معاناة طبيب


الدكتور محمود الحاج قاسم

معاناة طبيب

في لحظة من اللحظات في بداية حياتي المهنية ، ضاقت نفسي وهويت صريعاً تحت مطرقة الإنسانية التي أطلقها واحد من بني الإنسان عندما أبديت عدم رضاي عن طلبه فحص طفله في ساعة غير مناسبة في بيتي .
فقال : هل هذه إنسانية .
فرحت أفكر وفي رأسي خواطر يموج بعضها في بعض ، أحسست بعدها أنه من حقي أن أقول شيئاً في إنسانيتي كطبيب فأمسكت القلم فكانت هذه الأسطر .
أيها الطبيب
إن دفعت بك الظنون بعد التخرج إلى أنك قد وصلت بر السلامة
وأنك قد ودعت الشقاء والتعب … كيف لا
وقد فتح الله لك باباً من أوسع أبواب هذه الدنيا
ولـكـن هـيـهـات
لأن من يختار هذا الطريق لن يرتاح من هموم الحياة
ولن يهدأ له بال … ويا لهفي عليك
فإنسانيتك منذ اليوم في حساب الناس مسألة نسبية
بل معضلة فيها الكثير من الطرح والضرب ثم الغلط في النتيجة
تنحاز طبائعهم كلها في مهمة واحدة
ليتخلى الكثيرون عن إنسانيتهم
وتصبح أنت الإنساني البحت
أما أن يعترف بك كإنسان … ينوء جسمه بالمشاعر والأحاسيس
فلا … وألف لا
مهما استرجلت المعاني لتقنع شراذم غير منصفة من الناس بانتمائك الإنساني
ومهما سعيت ترتجي مهرباً فقد صدر الحكم
حكم . . . الحقائق فيه مقلوبة
عليك أن تنفق من حياتك أضعاف ما تكسب لحياتك
ـ ـ ـ
إذا استراح الآدميون من عناء العمل فليس لك مكان بينهم
فكم مرة تركت الأكل وأنت في أوله أو وسطه لكي تلبي استشارة مريض
تظهر الرضا وتتجاهل الكدر
لتقوم بإسعاف مريض يستحق الإسعاف لطارئ ألم به
وتكتم غيظك عندما تستجيب لاستشارة من يروم الراحة والكسب
أحدهم يستسهل قرب دارك ليوفر أجرة السيارة
وأخرى لا تحتمل عناء الانتظار في العيادة
هل في ذلك عدل … أم أنه الغرم بعينه
وإن لمحت بسوء الفعلة انهال عليك الكلام الذي اعتدته
فليس لائقاً بك يا إنساني أن تحاسب غيرك على عمل غير إنساني
ـ ـ ـ
أليست الأعياد واحات في صحراء الحياة يستريح بنبعها بنو البشر
نعم إنها كذلك فيما عداك أيها الإنساني
لأنك في بعض الأيام تحت الطلب في المستشفى في أية ساعة
وهذا حق مشروع بل واجب يفرضه قانون المهنة
وأنت تحت الطلب كالعادة في الدار لتلبي استشارة طارئة
تقوم بكل ذلك وأنت سعيد لأنك أديت بعضاً من تبعات مهنتك
أما أن تكون تحت طلب من لا يحتاج لاستشارة عاجلة
فهذا من مساوئ فاقدي الذوق الإنساني
وحذار من أن تبدي ضجراً أو انزعاجاً من هؤلاء المسيئين
لأن المسألة سرعان ما تنعكس عليك يا من نعت بالإنساني
ومهما شرحت وجهة نظرك
فلن يدرك البعض خطأه لفساد مروءته
ـ ـ ـ
إن قانون الحياة حينما نص بأن لكل جهد جزاء وأجر
وأن الحي الخليق بالعيش الهنيء هو من تتوفر فيه قوة السعي
لاستكمال ذلك العيش
إن هذا القانون في عرف البعض يلائم الكل سواك يا إنساني
فإذا سعى الصناع لاستكمال وسائل العيش
وأخذوا أجورهم فذاك حلال مشروع
أما إن طالبت بهذا الحق المشروع فأنت مستغل جشع
يحرمون عليك ما يحلونه لأنفسهم
ويا ليتهم يكتفون بالحق المشروع عند أخذهم الأجور منك
بل دائماً هناك مبلغ إضافي
لا يمكن أن تسميه إلاّ ضريبة الاسم … اسم الطبيب
في الوقت الذي يريدون منك أن لا تأخذ منهم أجور أتعابك
لا لفقر أو عوز … بل لأنك في نظرهم لا تصرف جهداً كثيراً
ولا مادة أولية فيها رأس مال
ـ ـ ـ
أما بعد كل هذا لو سألتني ما أنت صانع لو خيرت
أتستبدل مهنتك أم تختار مهنتك من جديد
أقول إنني سوف أختار الطب ولا أرضى عنه بديلا
لأنني أعشق الطـب
على الرغم من كل السلبيات غير الإنسانية من بعض البشر
ومهما عشت مضطرباً في دائرة الطب الضيقة
فإنني أشعر بأن فيه كل ما في الدنيا الواسعة
من لذة الروح وسرور القلب وراحة الوجدان
لأنني لا أجد السعادة إلاّ في تخفيف آلام المحزونين من المرضى
وإسباغ الراحة والطمأنينة والسرور على نفوسهم
وعندما أسمع دعاءً صادقاً من أبوين عند شفاء ولدهما
تحلق روحي عالياً لتشكر رب الناس الشافي
ولا يهمني المال فأنا قانع بما رزقه الله من الأجر الحلال
ومهما لقيت من الصعاب والمثبطات فلن أستبدل بالطب غيره
وكل ما أتمناه أن يعترف بي أنني إنسان
أعاني كبقية البشر من متطلبات الحياة
ولي مشاعر وأحاسيس
يعطونني حقي ويأخذون حقهم
يعطونني الفرصة لأخلو للراحة حيناً وللدراسة حيناً آخر
لكي أستطيع أن أعطي وأمنح العون لمن يستحقه وبالشكل الصحيح
وأخيراً أدعو الله أن يلهم الناس الرشاد
وأن يعلمهم من قواعد الخير حتى يتسعوا ويمتدوا في إنسانيتهم
فيعذروا الطبيب ولا يضعوه تحت المجهر
وأن يتذكروا يوماً إذا قدر الله أن تهاون أو انفعل من جراء
التعب والإجهاد . . . أن ذلك طبع يتصف به كل البشر
وإن كان لابد من حساب المقصر
فأرجو أن يكون حساب الطبيب ككل البشر
لأنه أولاً وأخيراً واحد من بني البشر

أطفال الگاردينيا

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

694 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع