د. محمود الحاج قاسم
قصة قصيرة - المذنـبة . . البريئة
كانت ولادة غادة يوم عيد بالنسبة للعمة ميسون ، تعلقت بها تعلقاً فيه الكثير من المبالغة والشطط ، فهي معها حال عودتها من المدرسة وحتى ذهابها في الصباح ، تداعبها ولا تعطيها لأمها إلا وقت الرضاعة أو النوم .
وعندما بلغت سن الفطام وكان قد ولد لها أخ ، نقلت سريرها إلى غرفتها ، ترعاها بحنان ليلاً ونهاراً . . تطعمها إذا جاعت . . تنظفها إذا أقتضى بحميمية وود متين .
وعند إصابتها بحادث أو وعكة صحية كانت تسهر الليل بطوله والنهار حتى تشفى ، تأخذها للطبيب صحبة أبيها من دون أمها أغلب الأحيان ، وإذا ما كانت الأم معهم أحياناً وسأل الطبيب عن شكوى الصغيرة ، وقبل أن تنطق الأم تسرع هي بالإجابة لأن الخبر اليقين عندها ، وأن إهمال وانشغال أمها خلال زيارتها لأهلها هو سبب مرضها على رأي العمة . أما الأب فهو دائماً يصوب رأي أخته ويكثر لوم زوجته .
يكاد يجمع علماء التربية والنفس أن أول حب للطفل حبه لأمه أو من يقوم مقامها ويرتاح إليها . . ويتناسب حبه مع ما تقدمه وتوفره أمه له من سرور وطمأنينة . . أما بالنسبة لغادة عند بلوغها الثانية من العمر كانت العمة قد أخذت مكان أمها كأم ثانية ، فكانت تزداد أنساً بمرافقة عمتها ، وكان يصعب عليها فراقها ولو لمدة قصيرة .
مضت السنين وأطلق قطار زواج العمة صفارته الأخيرة معلنا المغادرة . . ألغت مسألة الزواج من قاموس حياتها ولم تعد تفكر فيه ، وأصبحت غادة سلوتها وأملها في دنياها . تهيئها بحنان صباحاً وتنتظر معها باص المدرسة إلى أن تودعها ، وتقف في الباب قبل عودتها من المدرسة وتأخذها بأحضانها بشوق عند وصولها. وإذا ما تأخر الباص دقائق عن موعده تجدها في الشارع تنظر يمنة ويسرة بقلق بين ، وعند وصوله تلوم السائق على تأخره . وبجانب ذلك كانت المدرسة الخاصة والدائمة لغادة ، تتابع واجباتها يومياً . . تتسمع ما يستوجب الحفظ ، تشرح الصعب و تصحح الخطأ .
إضافة لذلك كله لم تهمل العمة توجيهها إلى مبادئ الدين الحنيف ، فعلمتها منذ الصغر الصلاة وحفظتها بعض سور القرآن الكريم ، ومبادئ الآداب الإسلامية حسب تدرج نموها العقلي ، وزرعت في قلبها الإيمان والحب والصدق والوفاء لمن يقدم لها الإحسان . . حتى إذا ما وعت وشبت كانت قد تشربت بكل مبادئ التربية الإسلامية الصحيحة ، فأصبحت تلك المبادئ السامية دستور حياتها ، تزن ما تجابهه من أمور الحياة بميزان الإسلام وحده .
ومما لا شك فيه أن العلوم في تطور مستمر ومناهج الدراسة لا تثبت على حال ، إلا أن تغيرات مناهج الابتدائية لم تكن صعبة على العمة تدريسها ، ولكن عندما وصلت مرحلة المتوسطة والإعدادية كانت التغيرات فيها الكثير من الجديد الذي لم تقرأه العمة ، الأمر الذي أضاف عبئاً عليها ، حيث كانت تقوم هي بدراستها ومن ثم تدرسها ، وعلى الرغم من ذلك العناء فإنها كانت تشعر بسعادة غامرة فيما تقوم به .
هذا العطاء الدائم من العمة لم يذهب سدىً بل آتى أكله ، فغادة دائماً هي الأولى على قريناتها ، ويضرب بها المثل في أخلاقها والتزامها بقواعد الإسلام . اجتازت مرحلة المتوسطة والإعدادية سنة بعد أخرى بتفوق بين ، حتى السادس الإعدادي الذي أنهته بمعدل عال أهلها دخول كلية الطب ، وتلك كانت أمنيتها وأمنية العمة من قبلها .
وانقضت سنوات ست أخرى بين قاعات كلية الطب وردهات المستشفيات بيسر وشوق ، وفي مسارها غير القصير في تعلم الطب لم تكن وحدها بل كانت رفيقة عمرها معها تسهر لسهرها وتفرح بنجاحها وتقيل عثرتها إن حدث .
وبعد أن نهلت من العلوم الطبية وآداب وسلوكيات المهنة ما يكفيها، أصبحت مهيأة لجعل علمها الطبي علماً يأخذ بيد المريض بل بيد الإنسان إلى الاستواء الصحي المنشود للحياة الإنسانية ، وفي وقت قصير من عمر الزمن استطاعت أن تحقق ذلك وتحوز بين مرضاها بلقب الطبيبة الإنسانية صاحبة القلب الرحيم .
توفي الجد ولحقت به الجدة ، وعاشت العمة ألم فراقهما وتغشاها حزن عميق ، ولم يكن عيشها مع أخيها وأولاده بالذي يبعد عنها الحزن ، إلا أن تعلقها بغادة وانشغالها بتلبية طلباتها جعلها تنسى قليلاً ما آلت إليه حالها .
مرت الأيام سراعاً ، انتهت سنة الإقامة وسنة العمل في الأرياف حسب نظام التدرج الطبي . وتوالى الخطاب ، غادة ترفض والعمة تغريها وتتوسل لتبدي القبول قبل أن يمضي الزمان ويكون حضها كحظ عمتها العاثر، وفي سرها أخشى ما كانت تخشاه عليها شبح العنوسة التي ابتليت بها .
وأخيراً استجابت لإلحاحها وأبدت القبول والرضا . . غمرت العمة السعادة وكأنها هي المعنية ، فقامت بتجهيز وتهيئة متطلبات الزواج على أحسن وجه . . تروح وتغدو في سعادة وانشراح متلهفة ليوم الزفاف . . وحان الموعد . .
تجمع الأهل والأحباب وانطلقت قافلة السيارات وجابت المدينة بصفاراتها وارتفعت حناجر الأهل بالزغاريد ، واقتربت من الفندق ، تباطأ المسير لتتوقف . . نزل العروسان متشابكين يداً بيد صوب الغرفة . . دقت ساعة الفراق دقة قوية . . ضمتها العمة إلى صدرها مودعة بصمت فيما كان حزن كفيف يزهر على كتفها. . أصحتها من حلمها الجميل إلى واقع مر لم تكن لتفكر فيه أو تحسب له حساباً . . كيف سمحت لنفسها أن تتركها بأيد غريبة ( حتى لو كان زوجها ) يستوطن أحضانها التي كانت حكراً لها .
عادت إلى البيت مع العائدين وفي قرارة نفسها تقول سلموا لي عليها وقولوا لها . . تركناها وحيدة تهذي وتندب . . تمهلي لا ترحلي . . تستلقي فوق السرير وتغمض عينيها التي طفرت منها دموع انحدرت على وجهها حين لوت رأسها لتغفو . . لا لألم من الحزن ، بل حسرة على بقايا زمن ودود كان يتكسر في ذلك الليل نتفاً صغيرة لكي يمضي برفقتها إلى مدار بعيد وموطن جديد للأبد .
هكذا بإرادتها وبهذه السرعة حكمت على نفسها أن تعيش بقية أيامها بعيدة عن حبيبة قلبها . . وأصبح نومها مشحوناً بكوابيس مكررة . . أحيناً كانت تستسلم عندما كانت تسمع أثناء غفوتها صوتها المألوف يناديها ، وتعيش أحايين أخرى ومضات فرح متناثرة تضحك لها وهي تجلس وحدها وعيناها تبكيان بصمت حزين .
وعندما حمل الزمان الدكتورة غادة في بحاره وصارت زوجة وأماً ، كان الزمن يمر عليها فيفجر فيها كل يوم نبعاً من الحنان والسكينة والرضى . . فعاشت سعادتها مع زوجها وأولادها سنين عددا ، ولكنها لم تكن لتنسى يوماً أمها الثانية . . تزورها كل أسبوع تلبي طلباتها ، تشرف على راحتها وصحتها في كل وقت وحين .
وراح زمان وجاء زمان وبدأت العمة تشكوا من الم هنا وألم هناك ، وعرفها المرض ، عوارض كثيرة أضفت على أيامها آلاماً ، وأسرع مسار عمرها فوصل بها حافة العمر قبل موعده . . ضعف جسم وذاكرة . . من بعد قوة وذكاء . . شيخوخة مبكرة . . مرض تلو آخر ، ما أن تشفى من وعكة بسيطة حتى تصاب بنكسة أقوى ، تعالجها هي في أغلب الأحيان بمعرفتها ، وإذا استوجبت الحالة استدعت أحداً من زملائها من ذوي الاختصاص ، تقوم بذلك مرات ومرات بكل الحب والحنان دون كلل أو ملل بل بشعور من تقوم بسداد جزء من دين في عنقها لتلك الأم الثانية المثالية .
لم يمهل المرض العمة طويلاً ، رن هاتفها . . أسرعي عمتك في خطر وكان ذلك مساء يوم
الحرب الظلوم . . انهار رجال الجيش والشرطة . . تركوا أماكنهم وأسلحتهم . . الشوارع خالية لم يعد فيها أحد سوى المقاتلين .
وعلى الرغم من كل ذلك هرعت إليها . . فحصتها فوجدت حالتها تستوجب استشارة أحد اختصاصي الباطنية. . طلبت أحد الزملاء إعتذر قائلاً بأنه منهك فقد عاد تواً من معالجة مريض في المستشفى . . فكرت في أخذها للمستشفى . . ولكنها تذكرت بأنها سوف لن تجد أحداً لديه من العلم أكثر منها. . لذا قررت أن تعالجها هي ، فأعطتها ما رأته مناسباً من العلاج والزرقات ، وأوصت عمها الذي يعيش معها ويرعاها ببعض الإرشادات وغادرت إلى بيتها .
وعند الصباح عادت وفحصتها فوجدتها بحالة أسوء مما كانت عليه في الليل . . أخبرت زميلاً آخر تستنجد به . . اعتذر هو الآخر بأنه في الشيخان يفتش له عن دار للإيجار لينقل عائلته بشكل موقت خشية من قصف المدينة بالطائرات . . أكملت علاجها . . وفي صباح اليوم التالي رن هاتفها . . مبلغاً بأن البقاء لله وأنطلق صوت الناعي ينعي العمة المريضة .
بكت بشكل لم تبك مثله من قبل ، فسال أنهار من الدمع من مقلتيها . . وأخذت تؤنب نفسها مرة فتقول . . يا للهول . . يا للفجيعة . . لماذا قمت بعلاجها ولم أحاول المستحيل في استدعاء طبيب اختصاصي أو لماذا لم آخذها للمستشفى . . إذاً أنا سبب موتها عمداً . . أنا المذنبة . . ما ذا سأقول يوم الحساب .
ومرة تقول لزوجها إنه الموت المقدر، شأنها شأن كل البشر اللذين سبقوها بالرحيل ليرتاحوا من هموم الدنيا ولينعم الصالحون منهم بالجنة وأنها إن شاء الله منهم .
وبعد أن واروها الثرى وانتهت مراسيم العزاء عادت إلى دارها وأنكفاـت على نفسها تجتر أحزانها و ظل عمتها القلق يروح ويغدو خلف الأستار مشيراً إليها بإصبع الاتهام ، فأصبحت أيامها مشحونة بحسابات تفضي جميعها إلى كونها المذنبة ، وتلاحقها في منامها كوابيس متتابعة ومكررة تعجز في أغلب الأحيان عن لملمة تفاصيلها عند صحوة فزع للفرار منها . . وهي في أغلبها تؤكد أنها قاتلة .
حاول الزوج أن يخفف عنها وأن يؤكد براءتها . . إلا أنها تمادت ، حتى أصبحت حياتها وحياة من معها جحيماً لا يطاق ، عندها اقترح عليها الزوج استشارة شيخ عالم في الدين ، روت قصتها كاملة وذكرت له بأن شبح الذنب يؤرقها ، قال لها يباركك الله لا ذنب عليك وأن عمتك استوفت أيامها وإن شاء الله إنها في مقعد صدق عند مليك مقتدر .
خفف عنها كلام الشيخ بعضاً مما كانت تعانيه ، إلا أنها في سريرتها عندما كانت تختلي بنفسها يعود شبح الذنب بالظهور مرة أخرى .وبعد أن تعبت تبحث عن مأوى تلوذ به في ساعة خلوة مع النفس تذكرت أن لها زميلاً لديه أبحاث ومؤلفات عن السلوك الطبي الإسلامي وفي الوقت نفسه له في الأمور الشرعية باع طويل قد تجد في استشارته ما يزيل همها .
اتصلت به وأخذت موعداً ، قابلته صحبة زوجها ، شرحت له الحكاية بتفاصيلها ودموعها تنهمر مؤكدة شعورها بأنها مذنبة ، وراجية أن يجد لها وسيلة لتكفر عن جريمتها . . وأنها في حيرة من أمرها ، هل يستوجب عليها دفع دية عن القتل الخطأ ؟
بعد أن انتهت ابتسم زميلها وأكد لها بأن دليل الإثبات الذي يثقل كاهلها والذي أخذته على نفسها غير صحيح ، وكما وسبق أن بشرها العالم الجليل إنها بريئة من كل ذنب ، وأن عليها أن تترحم على عمتها وتدعو الله لها أن يحسن نزلها ويدخلها جنته ويبدلها بأهل خير من أهلها.
ومن أجل أن ينجلي همها أضاف بأن عليها أن تكثر من الصدقات عليها ، وأداء الحج عنها إن استطاعت هي أو ترسل من يحج نيابة عنها.. . عندها ابتسمت ابتسامة عريضة وتخلصت مما كان يفزعها وينغص عيشها . .
ومع الأيام وبعد أن وفت بكل ما طلب منها . . وجهت عربتها إلى السكة الصواب . . . وعادت لتواصل الحياة بنفس رضية نقية طاهرة وسعادة وانتشاء .
918 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع