نمر َ في جميع ِ الاشكال ِ الشعرية ِ , بدءا ً من ْ النص ِ


التراثي, مرورا ً بالبحور ِ التي أشرتها الشاعرة ُ والباحثة ُ الكبيرة " نازك الملائكة " في كتابها " قضايا الشعر ِ المعاصر ْ " وهي ستة بحور فقط تصلح لكتابة القصيدة الحديثة من بينها .. وربما من أهمها المتدارك والرجز والمتقارب .. لكن ْ لابد َ أن ْ يتحقق َ هذا دونما قصدية ٍ , أوفرض ٍ خارج ٍ عن ْ بنية ِ النص ِ التي تخلقت ْ في حاضنة ِ التجربة ِ والوعي المعرفي .
إن َّ – الاخفش – الذي اكتشف َ " المتدارك " كان َ " رؤيويا ً " .. فهو " البحر ُ " الذي يشكل ُ حماية ً لأصالة ِ شعرنا العربي من ْ حضور ِما يسمى بقصيدة ِ " النثر " التي لا علاقة َ لها بالشعر ْ . وينبه ُ إلى ثراء ِ لغتنا العربية ِ الذي يساعد ُ على التجديد ِ والارتقاء ِ بشعرنا العربي الحديث ْ. وربّما كانت ْ مخاوف ُ – الأخفش – على أصالة ِ القصيدة ِ العربية ِ من ْ أن ْ يضفي
بعض ُ النقاد ِ على – النثر المسجوع – صفة َ الشعر ِ وهو محق ٌ جدا ً في هذا , كما حدث َ مع َ ما اسموه ُ ب- قصيدة النثر - .
واعتقد ُ أنني افدت ُ كثيرا ً من طاقة ِ " البحر المتدارك " في مجموعاتي الشعرية المتاخرة .. لا سيما مجموعتي الشعرية ِ السادسة " صمت الاكواخ " حيث غطّى هذا البحر ُ مساحة ً كبيرة ً من ْ قصائد ِ هذه ِ المجموعة .. وهي المجموعة ُ التي كُتب َ عنها الكثير , ومن بين من ْ كتبوا عنها بإعجاب ٍ الشاعر "غازي القصيبي " رحمه ُ الله في – المجلة العربية – عدد 266 – الرياض - ربيع الأول 1420 – يوليه 1999 - .. كما حدث هذا مع المجلد ِ الثالث ِ من ْ أعمالي الشعرية ِ الذي أطلقَ عليه ِ بعض ُ اساتذتي من النقاد الذين احتفوا بصدوره ِ بأنّه ُ يمثل ُ تحولي من ْ قصيدة ِ – التفعيلة – إلى قصيدة ِ – النثر- . لكن َّ مجلد – الاعمال الشعرية الثالث – ليس كذلك , بل أن َّ أغلب َ قصائده ِ يغلب ُ عليها – المتدارك – ومجزوءاته , أو بتداخله ِ مع َ – الرجز – ومع – المتقارب .
إن َّ تسمية – قصيدة نثر - , واعتمادها كمصطلح ٍ نقدي ليست ْ بالتسمية ِ الدقيقة , فهي تفتح ُ الباب واسعا ً أمام َ محدودي الموهبة ِ لولوج ِ – قارة ِ الشعر – من ْ أسهل ِ الطرق ِ وابعدها عن ْ تقنيات ِ النص الشعري .. مما جعل َ بعض َ المؤسسات ِ الثقافية ِ وخاصة ً تلك َ – المؤدلجة – منها تحتفي بكتاب ِ ما يسمى بقصيدة ِ – النثر - لأغراض ٍ ليست ْ شعرية ً .
*
وأنا أمر ُّ بهذه ِ العجالة ِ على بساتين الشعر ِ العراقي الغنية ِ بثمارها , والتي تحتاج ُ إلى – كتيبة ٍ – من َ الباحثين َ للإحاطة ِ بها علي َّ ألا ّ أنسى أولئك َ الشعراء الذين برزت ْ موهبتهم بعد الإحتلال الأمريكي الوحشي للعراق, حيث ُ تجسدت ْ أمامهم كابوسية ُ ذلك َ المشهد ِ المروّع , الذي لا تستطيع ُ عبقرية ُ كل ِّ المدارس الشعرية ِ والفنية ِ برمزيتها وسرياليتها وعبثها ولا معقولها أن ْ تحتويه , أوتجسيد غرائبية الواقع الذي اصطدمت ْ به ِ أول ُ زهرة ٍ من ْ زهرات ِ قصائدهم , حيث ُ كان َ عمادها في برك الدم , وحرائق الدخان ِ , والأوصال ِ البشرية ِ المقطعة ِ بطريقة ٍ تتضاءل ُ أمامها لوحة ِ مذبحة ِ " الجورنيكا لبيكاسو " .. أو تشوهات ُ الكائن البشري عند " كافكا " في رواياته ِ أو " سلفادور دالي " في لوحاته ِ السوريالية ِ . ومن هؤلاء ِ الشعراء على سبيل المثال لا الحصر الشاعر .." أحمد شمس والشاعرة هنادي جليل وأحمد رافع وآمنه عبد العزيز وآمنة محمود وأحمد محمد رمضان وعلي حسين وكاميران كمال .. وبالتأكيد هناك َ كثيرون غيرهم .
وأريد ُ أن ْ أشير هنا إلى شاعر ٍ مهم ٍ أسمه ُ " سلام الأسدي " .. لم أكن ْ أعرف ُ عنه ُ شيئا ً مع الأسف حتى عرَّفني على شعره ِ أستاذي " د. صالح جواد الطعمة " في إحدى رسائله ِ الأبوية ِ لي .. كان َ هذا الشاعر من ْ مدينة ِ " الناصرية " ومن مواليد 1963 , يقول الأستاذ الدكتور " صالح جواد الطعمة " أنّه ُ تعرّف عليه ِ من خلال ِ مجلة " الإغتراب الأدبي " التي يصدِّرها الشاعر " صلاح نيازي " وزوجته ِ الروائية " سميرة المانع " .. حيث ُ نشرا فيها إحدى


قصائده ِ التي ترجمها " الدكتور صالح جواد الطعمة إلى اللغة الإنكليزية , كجزء ٍ من ْ مشروعه ِ الذي يركّز فيه ِ على الشعراء العراقيين في المنافي الغربية , كان الشاعر " سلام الأسدي " قد شارك َ في انتفاضة 1991 بعد عودة الجيش العراقي محطما ً من حرب ِ احتلال " الكويت " , وبعد أن ْ دمرت ْ " أمريكا " البنية َ التحتية َ للعراق .. وبعد فشل الأنتفاضة ِ هرب َ الشاعر ووصل إلى أمريكا .. وتوفي فيها في حادث ِ مروري , وقد اختار الشاعر الأمريكي " سام هميل " بعض قصائده المترجمة لكتابه ِ الذي يحمل عنوان " شعراء ضد الحرب " . هذا الشاعر ومن خلال نصه ِ الشعري الذي أرسله ُ لي " د. صالح جواد الطعمة " .. يتوفر على طاقة ٍ شعرية ٍ مهمة ٍ حقا ً .
*
أنا أكيد أن َّ القارئ َ سيجد ُ أنني لم أذكر ْ جميع َ الشعراء ِ من كل ِّ جيل ٍ من أجيالنا الشعرية المبدعة ِ , لأنني وجدت ُ نفسي وأنا أحاول ُ هذا أضيّع ُ طريقي .. وأنا أتنقل في غابة ِ الشعر العراقي الهائلة . لقد استنجدت ُ بالشاعر " سامي مهدي " ليزودني بشعراء ِ جيله ِ فأرسل َ مشكورا ً نسخة ً على " النت ِ " من كتابه ِ المهم " الموجة الصاخبة " .. وهو الكتاب الذي وثق َ فيه ِ الشعراء الذين ظهروا في الستينيات , ومما يُحسب ُ لهذا الكتاب ِ أن َّ مؤلفه ُ الشاعر "سامي مهدي " قد كتب َ بحيادية ٍ مدهشة ٍ , فلم ْ يلتفت ْ إلى التقنيات ِ الفنية ِ التي تطبع ُ القصيدة َ الستينية َ , بل كان َ طرحه ُ رؤيويا ً مستقبليا ً لتجارب بعض الشعراء التي لم تستقر ْ فنيا ً بعد ومنها تجربتي , حيث ُ كنت ُ لا أزال ُ أكتب ُ القصيدة َ التراثية َ لكن ْ بتشكيل ٍ حداثي , مع هذا ضمّني لموجته ِ الصاخبة ِ. كما ساعدني أكثر ُ من صديق ٍ بتزويدي بأسماء ِ شعراء ِ جيله ِ , مع ذلك فقد ظلت ْ مساحات ٌ هائلة ٌ من خارطة ِ الشعر العراقي غير مغطاة ٍ , وأنا هنا أعلن ُعن عجزي , واتقدم باعتذاري الخجول لكل ِّ من غابت عني اسماؤهم , رغم أن َّ النسيان لاينقص أبدا ً من حضورهم الشعري المؤثر , كما أن َّ هناك َ طاقات ٍ شعرية ً شابة ً يتتابع ُ ظهورها بسرعة ٍ مذهلة ٍ يصعب ُ اللحاق ُ بها , حاملة ً معها لمسات ٍ تجديدية ً , تبشر ُ بعافية ِ الشعر ِ العراقي , الذي يناضل ُ من أجل ِّ ألا ّ يسيء َ الواقع ُ المتخلف ُ لحضوره ِ المواسي في حياتنا الأشبه ِ بكارثة ٍ . كما علي َّ ألاّ أنسى أن َّ هناك َ حركة ً تجديدية ً اهتمت ْ بتحديث ِ القصيدة ِ التراثية ِ حيث ُ جعلتها تحافظ ُ على بنائها التقليدي , لكنّها طورت ْ ابنيتها من ْ خلال ِ تشكيل ِ الصورة ِ الشعرية ِ والإيقاع ِ الداخلي وفق َ أعلى معايير ِ الحداثة ِ الشعرية ِ , ويبرز ُ من ْهؤلاء ِ الشعراء ِ " حسين القاصد " والشاعرة الدكتورة " ناهضة ستار " وآخرين َ يؤسفني أن ْ تغيب َ أسماؤهم عني , علما ً أن َّ أول َ مجدد ٍ في بنية ِ النص ِ التراثي كان َ الشاعر الراحل " عبد الأمير الحصيري " وهو َ من ْ شعراء ِ العراق ِ الصعاليك ْ .
إنني ومن خلال متابعتي لتجربة الكثيرين من كتّاب " الشعر الحديث " .. الذي جعلوه بداية َ ظهورهم وجدتهم ُ قد وصلوا طريقا ً مسدودا ً , وأخذت ْ كتاباتهم تشحب ُ بعد أن بدأت ْ متألقة ً , ولو عدنا إلى قراءة شعرائنا المعاصرين الكبار , بدءا ً من نازك ِ الملائكة ِ والسياب و البياتي ولميعه عباس عماره و رشيد ياسين وصولا ً إلى أدونيس , لوجدنا أنّهم بدأوا بكتابة ِ القصيدة ِ التراثية ِ ثم تحولوا إلى قصيدة ِ التفعيلة ْ. إن ّ على أجيالنا الجديدة َ ولكي لاتضيع َ طريقها الصحيح َ أن تبدأ من الأرض التي تقف ُعليها , وتستلهم تراث َ من سبقوها , بدءاً من شعراء العصر الجاهلي , مرورا ً بكل عصورنا الشعرية حتى شعرنا المعاصر , كذلك َ ضرورة الاطلاع ِ على الابداع العالمي , فالموهبة ُ كما يقول ُ أحد ُ المفكرين َ لا تتجاوز الواحد َ بالمائة ِ , في حين تشكل ُ الثقافة ُ الموسوعية ُ تسعا ً وتسعين َ بالمائة ِ من ْ تأثيث ِ المنجز ِ الإبداعي , ثم إن َّ الكثير َ

 

من الشعراء ِ الشباب لايستطيعون الآن َ قراءة َ الشعر ِ التراثي دون َ إلحاق ِ الأذى ببنيته ِ العروضية َ , ويحدث ُ هذا حتى إذا نشروا موضوعات ٍ عن شعراء َ قدامى , وإذا ما استشهدوا ببعض أبياتهم ُ الشعرية ِ فإنّهم يكتبونها أو يلقونها بطريقةٍ مفككة ٍ, لذا فأنا أنصح ُ أجيالنا الجديدة َ أن ْ تبدأ بكتابة ِ القصيدة ِ التراثية ِ, أو على الأقل ِ أن ْ تحفظ َ الكثيرَ من شعرنا التراثي وترديده بصوت ٍ عال ٍ , حتى تتوفرَ لهم ُ القدرة ُ على تذوق ِ هذا الشعر ِ العظيم ْ, وأن ْ يأخذ َ أساتذة ُ تدريس ِ الأدب ِ في الجامعات ِ دورا ً مهما ً في تشجيع ِ طلابهم على حفظ ِ الكثير ِ من الشعر التراثي والحديث خاصة ً الموهوبين َ منهم ْ حتى تتطور َ أداتهم ُ الكتابية ُ .
يقول ُ الشاعر الروسي " جوزف برودسكي " الذي يُدرِّس ُ الأدب َ في إحدى الجامعات ِ الأمريكية:
" كنت ُ أطلب ُ من تلاميذي حفظ َ ما لايقل ُّ عن ألفي بيت ٍ من الشعر في الفصل الدراسي الواحد, لأنني أرغب ُ أن يسمعوا صوت َ لغتهم , فهذه ِ الأ شعار ُ المحفوظة ُ تساعدهم على بلورة ِ قرائحهم , وهنا تكمن ُ ضرورة ُ تدريس ِ الأدب ..." .
فهل ْ حقق َ أساتذة ُ الأدب ِ في جامعاتنا لطلاّبهم جزءا ً مما حققه ُ " برودسكي "؟ .

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

750 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع