هيفاء زنكنة
المترجم العراقي لدى قوات الاحتلال… خائن أو ضحية؟
من بين عديد الجوانب التي تم التطرق اليها إعلاميا، بمناسبة مرور عشرين عاما على غزو واحتلال العراق، موضوع المترجمين الفوريين الذين عملوا مع قوات الاحتلال الأمريكي منذ عام 2003 وما تلاها، والذين لايزالون يحسبون السنين بانتظار الموافقة على طلباتهم للجوء في أمريكان، على الرغم من الحملات الإعلامية الغربية وتوصيات المنظمات الحقوقية الدولية وعدد من العسكريين الذين خدموا بإمرتهم أثناء الاحتلال.
أعادت التغطية الإعلامية، إلى الأذهان، التساؤل القديم حول كيفية النظر إلى دور المترجم الفوري العامل مع قوات الاحتلال الغازية لبلده، « المُخاطر بحياته جراء ذلك» حسب المدافعين عن حقه في اللجوء في البلدان لقاء خدماته لها. وفحوى التساؤل هو: هل المترجم المستخدم لدى قوات الاحتلال أو المتعاقد مع الشركات الأمنية خائن أو ضحية/ لاجئ ؟
ترى صحيفة الواشنطن بوست الأمريكية المعروفة، كمثال لموقف الصحافة الغربية، في مقالها المنشور، يوم 19 يونيو/ حزيران، بعنوان « بعد عشرين عاما من غزو الولايات المتحدة للعراق، لا يزال العراقيون يحاولون الهجرة إلى الولايات المتحدة» أن المترجم ضحية. مركزة على «الجانب الإنساني» لقصة مترجم «من بين آلاف العراقيين، الذين خاطر الكثير منهم بحياتهم من خلال العمل عن كثب مع الأمريكيين خلال الحرب وما بعدها» وهو مقيم، منذ سنوات، بالعاصمة عمان، بانتظار الحصول على اللجوء في أمريكا، بعد هربه وعائلته من العراق الذي واجه فيه خطر الموت والانتقام من عائلته بسبب عمله مع القوات الأمريكية ووسمه، محليا، بالخيانة. وفي الوقت الذي يتوخى فيه المقال تحشيد العواطف مع المترجم وعائلته نستخلص أن سبب «محنة» المترجم هو وجود «المتمردين والإرهابيين» الذين يستهدفون القوات الأمريكية ومن يعمل معهم من جهة، وعدم وفاء الإدارة الأمريكية بوعودها في رعايتهم من جهة أخرى.
ويمتد الموقف الجاهز أحادي الجانب عن المترجم ـ الضحية ليشمل الدراسات والبحوث الأكاديمية الغربية، وتسترعي مساهمة عدد من طلاب الدراسات العليا العراقيين في الجامعات الأمريكية، الانتباه، حيث تتبنى ذات الموقف بل وتزيد عليه حسب قاعدة «ملكي أكثر من الملك». ففي أطروحته للماجستير، يعتبر الطالب العراقي وسام قصي مجيد البلداوي، أن المترجمين الفوريين جنود مجهولون لأنهم، حسب تحليله الإثنوغرافي والبيانات التي أجراها بين المترجمين المحليين، «كانوا مصدرا وفيرا ورخيصا للوساطة اللغوية والثقافية والخدمات التي ما كان بإمكان القوات الأمريكية القيام بها بدونهم». والذين « بعد فترة وجيزة، من الخدمة وجدوا أنفسهم يعملون كمستشارين ثقافيين» ويذكر البلداوي أن هدفه من الأطروحة هو تقديم دليل على « أن الشجاعة والخدمات التي قدمها هؤلاء العراقيون تؤهلهم ليكونوا أعضاء شرفاء في الولايات المتحدة وأن تتم مكافأتهم على أنهم «جنود مجهولون» في حرب العراق». خاصة وأن المئات منهم قد قتلوا على أيدي الجماعات المتمردة والمتطرفة التي اتهمتهم بـ « التعاون مع الغزاة».
وكان الصحافي الأمريكي جورج باكر، من أوائل المتابعين لدور المترجمين، حيث نشر مقالا في دورية «النيويوركر «، في 19 مارس/ آذار 2007 بعنوان «المغدورون – العراقيون الذين وثقوا بأمريكا «، أجرى فيه لقاءات مع مترجمين فوريين، حوّلَها فيما بعد إلى مسرحية بعنوان « المغدورون». عن المسرحية، يقول باكر» كانت فكرتي هي كتابة مقال عن العراقيين الذين عملوا مع الأمريكيين في بلدهم – تلك الأغلبية الضئيلة من الشباب والشابات الذين تبنوا المشروع الأمريكي في العراق بحماس شديد لدرجة أنهم كانوا على استعداد للمخاطرة بحياتهم لذلك. لقد علقوا آمالهم، بشكل غير منطقي، على الأمريكيين. لقد أثبت هؤلاء الأمريكيون أنهم ليسوا مجرد محتلين غير أكفاء ولكنهم أيضًا حلفاء غير موثوق بهم وأصدقاء غير مبالين».
إن السردية الدعائية الجاهزة عن دور المترجم الأخلاقي «في مساعدة الجنود الأمريكيين على تعزيز المصالحة، ومواجهة تأثير المتطرفين وضمان السلامة العامة» تُغّيبُ حقيقة أنه لم يكن وسيطا محايدا بل كان، عمليا، مُخبرا يعمل لقاء أجر (غالبا بخس) لصالح قوات الاحتلال، بل ووصل الحد بعدد من المترجمين، إلى التباهي بتعذيبهم المعتقلين إذا ما طلب منهم المحقق الأمريكي ذلك. وهذا ما استمعت إليه بنفسي، أثناء زيارتي بغداد، بداية عام 2004، ولقائي بشابين يعملان كمترجمين فوريين. وقد أثبتت فضيحة التعذيب في أبو غريب، بعد فترة وجيزة، صحة تباهيهما. ويعيش المترجمان الآن، كلاجئين، في بلد أوروبي بعد أن رفضت أمريكا منحهما حق اللجوء. لماذا؟ لماذا الرفض والتأخير في توطين المترجمين الذين «خاطروا بحياتهم خدمة لأمريكا»؟
يعود السبب الرئيسي، إلى أن مفهوم « خيانة الوطن» و«التعاون مع المحتل» واحد في كل البلدان، من الناحيتين القانونية والأخلاقية. وهناك من الأمثلة التاريخية المعاصرة، حول كيفية معاقبة «المتعاونين» ما يُغني عن الإسهاب، سواء أثناء الحرب أو بعدها. فأثناء حرب تحرير فرنسا من الاحتلال النازي، مثلا، تم إعدام حوالي 10 آلاف متعاون بلا محاكمة، وأُعدم 1500 متعاون بعد محاكمتهم إثر التحرير بينما حُكم على 40 ألف شخص بالسجن.
ومن يراجع يوميات التعامل الأمريكي مع المترجمين، سيجد أنهم كانوا يُعاملون، غالبا، بدونية باعتبارهم «خونة عابرين» ولا يمكن الوثوق بهم، فقد يكونوا مُندسين، يعملون مع «المتمردين» ويزودونهم بالمعلومات عن الدوريات الأمريكية. لذلك كانوا يخضعونهم للتفتيش الدقيق في كل مرة يحضرون فيها للعمل، ولا يسمحون لهم الا بدخول أماكن محددة، ويخضعونهم لجهاز اختبار الكذب مرة كل سنة، والمساهمة بدوريات في مناطق سكنهم. كما تم إجبارهم، على خلع القناع الذي يغطي وجوههم حماية لهويتهم حين قررت القيادة العسكرية أن التعامل، وجها لوجه، مع المدنيين أكثر فاعلية.
لقد دفع تراكم البؤس الأخلاقي جراء الحاجة الماسة إلى العمل والرغبة بالانتقام من النظام السابق والرغبة في أن يكون المرء أمريكيا، إلى الالتحاق بخدمة قوات الاحتلال. وهي أسباب، غالبا، ما يتم تغييبها، لتُهيمن صورة المترجم ـ الضحية وخلطها، تعمدا، بمحنة طالبي اللجوء. وهو نموذج لكتابة تاريخ الحاضر من جانب واحد، يهدف إلى تضليل الرأي العام، عبر تقديم المعلومات بشكل انتقائي، على حساب تغييب الصورة الأكبر بجوانبها القانونية والأخلاقية وحق الشعوب في مقاومة الاحتلال.
969 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع