بقلم أحمد فخري
قصة حقيقية - حينما لمست السحاب باناملي
في مقالات سابقة تحدثت مراراً وتكراراً عما دار بحياتي من مصاعبو ومتاعب واخفاقات، البعض منها كان لاسباب خارجة عن ارادتي والبعض الآخر بسبب عدم تقديري للامور بشكل منسق وسليم واحياناً اخرى كنت اسقط بمطبات الحياة وفخاخ ينصبها من كنت اعتقد انهم اقرب المقربين اليّ من الاصدقاء والاقارب. اليوم ساتحدث عن قصتي مع الطيران من البداية وحتى حملت رخصة قيادة الطائرات الخفيفة PPL-D.
بدأ حلمي بالطيران عندما كنت صغير السن لم اكن قد بلغت الرابعة من عمري حينما كان منزل العائلة بمنطقة الكرادة الشرقية ببغداد، وقتها كان الى جوارنا منزل ما نسميهم بـ (جيران العمر) وهم اناس من افضل واروع البشر الطيبين الودودين. العم جورج كان كبير العائلة وكان لديه دكان صغير يلاصق جدار منزلنا. اما ابنتهم جانيت فقد كانت متزوجة من طيار يعمل بالخطوط الجوية العراقية يدعى جوزيف شفيق يونان. كان جوزيف وسيم الطلعة طويل القامة نحيف البنية لديه ابتسامة لا تفارق وجهه حتى باحلك الظروف واقساها. والاهم من هذا وذاك فان جميع من في ذلك الدار كان يحبني ويغدق علي بالهدايا وقطع الحلوى التي كنت اعشقها في ذلك الحين لا سيما العم جوزيف. وكلما سألت عن جوزيف كان جوابهم غالباً "جوزيف بلندن، جوزيف بباريس، جوزيف بنيودلهي جوزيف بالقاهرة...الخ) ولما كان يعود جوزيف الى بغداد كنت التصق به كما تلتصق البعوضة على زجاج السيارات. واذا ما اردت العودة الى بيتنا كان يمسك بي لانه كان يحبني حباً جماً وكثيراً ما كان يجلب لي الهدايا معه من المطارات التي كان يحط عليها اثناء رحلات عمله واغلبها كانت لعب على هيئة طائرات. كنت احب مجالسة جوزيف لانه كان يعاملني وكأنني انسان بالغ ولا يتصرف معي ابداً كغالبية الناس وكأنني طفل اخرق، بل بالعكس، كان يجيب على اسئلتي عن الطيران مهما كانت معقدة ولا تتناسب مع سني لانه كان يعتقد انني استوعبها بشكل جيد. كانت تلك هي البذرة الاولى التي بذرها جوزيف بكياني فجعلني اعشق الطيران بصورة لا يضاهيه مثيل. في ذلك الزمان الجميل كان جميع البالغين يطرحون عليّ سؤالاً تقليديا واحداً هو، (شتريد اتصير لما تكبر؟). وعندما كنت اجيب بانني ساصبح طياراً كان البعض ينهرني والبعض الآخر يشرح لي مدى خطورة تلك المهنة وتعرضها الدائم للحوادث المميتة. الا انني كنت اجيبهم بنفس الاجابات التي لقنني اياها العم جوزيف وهي (ان الطيران هي أأمن واسطة نقل على وجه الارض والحوادث التي تقع للطائرات هي اقل بمئات المرات من الحوادث التي تقع للسيارات والقطارات والبواخر).
لكن ولسوء طالعي ففي عام 1960 انتقلت عائلتي من ذلك المنزل الى منزل آخر بعيداً عن الاول وكان عمري وقتها 6 سنوات فافتقدت العم جوزيف كثيراً ولم احظى بلقائه سوى مرات قليلة عندما كنا نزورهم او يزورونا بفترات متباعدة. وشيئاً فشيئاً بدأنا نبتعد عن تلك العائلة لكثرة مشاغلنا بامور الحياة لكننا لم نتخلى عن محبتهم وكنا نؤدي واجباتنا الاجتماعية تجاههم في مناسبات الاعياد والافراح والاتراح. وبحلول عام 1970 غادرت انا العراق الى بريطانيا لاكمل دراستي هناك فازدادت الهوة ما بيني وبين عائلة العم جوزيف فلم اعد اسمع اخبارهم. لكن شيئاً واحداً لم يتوقف بداخلي ابداً وهو شغفي الكبير نحو الطيران، تلك الوردة الجميلة التي زرعها بداخلي العم جوزيف لتبقى متقدة كما هو حال نواة الكرة الارضية.
كنت اتحين الفرص دائماً للاستفسار عن دورات الطيران المدني ببريطانيا وكيفية تمكن الفرد من حمل رخصة الطيران حتى اصبحت خبيراً باصولها ومتطلباتها واسعارها. اذكر في عام 1971 عندما كنت جالساً باحدى المطاعم العربية بلندن دخل ثلاثة طيارين يرتدون بزة الخطوط الجوية العراقية وجلسوا بالطاولة المجاورة لطاولتي. لم اتمالك نفسي فسألتهم إن كانوا يعرفون طياراً باسم جوزيف شفيق يونان فاجمعوا بان الكابتن جوزيف يعتبر من اكفأ الطيارين العراقيين ووعدوني بتوصيل السلام وابلاغه مدى اشتياقي اليه. انتهزت تلك الفرصة استفسرت منه عن مهنتهم لكنهم اجمعوا بانها مهنة المتاعب وذلك لانهم يشعورون وكأنهم من البدو الرحل وذلك لعدم استقرارهم بمكان واحد بسبب تنقلهم الكثير من بلد لآخر. ولكن هل سيثنيني ذلك عن عزمي؟ "اجل يا صديقي القارئ لقد حزرتها تماماً، هذا مستحيل". شكرتهم كثيراً على التحدث اليّ وبقيت ارمو لان اصل الى هدفي مهما كلفني الامر. وبعد سنتين اي في عام 1973 وصلني تهديد شديد اللهجة من الوالدة رحمها الله عبر رسالة مخيفة مرعبة تعلمني فيها انني ومهما كلف الامر يجب عليّ ان امحوا فكرة الطيران من رأسي وان اتوجه بتعليمي نحو شهادة الهندسة كما كان يحملها والدي رحمه الله. لذا (مكرهٌ اخاكَ لا بطل) بدأت اجري الاختبارات اللازمة للدخول الى التأهيل لكلية الهندسة. الا انني على الاقل لم ارغب بتخصص الهندسة الميكانيكية كما كان والدي لذلك اخترت علم الالكترونيات والحاسبات لانه يشكل شغف آخر عندي يحمل المرتبة الثانية بعد الطيران. اما قيادة الطائرات فبقيت غصة في قلبي ودمعة لا تجف بمقلتي ونبظ لا يستكن بداخل روحي.
واصلت مسيرتي بالسلم الدراسي ببريطانيا حتى العام التالي اي 1974 حين رأيت اعلاناً باحدى الصحف المحلية يدعوا كل من يرغب تعلم الطيران في نادي اسمه نادي لوتن للطيران. Luton Flying Club. اعدت قرائة الاعلان مراراً وتكراراً وقصصته لاحتفظ به بمكان آمن. وفي يوم من ايام بصيف 74 قررت الاتصال بهم هاتفياً كي اتعرف على متطلبات الانتماء لذلك النادي. ولدهشتي الكبيرة فقد كان رد الشخص الذي بالطرف الثانية اكثر من ايجابي. قال ان اي انسان وباي فئة كانت يستطيع تعلم الطيران طالما كان عمره اكثر من 17 عاماً. وبما ان عمري كان 20 بذلك الوقت علمت انني مؤهل لذلك. سألته عن تكلفة الطيران فاخبرني بان ساعة تعليم الطيران ثمنها 30 جنيه استرليني اي حوالي 45 دولار بذلك الزمان. وهذا طبعاً مبلغ كبير جداً على طالب مثلي. الا انني قررت ان اوفر المال من مصروفي وأقَتّر على نفسي بالكثير من الكماليات كي استطيع ان اتلقى ولو درساً واحداً فقط كي اقول لنفسي بانني جلست خلف مقود طائرة وحققت حلم حياتي حتى لو كنت بصحبة مدرب. شكرت السيد الذي تحدثت اليه بالهاتف ووعدته بانني ساتصل به لاحقاً كي احدد معه موعداً لدرسي الاول.
مرّت علي بضع اسابيع حتى جاء موعد تسلمي الحوالة المالية الجديدة من العراق وكانت دسمة هذه المرة لانها تزامنت مع انخفاض سعر صرف الجنيه فوصلني ما يقرب من 220 جنيه استرليني بدلاً من 180 جنيه وهو المبلغ الذي اعتدت تلقيه كل مرة. لذا ابتسمت بسريرتي وقلت ها قد حان الوقت لاحلق بالسماء. عقدت العزم على الذهاب الى مطار لوتن فركبت سيارتي باليوم الذي حجزت فيه درسي الاول للطيران. كنت من فرط حماسي اريد ان اصل دون ان اتأخر على الموعد لذا وصلت المطار ساعتين قبل موعد الدرس فجلست بقاعة الانتظار بالنادي حتى جائني شاب يكاد يكبرني بضع سنين، مد يده وقال،
ديفد : انا اسمي ديفد، ساكون مدربك لهذا اليوم لكنك وصلت مبكراً.
- اجل هذا صحيح، خفت ان اصل متأخراً فيلغى درسي لذلك جئت مبكراً بعض الشيء.
ديفد : هذا شيء جيد لانك تتحلى بالحماس الكبير. اما انا فساخذ طالباً قبلك واعود بعدها ثم ابدأ بحصتك.
- ساكون بانتظارك مهما تأخرت.
خرج ديفد مع احد الطلاب الانكليز لمدة ساعة ثم عادا ودخلا سوية فنظر الي وسأل،
ديفد : هل انت جاهز؟
- ان جاهز منذ 20 سنة.
ديفد : إذاً اتبعني لو سمحت يا سيد فخري.
سار مدربي ليدخل غرفة اشبه بصف مدرسي ثبتت على حائطه لوحة سوداء من التي اعتدنا ان نراها بمدارسنا في العراق. جلست انا على احدى الرحلات لانظر اليه واومأت له برأسي دلالة على انني جاهز فبدأ بمسك طبشورة ورسم رسمة على اللوحة قال،
هذا هو مقطع جانبي للجناح وبما ان الجناح يسير الى الامام فالهواء الذي يجابهه ينقسم الى قسمين. قسم يمر من اسفله وقسم الى اعلاه وبما ان شكل الجناح العلوي يختلف عن السفلي لذلك فإن الهواء الذي يمر باعلى الجناح يضطر الى قطع مسافة اطول من الهواء الذي يمر باسفله فيشكل رفعاً للاعلى كما هو موضح بالرسم.
لا اريد ان ابعث بكم الملل لكن المحاضرة دامت ربع ساعة فقط، شرح فيها فيزيائية الطيران وكيف يقوم الجناح برفع الطائرة والقوى الاربعة التي تتسلط على الطائرة اثناء طيرانها وهي الرفع والوزن والدفع والمجابهة. وعندما انتهى من هذا الدرس قال،
ديفد : كل مرة تأتي لتلقِ الدرس، ساقوم بشرح بعض المعلومات النظرية عن الطيران قبل ان نباشر بالدرس العملي.
خرج خارج الصف فتبعته لنمشي على أرض مغطاة بالحشيش الاخضر حتى وصلنا الى فسحة وقفت فيها الكثير من الطائرات الصغيرة فاقتادني الى واحدة منها صغيرة الحجم وقال،
ديفد : دعني اعرفك على پاپا انديا.
- تشرفت بمعرفتك يا پاپا انديا.
ديفد : الطائرة من نوع سيسنا 152 وهي طائرة تتسع لراكبين فقط وغالباً ما تستعمل للتدريب. اول شيء يعمله الطيار، بغض النظر عن حجم الطائرة او وجهتها هو ان يقوم بعمل جولة حولها ليتأكد من سلامتها.
اخذني في جولة حول الطائرة وراح يشرح لي دور كل جزء يتفقده فيها وانا اتحرق شوقاً كي اجلس خلف مقود الطائرة لانني انتظرت تلك الفرصة لاكثر من عقدين من الزمان. وبالآخر لم يخيب ظني، قال، "دعنا نطير الآن". ركبت انا الى الجهة اليمنى من الطائرة بينما جلس هو الى الجهة اليسرى قال،
- المدرب او القبطان يجلس دائماً الى الجهة اليسرى بينما يجلس المتدرب او مساعد الطيار الى الجهة اليمنى.
جلست بمكاني وربطت حزام الآمان لانظر الى العدادات التي بدت لي كأن عددها كبيراً. وكأنه قرأ افكاري حين قال،
ديفد : لا تقلق كثيراً من كثرة العدادات.
بدأ يشرح لي عن العدادات المهمة مثل عداد الافق الصناعي والارتفاع والبوصلة المغناطيسية والبوصلة الجيروية ونسبة التسلق وسرعة الطائرة في كتلة الهواء وعداد الانزلاق وخزانات الوقود...الخ. الى يمين العدادات كان هناك المزيد من اجهزة التحكم وجهاز الاتصال اللاسلكي وما الى ذلك. قال، قبل كل شيء يجب ان نقوم بفحص السلامة الداخلي. اعطاني كتيب صغير مطبوع وقال،
ديفد : يجب عليك ان تقرأ كل فقرة من الفقرات بهذا الكتيب كي تتأكد من سلامة العدادات وادوات السيطرة بداخل قمرة الطائرة.
وعندما انتهينا من كل اجراءات السلامة امرني،
ديفد : امسك بهذا المكرفون وردد ورائي (پاپا انديا تطلب الاذن بالانتقال الى مدرج الاقلاع).
امسكت بالمكرفون وضغطت على زر التشغيل الاحمر الجانبي ثم قلت الجملة التي لقنني اياها فسمعنا صوتاً يقول،
السيطرة الارضية : توجه الى المسار B4 وسر الى مدرج 31L
طلب مني المدرب ان ارد عليه بـ (عُلِمْ، B4 وسر الى مدرج 31L)
ادار مفتاح امامه يشبه مفتاح السيارة (السويچ). فدارت المروحة وسمعنا المحرك يزئر كما لو كان اسد يستيقظ في عرينه وراحت المروحة بالدوران السريع. ضغط ديفد على عتلة امامه ثم بدأ صوت المحرك يرتفع شيئاً فشيئاً حتى شعرت بالطائرة وهي تتحرك كانت تلك اللحظات عندي بمثابة قدوم العيد الكبير على طفل صغير. صار يتحكم باستدارة الطائرة يمين شمال بقدميه قال،
ديفد : عندما نسير على الارض (تاكسي) فاننا نتحكم باتجاهاتنا بالضغط على دواسات القدمين التي تقوم بثني الدفة الخلفية الى اليمين او الى الشمال. اما اذا اردنا الوقوف فاننا نضغط على نفس الدواسات معاً ولكن من الاعلى مستعملين اصابع اقدامنا فنضغط على مكابح عجلات الطائرة لتتوقف الطائرة عن المسير.
بقي يقود الطائرة بقدميه حتى وصلنا المدرج الرئيسي 31L حين غير تذبب الراديو وطلب مني ان اتحدث بالمكرفون مع برج المراقبة لاعلمه بجاهزيتنا للاقلاع. يا الهي بعد ان تفوهت بتلك الجملة شعرت وكأنني ساقوم بقضاء حاجتي في سروالي. يا ترى ماذا اعمل؟ انا اشعر بالاسهال. كلا يجب ان اسيطر على نفسي فلربما سيعتقد انني جبان ولا اصلح لان اكون طياراً. ساعدني يا ربي، اريد ان اقلع بهذا الطائر ولو مرة واحدة في حياتي. هنا قال مدربي ، اترك كل شيء عنك فتركت له كل شيء ولاحظته يضغط على عتلة التعجيل ثم سحب عصاة اخرى وقال انها تزيد من حجم جناح الطائرة وقال ان اسمها (فلاپ) ثم قال،
ديفد : هذا الجزء يزيد من حجم الجناح ويمنح الطائرة الكثير من الرفع في حالة الاقلاع والاستقرار في حالة الهبوط. ساسحبه الى 20 درجة فقط لان الجو معتدل اليوم.
بدأت الطائرة تهرول على المدرج وانا في دوامة سعادة لا توصف. كنت اشعر وكأنني منتشياً من تناول الخمر اتمتع بتلك اللحظات الساحرة. ما ان بلغنا سرعة 80 عقدة حتى سحب المقود فارتفعت العجلة الامامية بينما بقيت العجلات الخلفية تلامس الارض. قال، عندما تكون الطائرة مستعدة للطيران فانها ستبدأ بالتسلق. وفعلاً بدأت الطائرة تترك الارض رويداً رويداً وترتفع وانا انظر من الشباك الايمن لارى الارض تبتعد عنا وبنيان المطار يتحول فجأة الى مكعبات تشبه علب الكبريت الصغيرة حتى نظر الي بعد ان اشار الى عداد الارتفاع وقال، "نحن الآن على ارتفاع 2000 قدم. بامكانك ان تمسك بالمقود الذي امامك". امسكت به وكانني اريد ان اصرعه لكنه قهقه قليلاً ثم قال. على رسلك يا سيد فخري، المقود حساس جداً ولا يتطلب منك الكثير من القوة. بامكانك ان تمسك به باناملك فقط حاول ان تسترخي. فامسكت به باناملي كما طلب مني وسمعته يقول لو انك ادرته لليمين او اشمال فالطائرة سوف لن تغير اتجاهها بل انها ستميل لليمين والشمال فقط. اما الدواسات الارضية فهي التي تمكنك من الاستدارة لانها تتحكم بالدفة الخلفية لكننا نستعملهما معاً كي نتحاشى الانزلاق فتميل الطائرة اثناء الاستدارة بشكل سلس كما هو الحال بالشوارع المعدة لسباق لسيارات. تجدها ترتفع للاعلى عكس الاستدارة كي لا تنزلق السيارات وتنقلب.
لا اريد ان اطيل عليكم، كان عقلي يعمل بسرعة 0200 كيلومتر بالساعة افكر بان هذا الدرس لا يمكن ان يكون الاول والاخير ويجب عليّ ان اوفر المزيد من المال كي استطيع الحضور الى النادي ثانية لاتلقى المزيد من الدروس. فالجلوس خلف المقود والقيام ببعض المناورات لا يشفي غليلي.
عودة الى كبينة الطائرة: بقينا نطير ونناور بعدة ارتفاعات واتجاهات حتى اخبرني ان الوقت قد حان كي نعود من حيث اتينا. استدار بالطائرة وعاد باتجاه المطار. تحدث باللاسلكي واخبرهم عن رغبتنا في ان نحط على ارض المطار فمنحونا الاذن بالهبوط على نفس المدرج الذي اقلعنا منه لاننا نقلع ونهبط دائماً بعكس اتجاه الريح. كنت اتمنى لو بقينا في الجو فترة اطول لان حلمي سيتبدد. لكنني ادرك تماماً بانني لا يمكن ان ابقى دائماً معلق في السماء. لذلك كنت افكر مع نفسي واقول ان ميزانيتي من الآن فصاعداً ستكون لديها اولويات جديدة.
وعندما هبطنا على المدرج وقادها مدربي الى ارض النادي نزلنا من الطائرة وقمنا ببعض الاجرائات الامنية الاضافية التي نستعملها لفترة ما بعد الطيران ثم عدنا الى الصف للمزيد من الشروح التي قام بها ليفسر لي مدى اهمية (الفلاپ) في اتزان الطائرة. ثم عدت خلف مقود سيارتي لارجع بها الى لندن. امسكت المقود ورحت اتخيله مقود الطائرة وصرت اتكلم مع نفسي وكأنني اتحدث مع السيطرة الارضية وسيطرة البرج عبر اللاسلكي. لكنني لم اكن اجيد لغة الحديث باللاسلكي لذلك قررت ان احصل على كتاب من المكتبة يرشدني الى كيفية التحدث باللاسلكي.
وما ان وصلت المكتبة باليوم التالي حتى وجدت ضالتي في كتيّب صغير يعلمك بروتوكول الحديث على اللاسلكي يسمى (بروتوكول الاتصال اللاسلكي (Radiotelephony Procedure). علمت وقتها ان كل حرف من الحروف الابجدية بالانكليزية التي تعلمتها عندما كنت بالروضة كان لها اسم خاص، فاسمائها هي:
A الفا
B براڤو
C چارلي
D دلتا
E ايكو
F فوكستروت
G گولف
H هوتيل
I إنديا
J جولييت
K كيلو
L ليما
M مايك
N نوڤمبر
O اوسكار
P پاپا
Q كوبيك
R روميو
S سييرا
T تانگو
U يونيفورم
V ڤِكتور
W ويسكي
X اكس راي
Y يانكي
Z زولو
والسبب في ذلك يعود الى انك عندما تتحدث باللاسلكي تقول M لكن المتلقي بالجهة الثانية قد يسمعها N لان اللفظ متشابه. الا انك إن قلت Mike فانه سوف لن يسمعها November
وقتها عرفت لماذا قال معلمي ان طائرتنا اسمها پاپا انديا ولان كل طائرة لديها رمز كما هو الحال برقم السيارات الذي يوضع امام السيارة وخلفها. وبما ان الطائرة كانت تحمل الرمز G-GDPI
فالحرفين الاخيرة هي I و P پاپا انديا. لقد حللتها وحدي.
بعد ان حفظت كتيب البروتوكول عن ظهر قلب وتعلمت الاحرف والارقام وطرق استخدامها وطرق مناداة حالات الطوارئ. كنت جاهزاً وقتها لتلقي درسي الثاني من النادي ولكن، ولكن، ولكن، آه من كلمة ولكن، من اين ساتي بثلاثين جنيهاً استرلينياً آخر؟ يجب علي التقتير بكل ما اوتيت من حزم وصبر حتى انني كنت مستعداً للصيام والتوقف عن الطعام لايام إن لزم الامر. وفعلاً كنت اقلص كل نفقاتي التي كنت اراها غير ضرورية كي تصب في توفير المال حتى احصل على المزيد من دروس الطيران طالما انها كانت لا تؤثر على دراستي بالمدرسة.
الحديث يطول ويمتد الى صفحات كثيراً لكنني لا اريد الاطالة عليكم فقد واصلت دروس الطيران حتى انهيت 20 ساعة طيران وتأهلت لمرحلة الصولو. فما هي مرحلة الصولو؟ هيا إسألوني ما هي مرحلة الصولو؟
كلمة (صولو) بالانكليزية Solo تعني منفرد او انفرادي. اي ان اخوكم (ابو شهاب) سيقود الطائرة دون الحاجة لوجود مدرب الى جانبه. ولكي اتمكن من بلوغ ذلك المستوى كان علي اجتاز اختبار يدعى بنفس الاسم (اختبار الصولو). وهذا الاختبار يتألف من رحلة جوية يجلس فيها معلمي (كما يقول ابو علي الشيباني) الى جانبي لاقوم انا نعم انا بقيادة الطائرة من الالف الى الياء دون ادنى تدخل منه. اجتزت الاختبار بشكل ممتاز دون مشاكل حتى جاء اليوم الذي ساقلع بالطائرة من على ارض المطار وانا وحدي تماماً من دون مدربي. فاختبار الصولو كان يعني ان المدرب يجلس الى جانبك ويطلب منك ان تقوم بتنفيذ اوامره. لكنه يستطيع ان يتدخل إذا لزم الامر. الا ان الطيران للمرة الاولى دون ان يكون بصحبتك احد هو امر مخيف حقاً ويبعث القشعرية بالبدن. لكنني سعيت طوال سنين عمري كي اصل الى هذه المرحلة. فهل اجعلها تنال مني؟ كلا والف كلا مستحيل ابداً no - нет - nunca انا اشعر ان الله خلقني طائراً منذ ولادتي لكنه لم يمنحني اجنحة لاطير بها لذا آن الاوان ان اطلق العنان لاجنحتي الجديدة كي تحلق بي الى السماء. انا لها وهي لي. لقد جئتك يا صولو. اليوم ساقلع بالطائرة وحدي وساحط بها وحدي.
لم يكن لدي المال الكافي لخوض اول تجربة صولو الا ان اقرب واعز صديق عندي وزميلي بالدراسة رائد مختار شاب بصراوي كان دائماً يساندني باوقات الشدائد. طلبت منه المبلغ فالقى على مسامعي محاضرة طويلة عريضة عن مخاطر الطيران ومدى مخاوفه على سلامتي وانه إذا اعطاني المبلغ فانه قد يندم كثيراً إذا سقطت بي الطائرة. لكنني تمكنت من اقناعه باننا بالاسلام سنموت شهداء إذا ما وقع لنا حادث. وقتها اقتنع واعطاني المبلغ قبل ان يذهب الى الكنيسة. الله يحميك يا رائد اينما كنت الآن.
اخذت المبلغ من صاحبي وملأت خزان سيارتي بالوقود لانطلق الى مدينة لوتن حيث اول اقلاع وهبوط صولو ينتظرني هناك. وفور وصولي النادي وجدت معلمي ديفد واقفاً خارج مبنى النادي يتحدث الى فتاة بالسابعة عشر من عمرها قال لي،
ديفد : انظر يا فخري، هذه الفتاة قامات باول رحلة صولو اليوم وستكون انت الثاني. اثنان خلال يوم واحد، يبدو انني قد حصلت على رقم قياسي بين زملائي في تدريس الطيارين.
- عزيزي ديفد، انت حقاً استاذ رائع وسوف لن انساك ابداً. بالنسبة لي، انت دائماً رقم واحد وافضل مدرب بالعالم.
ديفد : كفاك تملقاً ودعني اسألك، هل انت مستعد لاول رحلة لك يا احمد؟ فاليوم ستكون وحدك وسوف لن اكون معك في قمرة الطائرة إن حصل اي مكروه.
- انا مستعد منذ اكثر من عشرين سنة. لقد راجعت جميع بروتوكولات السلامة وبروتوكولات حالات الطوارئ، كن مطمئناً ولا تخف.
ديفد : إذاً باشر باجراء الفحوصات الخارجية على (پاپا انديا) انها تنتظرك هناك.
سرت وكأن الارض لا تقوى على حملي بخطواتي المسرعة. اردت ان استعجل بالاقلاع قبل ان يغير رأيه ويؤجل رحلتي الى يوم آخر. لكنني كنت ارغب بان تكون رحلتي الاولى مطمئنة له كي يستطيع ان يثق بي دائماً. فقد خضعت لعشرين ساعة كاملة من التدريبات معه والآن انا على اهبة الاستعداد. وصلت الطائرة وحييتها كما ينبغي إذ قبلتها كعادتي من المروحة وانا اتحسس على اطرافها ثم رحت اتفحص كل الاجزاء المهمة من الخارج حتى اكملت دورة كاملة حولها دون ان انسى اي شيء. بعدها ناديته من بعيد وقلت، "كل شيء على ما يرام". فاشار لي بيديه كي ادخل الطائرة وابدأ بالفحوصات الداخلية. فتحت كتيب الفحوصات ورحت اتتبعه الفقرة تلو الاخرى حتى اكملتها جميعاً فنظرت اليه من داخل الكبينة ورفعت له ابهامي فاجاب هو الآخر برفع ابهامه بمعنا واصل. صرخت من خارج الشباك clear props اي ابتعدوا عن المروحة. ثم ادرت المفتاح فاستيقظ المحرك بزمجرة جميلة وكأنها موسيقى ڤيڤالدي بمقطوعة الفصول الاربعة. واصلت اجرائات السلامة وعمليات التأكد من جميع العدادات التي كانت تشير الى اللون الاخضر حتى اكملتها جميعاً. ناديت نفسي بصوت مسموع وقلبي ينبظ بشدة إذ قلت، "ابو شهاب، انت جاهز الآن، هيا اتصل بالسيطرة الارضية واعلمهم بطلب التوجه الى مدرج الاقلاع". رد علي موظف السيطرة وامرني باتخاذ المسار المحدد. فمشيت وانا بكامل ثقتي احرص على ان لا ارتكب اي خطأ يجعلني اخسر فرصة عمري في قيادة الطائرة وحدي. وصلت المدرج الذي بعثني اليه مراقب السيطرة الارضية فغيرت تذبذب اللاسلكي وتحدثت مع مراقب البرج لاعلمه برغبتي في الاقلاع. طلب مني الانتظار قليلاً. كانت تلك اللحظات قاتلة. كنت اتمنى ان لا يطلب مني العودة الى النادي والغاء الاقلاع وهذا يحصل احياناً لاسباب تغير مفاجئ بالحالة الجوية او لاسباب اكتظاظ بالمجال الجوي. بقيت واقفاً انتظر لاكثر من 5 او 6 دقائق واقدامي تهتز بشكل متوتر حتى ناداني من جديد واعطاني الاذن بالاقلاع. ابتسمت ابتسامة قائد المعركة عندما يعلم ان النصر صار حليفه فيأمر جنوده بالانقضاض على العدو. دفعت بعتلة الـ throttle او البانزين لآخرها فارتفع صوت المحرك وبدأت الطائرة بالسير ببطئ في بدائ الامر ثم صارت تهرول ودقات قلبي تتسارع معها. تفحصت عداد السرعة فوجدته يصعد الى 80 عقدة، اجل انت جاهز يا ابو حميد. سحبت المقود الذي امامي فمالت الطائرة الى الخلف دلالة على ارتفاع العجلة الامامية. بعدها بدأت احاسيسي تعمل كي اشعر بخفة الطائرة حتى صارت وارتفعت العجلات الخلفية من على ارض المدرج. صرخت باعلى صوتي وبالانكليزية I did it, I did it I did it, اي لقد نلت منها. لقد حصلت على الكأس الذهبي الذي كنت اصبو اليه طوال حياتي هذا النجاح لك يا عمي جوزيف. كم تمنيت ان تكون واقفاً الآن لتتفرج على اقلاعي. الطائرة بين يدي وتحت امرتي كما لو كانت دمية صغيرة كالطائرات التي كنت تهديني اياها عند عودتك من رحلاتك. الآن انا اشعر وكأنني طائر القطرس الذي يظم السماء تحت جناحيه. انها لحظة حاسمة لحظة حققت بها اهم احلامي. انا اطير يا ناس انا اطير يا عالم، لا اصدق ذلك. وصلت الارتفاع المطلوب فاستدرت بالطائرة 90 درجة لاعمل دارة كاملة واستمريت بالارتفاع حتى بلغت 2000 قدم فتحت شباك الطائرة لاستنشق هواءاً نقياً بارداً ومنعشاً ثم استدرت ثانية حتى صرت اسير على موازات المدرج الذي اقلعت منه واصلت التسلق حتى وصلت النقطة التي يجب تخفيض سرعتي فيها فخفضتها الى 70% ثم استدرت 90 درجة اخرى واخرى حتى اصبح المرج امامي من جديد. الآن ساتتبع الاجرائات التي مارستها مراراً وتكراراً مع مدربي. اجل المدرج امامي بخط مستقيم وانا بالارتفاع الملائم سحبت عتلة البانزين للاخر حتى صار المحرك يدور دون دفع يذكر وبدأت الطائرة تهبط بكل سلاسة. وعندما وصلت طبقة الغرق وهي الطبقة الهوائية الملامسة للارض وسمكها 6 اقدام اي حوالي مترين سحبت مقود الطائرة الى الخلف كي يرتفع انفها وتبدأ بالغرق بتلك الطبقة حتى سمعت العجلات الخلفية تلامس ارض المدرج تبعتها العجلة الامامية بعد ان دفعت المقود الى الامام وصرت اسير على المدرج متجهاً نحو النادي مستعملاً الدواسات الارضية. من بعيد رأيت جمعاً غفيراً من موظفي المطار يقفون مع مدربي يصفقون لي على انجازي اول رحلة صولو بحياتي. استدرت في الموقف المغطى بالحشيش وادرت المفتاح لاغلق المحرك فتوقفت المروحة عن الدوران. رحت اجري بعض مراسم الوقوف الدائم ثم فتحت حزام الامان ونزلت من الطائرة لارى الجمع الغفير يتقدم نحوي ويهنئني بنجاحي. كان معلمي يتابع كل المحادثة التي جرت بيني وبين السيطرة الارضية وبيني وبين البرج وكان يقيّمها على انها ممتازة ولم ارتكب اي خطأ ابداً لكنه علق من باب الطرفة وقال لقد سمعناك وانت تقول I did it اي لقد نلت منها ثلاث مرات يبدو انك نسيت ان تزيل اصبحك من زر التشغيل. لكننا علمنا انها ردة فعل طبيعية لاي انسان بتلك الظروف. مبروك يا احمد فخري.
كانت هذه الكلمات مشجعة من جانب ومخيبة للآمال من جانب آخر لانني اعلم بان الحالة المادية قد دخلت بمساحة الخطر الاحمر ولم يعد بامكاني تلقي المزيد من الدروس كي احصل على شهادة الطيران الكاملة لان ذلك سيتطلب ساعات تدريب طويلة ستدفعني الى الافلاس والمجاعة او الاثنين معاً. لكنني قلت، "الله كريم" كما نقولها دائماً عندما نكون قليلي الحيلة. كان ذلك بشهر شباط من عام 1975. رجعت بيتي وانا منتشياً بما حققته من نصر مؤزر ودخلت بيتي فوجدت صديقي رائد والقلق بادٍ عليه. ابتسم بوجهي وقال،
رائد : حمداً لله انك ما زلت على قيد الحياة. لقد صليت من اجلك بالكنيسة. كنت قبل قليل الومك لانك لم تعطني رقم هاتف والدتك ببغداد كي اخبرها بخبر وفاتك.
- الا تعلم انني (بـ... ما يغرگ). لا تخف علي يا صديقي انا بسبعة ارواح. اليوم اخاك قاد الطائرة وحده وحلق بالجو ليعمل دارة كاملة ثم هبط على المدرج وحده.
رائد : كم كان ارتفاعك؟
- بلغت 2000 قدم قبل ان ابدأ باجرائات الهبوط على المدرج.
رائد : وهل انت مستعد لاختبار الغد. فلدينا امتحان رياضيات بالمدرسة.
- كلا والله. يجب علي الآن ان اخذ حماماً سريعاً ثم ابدأ بالمراجعة كي استعد للامتحان.
رائد : يجب عليك ان تركز على التكامل لانك ضعيف فيه.
كانت حياتنا هكذا دائماً. العلاقة الاخوية التي بيننا تجعلنا نتحمل الغربة بكل مصاعبها واشواكها. اما الطيران فقد حفظت اضبارته في الارشيف لان الحالة المادية لم تعد تستحمل درساً اضافياً آخر. ومن الناحية النفسية فقد شعرت بانني حققت حلمي بطيراني الصولو ولو لمرة واحدة بحياتي وبذلك ساتمكن من ان ارجئ كل المحاولات المستقبلية حتى يهدأ تسونامي الفقر الذي صار يهدد مستقبلي الاكاديمي.
لحسن الحظ فانا لم اقم باهمال تحصيلي العلمي الا ان غصة الحصول على رخصة قيادة PPL بالطيران بقيت بداخلي طوال فترة السنين التي تلت. طبعاً في عام 1980 تخرجت من الجامعة واصبحت مهندساً الكترونياً وانتقلت الى دولة الامارات لاعمل كمسؤول صيانة على حواسيب الـ RTU في حقل زاكوم لانتاج النفط. لكنني لم انسى يوماً عشقي وهيامي للطيران وبقيت اغنية (محبوبي الغالي طيار) لتَغيرُ عليّ كلما اختليت مع نفسي. وفجأة وفي عام 1985 بينما كنت جالساً بمكتبي بالبحر قرأت باحدى المجلات باللغة الانكليزية مقالة لاحد الرعايا البريطانيين واسمه مارك والذي كان يعيش بامارة رأس الخيمة، ان لديه نادي للطيران فوق الخفيف. اخذت اسمه الكامل وبدأت ابحث عنه من خلال استعلامات الهاتف حتى توصلت الى رقم هاتف منزله فطلبته وتحدثت اليه. كان هذا الرجل في غاية الاريحية والدماثة واخبرني ان النادي الذي يديره لاناس يملكون طائراتهم الخاصة. والشرط هو حصولهم على رخصة القيادة PPL-D فاستغربت كثيراً وسألته،
- وهل تحتاج الى رخصة لقيادة تلك الطائرات الفوق خفيفة؟
مارك : بالتأكيد فتلك الطائرات تستخدم نفس المجال الجوي للطائرات الخفيفة والمتوسطة والثقيلة. لذلك فانت تحتاج لرخصة قيادة.
- وهل بامكانك منح رخصة قيادة هنا برأس الخيمة؟
مارك : كلا، انا لا املك رخصة INSTRUCTOR RATING اي رخصة تدريب. لذلك عليك الحصول عليها من بريطانيا.
هنا علمت انني أمسكت برأس الخيط وسوف ابدأ بالبحث عن مدرسة تدرب الطيران الفوق خفيف ULTRA-LIGHT وفعلاً بدأت اتقصى الامر حتى وجدت ان هناك الكثير من المدارس ببريطانيا بامكانها تدريس الطيران فوق خفيف. اخترت واحدة منها وكان اسمها LONG MARSDEN AVIATION SCHOOL واتصلت هاتفياً برجل يدعى باري گوردون فدار بيننا الحديث التالي:
- مرحباً سيد باري گوردون كيف الحال؟
باري گوردون : شكراً لك سيدي، كيف استطيع مساعدتك؟
- انا اسمي احمد فخري، اسكن بالامارات العربية واريد ان اخضع لدروس طيران على الطائرات الفوق خفيفة عندك. فهل هذا ممكن؟
باري گوردون : بالطبع بامكانك ذلك، هل سبق لك وان طرت بالجو؟
- اجل لقد اخذت دروس طيران في منتصف السبعينات عندما كنت ادرس ببريطانيا وقد وصلت الى قيادة طائرة سيسنا 152 صولو.
باري گوردون : هذا سيكون عاملاً مساعداً بالتأكيد. متى تريد المجيء الى هنا؟
- لدي اجازة من عملي مدتها شهر خلال اسبوعين ساتوجه بها الى لندن ثم الى عندك.
باري گوردون : سوف اكون بانتظارك.
ترقبت قدوم اجازتي بفارغ الصبر، تبعها زيارة سريعة الى السفارة البريطانية بمدينة ابوظبي للحصول على التأشيرة البريطانية وما هي الا ايام وانطلقت بي طائرة الخطوط الجوية البريطانية الى لندن. وفور وصولي هناك اتصلت بصديقي الدائم فريد واخبرته بانني ساتجه الى مطار لونگ مارزدن لمزاولة دروس الطيران الا انني لم اتمكن من الافلات من قبضة صديقي لانه كان مصراً على ان يستضيفني ليوم واحد على الاقل قبل التوجه الى مطار لونگ مارزدن.
وبعد ان اغدق علي بكرمه المعهود ودعواته التي لا تنتهي بمطاعم لندن الرائعة. تمكنت من الافلات منه بعد يومين لاتوجه بسيارة مستأجرة متوجهاً الى مطار لونگ مارزدن الذي يبعد بضع كيلومترات عن مطار اوكسفورد وبضع كيلومترات عن مدينة ستراتفورد اون ايڤون مسقط رأس الاديب الكبير شيكسبير حيث يوجد منزله قائماً حتى يومنا هذا ليؤمه الزوار من جميع اصقاع الارض.
فور وصولي لسور المطار بدأت اتفحصه بفضول كبير واذا به مزرعة ذات مساحة شاسعة كانت في السابق مطاراً عسكرياً تنطلق منه طائرات (السـﭘيت فاير) لمجابهة الخطر النازي ابان الحرب العالمية الثانية. دخلت المطار وتوجهت كرڤان الذي حور على شاكلة مكتب فطرقت الباب لاجد رجلاً ابيض البشرة احمر الشعر جالساً خلف منضدة متواضعة، وقف من مكتبه وقال،
باري گوردون : اخيراً انت هنا يا سيد فخري.
- ارجوك نادني احمد. نعم انا اريد ان احقق حلم طفولتي واصبح طياراً لاحوز على رخصة القيادة.
باري گوردون : وحسب ما اخبرتني ان لديك بعض الخبرة بالطيران مسبقاً لذلك ستكون تجربتك معنا كالتجوال بالحديقة العامة.
- الاحظ من لهجتك انك امريكي او كندي اليس كذلك؟
باري گوردون : انا امريكي من اوريكون. ومعي هنا زوجتي (سو) هي من الهنود الحمر ومعنا كذلك ابنتنا (ﭘاتريشا). سيحضرون الى النادي بعد قليل. ارجوك تفضل بالجلوس.
جلست على احدى الارائك فقام بتقديم القهوة وصار يحدثني عن ساعات الطيران اللازمة وما الى ذلك، وقتها سألته إن كانت الساعات التي تحصلت عليها في السبعينات ستؤخذ بعين الاعتبار قال، لا، لان نوع الطائرة ووزنها يختلف تماماً. لذلك سوف أبدأ معه من الصفر. علاوة على ذلك فان الصولو سوف لن تخوضه الى بعد 10 ساعات طيران ثم تخوض الامتحان لرخصة القيادة بعد مرور 15 ساعة طيران. هذه هي القوانين.
سألته إن كان بالامكان الطيران اليوم فاجابني بالايجاب لكنه كان ينتظر وصول زوجته وابنته الى المطار اولاً. وفي هذه الاثناء خرجت الى خارج المكتب لاتجول هناك والقي نظرة على الطائرات فدخلت (هنگر) الطائرات لارى الطائرة (كويك سلڤر ام اكس اثنان) للمرة الاولى.
QUICKSILVER MXII
يا الهي، انها بالضبط كما شاهدتها بالمجلات. انا جداً متحمس كي اجرب قيادتها. فهي عبارة عن انابيب من الالمنيوم الخفيف مغطاة بقماش بلاستيكي يشبه غطاء الخيمة. بقينا ننتظر لاكثر من نصف ساعة حين قدمت سيارة من بعيد لتقف امامنا تماماً، جلست فيها زوجة باري وابنته المراهقة. خرجا من السيارة وتوجها صوبنا محملات بابتسامة ترحيب. قام باري بتقديمي اليهما فرحبا بي بشكل مهذب ثم اخبرهما بانه سيأخذني برحلة جوية تجريبية للبدأ بتلقي الدروس.
ذهبت معه صوب الطائرة وقمنا بدفعها بايدينا حتى اصبحت بوسط باحة الطيران. اسطحبني باري بعدها اثناء دورانه حول الطائرة ليتأكد من جميع اجرائات السلامة ثم طلب مني الجلوس على الكرسي الايمن وجلس هو الى يساري ثم بدأ باجرائات السلامة الاولية للتأكد من ان جميع الامور على ما يرام. بعدها صرخ باعلى صوته clear props ثم سحب خيطأ من اعلى الطائرة حيث يكمن المحرك فزمجر المحرك بالقرب من اذاننا وراحت المروحة تدور. هنا صار حديثنا كله بلغة الاشارة بسبب ضجيج المحرك المرتفع.
قاد الطائرة الى المدرج الذي يبعد قرابة 400 متر فاستدار ليصبح باتجاه المدرج ثم توقف هناك. نظر الي واومأ برأسه بمعنى "سنقلع الآن". فارجعت له الايمائة، دفع بعتلة الوقود التي الى يساره نحو الامام فصارت الطائرة تهرول بنا حتى احسست انها اصبحت جاهزة للاقلاع فسحب عصى القيادة لترتفع العجلة الامامية ثم تبعتها العجلتين الخلفيتين وبدأنا نتسلق. نظرت الى الاسفل فصار مبنى النادي يبدو اصغر من حجمه حتى ولى اشبه بعلبة الكبريت. وما ان بلغنا ارتفاع 1000 قدم حتى استدار يساراً وسار باتجاه 90 درجة عن مسار الاقلاع وعندما بلغ 1500 قدم استدار ثانية ليسير بموازات المدرج بقيت اتابع قيادته حين نظر الي واعطاني اشارة كي استلم عصى القيادة فمددت يدي وامسكت بها وبدأت رعشة قوية في بدني. يا الهي انا اقود طائرة من جديد، كم اشتقت للطيران، انا لم اجلس خلف مقود الطائرة منذ ان ودعت الطيران عام 1975 والآن انا اطير بهذه الطائرة العجيبة، انه حقاً شعور ممتع. يا الهي ساحقق حلمي اخيراً وساحصل على رخصة قيادة هذه المرة مهما كلف الامر. والفرق الآن هو انني غير مقيد بميزانية طالب ركيكة. وبعد ان اكملنا الرحلة الاولى رجعنا الى ارض المطار وحط باري بالطائرة ثم سار بها الى وسط باحة الطيران فغادرت مقعدي ورحت اراقبه وهو يقوم باجرائات السلامة لما بعد الطيران بالضبط كما كنا نفعل بطائرة السيسنا قبل عقد من الزمان. وعندما فرغ من ذلك اقتادني الى المكتب من جديد فكنت متحمساً لان ادفع ثمن الطيران لذلك اليوم لكنه اخبرني بان ذلك ليس له داعي لذلك ارجأنا دفع المبلغ لليوم التالي. بعد ان تركته توجهت الى مدينة لونگ مارزدن لابحث عن فندق يأويني لان الرجوع الى لندن لم يكن على قائمة البرنامج. وباليوم التالي دخلت ارض المطار مبكراً قبل وصول باري وعائلته وبقيت بداخل السيارتي المؤجرة هرباً من الرياح القوية الباردة التي كانت تعصف في ذلك اليوم. وعندما وصل باري قال بان ذلك اليوم سيكون درساً ارضياً لان الجو لا يسمح لنا بالطيران فسألته عن سرعة الريح التي بامكاننا الاقلاع بها قال، ما بين 5 الى 10 عقد. لكن بذلك اليوم كانت 25 عقدة.
دخلت معه مكتبه وبدأ يدرسني درس اسماه Met وهو مختصر لكلمة Meteorology. وهذا يعني الانواء الجوية. قلت له انني لم يسبق لي ان درست هذه المادة عندما كنت اتلقى التدريب بلوتن فاخبرني ان تلك المادة هي جزء من الاختبار الارضي الذي ساخضع له عندما اقدم على امتحان الرخصة. فسألته،
- وهل هناك امتحان ارضي؟
باري : بالتأكيد، هناك اربعة امتحانات ارضية وهي الانواء الجوية، ميكانيك طائرات، الملاحة وقرائة الخرائط الجوية وقانون الجو.
- وما هي درجة النجاح بهذه الامتحانات؟ اهي 50% كما هو الحال بجميع جامعات بريطانيا؟
باري : كلا، يجب عليك ان تحوز على 90% فما فوق لكي تنجح بالامتحان.
- ولماذا كل هذا التشديد؟
باري : لان حياتك وحياة الاخرين على المحك لذلك يجب ان تكون على اهبة الاستعداد.
- حسناً. لقد وصلت الى هذه النقطة فانا سوف لن اتراجع بسبب امتحان آخر. ومتى ساخوض الامتحان؟
سيتزامن مع بالامتحان الجوي الذي سوف يحصل بعد ان تطير اكثر من 15 ساعة.
- حسناً وهل تعتقد انني ساتمكن من ان احوز على الرخصة خلال الاسابيع الثلاثة القادمة؟
باري : لا اعتقد ذلك فكما تعلم نحن تحت رحمة الطقس في بريطانيا. وليس هناك ضمان بان يكون جواً مثالياً.
- إذاً دعنا نواصل الدروس.
بالايام التي تلت كنت طالباً مجتهداً أادي جميع التمارين الجوية التي يطلبها مني ثم اعود للفندق لاراجع المواد الارضية. كان القانون الجوي هو اعقد المواد لان فيه تفاصيل كثيرة يجب علي ان احفظها عن ظهر قلب وان لا ادع اي شاردة ولا واردة تفوتني. اما الانواء الجوية فقد هالني ما تعلمته عن وجود 11 نوعاً من الغيوم في السماء. وجميعها تحمل اسماءاً لاتينية مثل،
lower numbos
middle numbos
upper numbos
lower stratus
middle stratus
upper stratus
nimbostratus
lower cumulus
middle cumulus
upper cumulus
cumulonimbus
الى اخره من الاسماء اللاتينية الطويلة. كان لزاماً علي ليس حفظ اسمائها وحسب بل ارتفاعاتها من والى.
كان علي التعرف على تلك الغيوم فقط عندما انظر الى اشكالها. فالغيمة الوحيدة التي تسبب المطر هي nimbostratus اما الاخيرة cumulonimbus فهي تعتبر من اخطر الغيوم
فما هي هذه الغيمة؟
انها غيمة يكون شكلها طويلاً جداً قد يصل ارتفاعها الى 35 الف قدم مخصرة من اوسطها ومسطحة من الاعلى تشبه سندان الحداد. بداخلها تيار هوائي شديد يسير من الاسفل الى الاعلى بامكانه ان يرفع قطرات الماء من ارتفاعات متدنية ليرفعها الى ارتفاعات عالية فتتجمد وهي في طريق الصعود حتى يصبح وزنها ثقيلاً فتسقط على شكل قطع ثلجية كبيرة (البرد) وهو ما نسميه بالعراق (الحالوب). اما اذا دخلت طائرة فوق الخفيفة بتلك الغيمة فبامكانها ان ترفعها الى الاعلى ثم تصعقها بصعقات كهربائية كبيرة لترميها كالرماد على الارض. لذلك فإن الطائرات التجارية الكبيرة مزودة برادارات جوية خاصة تمكنها من الاستشاعر بتلك الغيوم الخطيرة وتفادي الدخول او الاقتراب منها.
بالاضافة الى مدربي باري، كانت لديّ مدرسة هي المسؤولة عن تلقيني الدروس الارضية وتدعى فيونا مايس وهي سيدة بيضاء من جنوب افريقيا. كانت كلما سنحت لنا الفرصة اي منعنا الجو بعدم الطيران كانت تأخذني فيونا لتلقنني الدروس الارضية بشكل مكثف.
بعد مرور ثلاثة اسابيع وحينما قربت فترة العودة الى الامارات اخبرني باري ان الوقت سوف لن يسمح لي ان اخوض امتحان الرخصة لذلك اخبرته بانني ساعود ثانية الى بريطانيا لاواصل الدروس واخوض الامتحانات لانني مصمم على حصولى على الرخصة.
رجعت الى الامارات مفعم بالامل والسعادة بعد ان قدت الطائرة صولو للكثير من المرات، مستخدماً طائرة شبيهة بالاولى ولكن ذات مقعد واحد.
كانت تلك الفترة فترة انتظار وترقب لانني كنت اقضي جميع اوقات فراغي بقرائة الكتب الجوية وانظمة المحادثات اللاسلكية التي سبق وان تطرقت اليها في مطلع المقال. وعندما انتهت فترة العمل اي الاربعة اسابيع في حقل البترول رجعت الى مدينة ابوظبي كي احصل على تأشيرة جديدة لبريطانيا خلال يوم واحد ثم انطلقت بعدها الى لندن وكان ذلك بشهر تموز 1986. لكنني لم اتصل بصديقي فريد مثل كل مرة كي لا اضيع المزيد من الوقت بل توجهت مباشرة الى مدينة ستراتفورد اون ايڤون وحجزت فيها فندقاً ثم انطلقت الى مطار لونك مارزدون كي احقق حلمي الاكبر.
الامتحان الارضي
سألت مدربتي فيونا عن موعد الامتحان قالت، سوف يكون بعد عطلة نهاية الاسبوع لذلك عليك مراجعة كل المواد خلال ثلاثة ايام ثم ساقوم باختبارك بعدها. سألتها،
- وماذا لو رسبت بالامتحان، فهل ساحصل على فرصة ثانية؟
فيونا : بامكانك ان تخوض الامتحان مرة ثانية بعد شهر كامل من الامتحان الاول.
- ولكن ليس لدي شهر كامل فانا ساعود الى عملي بابوظبي خلال ثلاثة اسابيع ونصف.
فيونا : إذاً تأتي ثانية الى بريطانيا لتخوض الامتحان. ولكن دعنا لا نستبق الاحداث. ربما ستنجح من المحاولة الاولى.
وفعلاً رجعت الى الفندق وبدأت اراجع قانون الطيران الذي كان يقلقني كثيراً ثم الانواء الجوية والميكانيك واخيراً الملاحة وقرائة الخرائط.
وعندما شعرت ان دماغي قد تشبع ولم يبقى فيه اي مجال لاستيعاب المزيد من المعلومات اغلقت آخر كتاب وانتظرت يوم الاثنين بفارغ الصبر. وحين جاء يوم الاثنين انطلقت للمطار كي اخوض الامتحان بكل ثقة. وفور دخولي مكتب باري وجدت مدربتي فيونا وقد تغير شكلها الى انسانة صارمة لا تمازحني ولا حتى تبتسم بوجهي. لقد لبست اللباس الرسمي لانها ستختبرني بذلك اليوم.
جلست امامها فاعطتني اوراق الاختبار الاول وكان عن الانواء الجوية. كان هناك اكثر من 200 سؤال اجبت عنها جميعها وانا متيقن من صحة اجاباتي. بعدها قالت بانني ساخوض اختبار الميكانيك ثم الملاحة والخرائط ثم قانون الجو. بعدها كانت تقيّم اجوبتي بالنظر اليها وكتابة ملاحظات كنت لا اعلم اذا كنت قد اخطأت فيها ام لا. وبعد ان انهيت آخر اختبار قالت لي ان عليّ ان اذهب لتناول وجبة الغداء والعودة لتلقي نتيجة الامتحان. طعتها بكل استسلام لانني اعرف بان مصيري اصبح بين يديها. خرجت الى سيارتي وانطلقت نحو المدينة المجاورة ستراتفورد وجلست باحدى المطاعم الانكليزية التقليدية وتناولت اكلتي المفضلة وهي فطيرة لحم البقر المخلوطة بالكلية steak & kidney pie. وما ان فرغت من الوجبة رجعت مسرعاً للمطار وجدت باري واقفاً خارج مكتبه فسألته،
- هل فرغت فيونا من تصليح اجاباتي؟
باري : لا اعلم لكنها كانت تلعن وتقذف وتشتم. بامكانك الدخول اليها وسؤالها.
دخلت المكتب وانا ارتجف من الخوف فوجدتها جالسة تترشف قهوتها من قدح فخاري، نظرت الي بوجه متجهم وقالت،
فيونا : ارجوك يا احمد، اجلس اريد ان اخبرك بشيء. ارجوك لا تتوتر.
- ما الامر يا فيونا؟ هل رسبت؟
فيونا : لا اعلم كيف اقول لك ذلك ولكن...
- قولي، فانا قد هيأت نفسي للاسوأ.
هنا نظرت الي وابتسمت ثم صرخت باعلى صوتها وقالت،
فيونا : لقد نجحــــــــــت يا احمد نجحت، نجحت، نجحت.
- لا اصدق. هل انت تمازحينني؟ ارجوك اخبريني فقلبي لم يعد يحتمل.
فيونا : بالتأكيد نجحت. وكانت علاماتك جيدة ما عدى الانواء الجوية. لقد كانت نتيجتك كالتالي
الميكانيك 100
الملاحة وقرائة الخرائط 94
القانون الجوي 100
الانواء الجوية 90
انا جداً مستائة من ادائك بالانواء الجوية. فقد كنت على الحافة. لكنك بالآخر نجحت.
- لا اصدق يا فيونا. انت استاذة عظيمة. شكراً لك فقد كنتِ صبورة جداً معي وتحملتِ غبائي طوال تلك المدة.
فيونا : بالعكس فانت واحد من افضل الطلاب عندي، ربما لان لديك خلفية تقنية وهذا ما ساعد في استيعابك للكثير من الامور.
- لم يبقى عندي الآن سوى الاختبار الجوي.
فيونا : هذا قسم باري وليس قسمي. فهو مدربك الجوي وهو الذي سيقرر متى سيختبرك.
- هل تعتقدين اليوم سيكون مناسباً للاختبار الجوي؟
فيونا : لا اعلم. فالجو اليوم لا يبشر بخير وهناك ريح تصل الى 12 عقدة. باري يجري اختباراته فقط في الاجواء المثالية. على كلٍ يجب عليك ان تتحدث معه فالقرار قراره.
خرجت من المكتب مسرعاً فوجدت باري ينظف احدى الطائرات بداخل الهنگر فقلت له،
- لقد نجحت بالمتحان الارضي يا باري.
باري : اعلم ذلك.
- ولماذا لم تخبرني عندما سألتك عن النتيجة؟ وقتها قلت انها كانت تلعن وتقذف وتشتم.
باري : اردت ان ازيد من حماسك يا احمد هاهاها.
- هل بامكاني ان اخذ الامتحان الجوي الآن؟
باري : كلا، الجو لا يسمح اليوم.
- لكنني اقلعت وحدي باجواء مشابه لهذا الجو في السابق.
باري : اجل لكن الامتحان دائماً يجري باجواء مثالية.
- لو سمحت ارجوك اتوسل اليك. انا جداً متحمس يا باري. ليس هناك اجواء مثالية ببريطانيا.
باري : انا آسف، لدي مسؤولية كبيرة نحو سلامتك. سوف نرجئ الامتحان حتى يتحسن الجو.
- حسناً، كما تشاء.
بقيت انظر الى الجو واترقب ولو القليل من الهدوء والاستقرار لكن حظي كان يخالف ما اريد فبقيت الريح تعصف والامطار تهطل بغزارة لمدة ثلاثة ايام. لكن الله رأف بحالي في اليوم الرابع لتشرق الشمس وتهدأ الرياح فدخلت المطار مسرعاً وقابلت باري لاسأله،
- هل الجو ملائماً اليوم للاختبار يا باري؟
باري : اجل انه ملائم جداً.
- إذاً دعني اخرج (مايك چارلي). انها طائرة بكرسي واحد.
باري : حسنا ولكن الاختبار سوف لن يكون هذا الصباح.
- ماذا تقصد؟ وما هو السبب؟
باري : عادة اجري الاختبار بعد الظهر.
- ولماذا لا اخوضه الآن؟
باري : الآنني اريدك ان تتدرب على الاختبار اولاً.
- لكنك تعلم جيداً انني اكثر من مستعد للاختبار.
باري : اجل ولكن تلك هي سياستي. يجب عليك ان تتدرب على الاختبار في الصباح ثم تخوض الاختبار بعد الظهر.
- كما تشاء يا باري. على مفكرة انت دكتاتور.
باري : اعلم ذلك وانا فخور بكوني دكتاتور وظالم.
اخرجت الطائرة (مايك چارلي) وبدأت اجري اختبارات السلامة عليها ثم ارتديت بزتي وخوذتي ووقفت الى جانب الطائرة انتظر تعليماته وانا على اهبة الاستعداد قال،
باري : اريدك ان تقلع من المدرج رقم 4 ثم تعود وتستدير لتصبح فوق المدرج الذي اقلعت منه ثم تقوم بالتمارين الخمسة التالية:
1 ترتفع الى 3000 قدم ثم استدر بالطائرة دورة كاملة 360 درجة مع عقرب الساعة. ثم الدوران بعدها 360 درجة عكس عقرب الساعة.
2 تتسلق الى ارتفاع 4000 قدم ثم تخلق حالة سقوط stall وذلك ترفع يديك من جميع معدات السيطرة على الطائرة. وبعد ان تبدأ الطائرة بالسقوط، تقوم باستعادة السيطرة عليها من جديد.
3 تهبط لارتفاع 1000 قدم وانت مواجهاً للمدرج تهبط بالطائرة بمحرك لا يدفع idle.
4 تقلع من جديد حتى 2000 قدم ويكون اتجاه الطائرة على 90ْ من المدرج ثم تغلق المحرك بحالة عدم الدفع idle وتحط بها على المدرج.
5 تقلع ثانية الى 3000 قدم ويكون اتجاهك على 180ْ من المدرج ثم تغلق المحرك بحالة عدم الدفع idle وتحط بها على المدرج.
هل فهمت كل شيء؟
- اجل سيدي.
باري : ساكون انا واقفاً بالقرب من المدرج رقم 4 لاراقب تمارينك. ولو ابليت بلائاً حسناً فسوف اسمح لك ان تخوض الامتحان بعد ظهر اليوم.
- حاضر يا سيادة الدكتاتور.
ركبت الطائرة ذات المقعد الواحد بعد ان اجريت عليها كل الفحوصات الروتينية ثم ادرت المحرك وتوجهت الى المدرج رقم 4. نظرت خلفي فوجدت باري يمشي خلفي متوجهاً الى نفس الوجهة كي يراقبني وانا اقوم بالتمارين التي طلبها مني. توقفت بمقدمة المدرج وقمت بمراجعة كل اجرائات السلامة حتى لا اقوم باي خطأ قد يقوض الاختبار الذي ساخوضه بعد الظهر. ولما اصبحت جاهزاً. دفعت بعتلة الوقود بيدي اليسرى (البانزين) وامسكت بيدي اليمنى بعصى القيادة لاقود طائرتي وهي تهرول في طريقها للسماء. ولما بلغت السرعة اللازمة سحبت عصى القيادة فارتفعت العجلة الامامية تبعتها العجلتين الخلفيتين وبدأت اتسلق وانا اراقب عداد الارتفاع حتى وصل الى 3000 قدم ثم بدأت اجري جميع التمارين التي اخبرني عنها. ولما فرغت منها جميعاً قررت الهبوط كي اعرف إن كان مدربي راضياً عن ادائي بتلك التمارين مما سيسمح لي بخوض الاختبار بعد الظهر. فورملامسة عجلات طائرتي على الارض نظرت امامي فوجدت باري رافعاً ابهامه الى الاعلى دلالة على رضائه لما قدمت من اداء. ولما وصلت باحة الطيران امام مكتب باري واغلقت المحرك لاخرج من الطائرة وجدت باري وزوجته وابنته والمدربة الارضية فيونا يصفقان لي ويهتفان باعلى اصواتهم. فابتسمت وقلت، "ما هذا الحماس يا احبابي، انه مجرد تمرين تحضيري". فقال باري،
باري : بل كان ذلك هو اختبار الطيران. لقد نجحت يا احمد وانت الآن طيار كامل.
- لكنك اخبرتني بانه مجرد تمرين واستعداد للاختبار اليس كذلك؟
باري : اجل انا اقولها دائماً لطلابي كي لا يقعوا في رهبة الامتحان ويقوموا باخطاء قد تكون كارثية. مبروك انت الآن طيار وزميل.
لا استطيع ان اصف لكم مدى تأثري بتلك الكلمات. لا اعلم كيف قفزت دموعي من تحت الخوذة التي مازلت ارتديها وانا واقف امامه. خلعتها وانطلقت لاحتظن باري ثم مدربتي فيونا. الكل كان يقفز بالهواء من شدة الفرح وانا لا اذكر كيف كنت اتصرف بجنون. اجل يا اخواني لقد حصلت على رخصة القيادة. وبعد ان هدأت العاصفة ودخلنا مكتب باري سألته،
- ومتى ساحصل على الرخصة الفعلية وامسكها بيدي؟
باري : سوف ارفع نتائج فحصك الارضي وتقريري الى منظمة CAA وهي الهيئة العامة للطيران المدني ببريطانيا هي التي ستبعث لك رخصة القيادة بالبريد.
- ولكن يا باري انا ساعود الى ابوظبي خلال 5 ايام. فهل تعتقد انني ساستلم رخصتي بيدي كي اعود بها الى ابوظبي؟
فكر باري قليلاً تم قال،
باري : انا لدي فكرة افضل. سابعث نتائج فحصك وتقييمي برسالة مستعجلة بالبريد وساخبرهم ان يسلموك الرخصة باليد من مكتبهم بلندن عندما تذهب اليهم بعد ثلاثة ايام. فما رأيك؟
- اجل تلك هي فكرة رائعة. وماذا سنفعل الآن؟
باري : انا اقترح على الجميع ان نذهب الى مطعم قريب ونحتفل بنجاحك هناك.
ركب الجميع سياراتهم وتوجهنا الى المطعم الذي اخبرني عنه باري بمدينة ستراتفورد وتناولنا افضل وجبة غداء تخللها الغناء والنكت والقفشات المضحكة. سألت باري خلالها،
- اريد ان اقلع بطائرة بعد ظهر اليوم لاول مرة وانا طيار كامل وافعل ما كنت اريده طوال حياتي.
باري : وماذا كنت تريد يا احمد؟
- اردت ان الامس الغيم باناملي.
باري : لك ذلك يا عزيزي فانت الآن طيار ولست تلميذ.
- إذا دعنا نرجع للمطار.
رجعنا للمطار بثلاثة سيارات فركبت الطائرة التي خضت بها الامتحان وارتفعت لاكثر من 4000 قدم حين بلغت غيمة من نوع lower cumulus. اخترقتها حتى اصبحت تغمر الطائرة تماماً. مجال الرؤيا اصبح صفراً. كانت اشبه بحالى الضباب الحالك الذي يجابهنا على الارض. لكن هذه المرة كان هناك فرق. الفرق هو انني وضعت راحة يدي لالامس الغيم فشعرت بوخزات دبابيس صغيرة لكنها لم تكن مؤلمة بل كانت من نوع آخر. انها قطرات الماء الصغيرة التي كانت ترتطم باناملي بسرعة عالية فتشعرني بالوخز. يا الله لقد تحقق حلم حياتي. شكراً لك يا ربي.
بعد ثلاثة ايام في لندن ذهبت الى مقر الهيئة العامة للطيران المدني واعطيتهم اسمي فاخرجت موظفة الاستعلامات ظرفاً اسمر كبير وقالت، "مبروك". فتحت الظرف لارى فيه رخصة قيادتي لاول مرة.
وهكذا وضعوا تأريخ صدور الرخصة على الختم 21 - 7 - 86
اليوم تعتبر تلك الرخصة اثمن مقتنياتي والاقرب الى قلبي.
...تمت...
1763 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع