محمد سهيل أحمد
فضاءات - وداعا ليبيا ! ليلة بق الفراش في طرابلس الغرب (*)
فيما يلي الفصل السابع المقتطع من كتابي المعنون ( مصاطب الرمل .. خمس سنوات في ليبيا ) انشره لمناسبة جائحة انتشار ما يسمى بـ ( بق الفراش ) في فرنسا وغيرها من دول البحر المتوسط، والواقع ان الحشرة المقصودة تختلف اختلافا تاما عن البق او البعوض ، وهو ما سيجده قارئ هذا الفصل عبر تجربتي مع تلك الحشرة التي توغلت في ثنايا قمصاني بطرابلس الغرب ابان رحلة العودة برا باتجاه تونس العاصمة وجوا باتجاه العاصمة الاردنية عمان ، ومن ثم برا الى بغداد ومدينتي البصرة . نحن في العراق نسمي هذه الحشرة ( القرادة ) . وللتنويه اذكر ان هذا الكتاب ادرج ضمن القائمة القصيرة في مسابقة الراحل ( ناجي جواد الساعاتي ) المتعلقة بأدب الرحلات ، الا انه لم يفز بأي من جوائز المسابقة الثلاث .اورد ما جاء في نتائج المسابقة بالشكل التالي : " وذكرت اللجنة انها تسلمت العديد من نصوص بلغ عددها حتى نهاية الموعد المحدد لتسلم النصوص عشر مخطوطات تنافست على المركزين الاول والثاني وهي حسب تواريخ تسلمها : مصاطب الرمل ..خمس سنوات في ليبيا للكاتب العراقي محمد سهيل احمد من البصرة ، امريكا كما اكتشفها لاول مرة للعماني ايوب عيسى ، عابر سبيل للكاتب د حلمي محمد القاعود من مصر ، تطواف الغريب للمؤلف العراقي حسن النواب المقيم في استراليا، جزائري في الاندلس للكاتب سفيان مقنيين من الجزائر ،اغاني الرمل والمانجو نواكشوط – بامكو للكاتب زهير كريم للكاتب العراقي المقيم في بروكسل ، رحلة لم تكتمل للكاتب سعد العبيدي من العراق ، مخطوطة رحلة الى بلاد نيرون للكاتب محمد جهاد اسماعيل من فلسطين /غزة ،طريق البلقان للدكتور حسن عبد راضي من العراق .
وفيما يلي نص الفصل السابع من كتابي ( مصاطب الرمل .. خمس سنوات في ليبيا ) :
الفصل السابع
في الأيام التي سبقت مغادرتي ليبيا اسعفتني الظروف بلقاء شخصين عزيزين هما مدرس اللغة وزميلي السابق في التدريس باعدادية العشار المركزية سعد ناصرآل نور الذي استضافني لاكثر من مرة في بيته والذي لبيت دعوته للمبيت مرة او مرتين حيث كانت تستغرقنا شجون الأحاديث ، لنقضي الوقت في لعبة جلبها معه من سفرة له الى لندن واسمها لعبة الكلمات او السكربل . وكثيرا ما عتب علي انني لم اتصل به في الوقت المناسب كي يتدخل في امر تعييني في سرت المدينة بدلا من وادي جارف المنقطع والذي زارني فيه مرتين بصفته مفتشا لمادة اللغة الانكيزية وكتب بحقي تقريرا مهنيا جميلا . ولكن ما آلمني هو ذلك القدر الكبير من المضايقات التي تعرض لها من قبل بعض أهالي المدينة لأن تعليم سرت ونظرا لخدماته الكبيرة التي قدمها بشكل طوعي كحلقة وصل بين الجانب الليبي والمتعاقدين الليبيين . الى ان فوجئ فيما بعد بقرار إخراجه من تلك الشقة وكان قرارا ظالما ومجحفا اضطره لاستئجار شقة بمبلغ أثقل ميزانيته . والوجه الآخر الذي التقيته كان الأستاذ التدريسي المرحوم عبد العزيز المعيبد الذي كان معلمي الأول أيام الابتدائية وزميلا لي ايام الكلية . وقد لبيت دعوته الكريمة مرتين ، مرة لوحدي والأخرى مع زميل المدرسة المرحوم جاسم عبد السادة الشاوي وذلك في مسكنه الذي كان عبارة عن كرفان أنيق في جامعة التحدي حيث كان يعمل .
حكاية اختفاء جواز سفر
في الأيام الاخيرة التي سبقت اجراءات استقالتي ــ وكنت حينها لم اتسلم فلسا واحدا من رواتبي المتراكمة ــ وجدتني أمام معضلة إيجاد وسيلة للعودة الى عمان ومن ثم الى البصرة حيث كان الفساد الناشب في عظام بعض موظفي التعليم يلتهم الكثير من حقوقنا ومن بينها السكن وتذكرة القدوم والمغادرة وسواهما من امتيازات ذكر عقد المغترب بعضها واغفل ذكرالعديد من الفقرات الاخرى . روى لنا خميس معاون مدرستنا ان مدرسا مصريا سلم جواز سفره لتعليم احدى الشعبيات لغرض تثبيت الاقامة واتمام بقية اجراءات التقاعد . غير انه في أول مراجعة له اكتشف اختفاء جواز سفره مما جعله مراجعا مستديما سعيا للبحث عن ذلك الجواز وسط الملفات وفي كل مكان يعرفه الموظف او لا يعرفه حتى أصابه اليأس من العثور على جواز سفره مما اضطره لإعلان فقدانه والحصول على جواز بديل مما انهك قواه الى حد الإعياء . وحين ذهب لدائرة التعليم وسلم الموظف جواز سفره البديل كان الأخير منشغلا بتنظيف اثاث غرفته ، وما ان أزاح طاولة مكتبه حتى عثر اسفل احدى أرجلها على جسم سميك تبين انه كان ذلك الجواز المفقود وضعه ذلك الموظف الكسول من اجل إنهاء ميلان الطاولة بسبب عدم انتظام أطوال أرجلها !
بقيت مهووسا بفكرة وسيلة العودة لبلدي وبأرخص التكاليف متذكرا انني قدمت الى ليبيا على نفقتي الخاصة في حين ان حقي بالسفر على نفقة الطرف الاول قد سرق مني على أيدي حساد العيش ولصوص الغفلة من مسؤولي التعليم والمصارف في الجماهيرية العظمى .
اخبرني احد المطلعين ان طريق مصر الترانزيت البري قد افتتح بعد مفاوضات لكن كان لابد من التأكد من تلك السانحة عن طريق السفر الى بنغازي . وهكذا تجشمت عناء رحلة منهكة في حافلة سلحفاتية الى بنغازي ، كبرى مدن الشرق الليبي . مررنا بمدن مجدبة وأخرى كئيبة حتى وصلنا مدينة بنغازي لأسكن في فندق فلسطين الأقرب الى ساحل البحر والذي يدار من قبل مجموعة لم يكن لديها خبرة بتقاليد الاستقبال لا يتقن فن الاستقبال وينظر للغريب نظرة الشك والارتياب . واثر مراجعة عاجلة لتعليم بنغازي اخبرت بأن فكرة فتح الطريق البري لم تفعّل بعد وان المتعاقدين ما زالوا ينتظرون غودو الفرج الذي يأتي او لا يأتي . وهكذا قفلت راجعا الى بيت الصديق المضيف يحيى البطاط بخفي حنين بعد أن قطعت ما يعادل الألف كيلومترا من دون جدوى .
في سكن المدرسين أبلغت صديقي ومضيفي في مدينة ( سرت ) يحيى البطاط بالأمر فور استيقاظي من رقاد طويل نجم عن تلك الرحلة المنهكة . فاقترح علي طرح الأمر على مدرس نزيل بالبيت اسمه ابو نبأ الموسوي من اهالي بغداد الذي ابلغني بوجود منفذ للسفر عن طريق تونس جوا الى عمان . دلني على دائرة مختصة بمثل هذه الأمور تقتطع مني مبلغا رمزيا لتكون الرحلة على نفقة الجانب الليبي فاقتنعت بالفكرة . نصحني بعدم مراجعة أي جهة بسرت فأخبرته بانني قد أحرقت سكل جسوري حتى في جارف فلا مجال للعودة . ودعت يحيى ونزلاء السكن وغادرت سرت باتجاه طرابلس العاصمة حيث فرصتي الوحيدة ، ربما .
في طرابلس الغرب
كان السفر المتواصل شكلا من أشكال الانتحار ومع ذلك غادرت سرت الى طرابلس لأصلها في أصيل اليوم الأول من ايلول من عام 1996 ، لتلتقي عيناي بمشهد غريب اذ كان احتفالا ثنائيا بذكرى الثورة الليبية عام 1969 واحتفالا بوصول ماء النهر الصناعي من الجنوب الليبي الى مشارف العاصمة الليبية . كانت الاحتفالية قد انفضت لتوها لأشهد منظرا غريبا : عشرات السرادقات تتلاعب بها رياح المتوسط وقد طوقت بعشرات الالوف من الزجاجات البلاستيكية الفارغة او المتتلئة ناهيك عن فوارغ العصائر والحلويات والأعلام الممزقة وأسلاك الميكرفونات والكارتونات المتدحرجة الى نهر طريق الساحل فيما كانت الريح تطوق ساحل المدينة من كل حدب وصوب من كل حدب وصوب ! لقد شكلت ركامات الزجاجات مفارقة صادمة بحكم ان الاحتفال بمقدم ماء النهر الصناعي تطلب ذلك القدر الهائل من المياه المعبأة في زجاجات !
غادرت السيارة الاجرة البيجو اثر توقفه في احد ازقة القلعة العثمانية القديمة المجاورة للساحة الخضراء او ساحة الاحتفالات ، وكنت مرهقا بعد ان قطعت ما يزيد عن الألف وخمسمائة كيلومتر في رحلات مكوكية بحثا عن الخلاص . كان من الصعب علي جرجرة حقيبة سفري بحثا عن غرفة في فنادق القلعة التي كانت ممتلئة بالنزلاء من شتى المدن ممن قدموا لحضور احتفالية الماء بعد احتدام المواجهات مع التحالف الدولي الأطلسي وفرض شكل من أشكال الحصار على ليبيا . وبعد جولتين عقيمتين بحثا عن سرير في اقرب فندق اضطررت لمناشدة سائق الاجرة الذي اقلنا الى العاصمة بإيداع حقيبتي لديه كي أوسع دائرة بحثي فقبل التماسي لكنه أوصاني بالإسراع ضمانا لاستعادة حقيبتي .
اخيرا تسلقت درجات فندق (الامين) لأصل الى مكتب الاستعلامات في الطابق العلوي ليصدمني رده القاسي وان كانت نغمته ناعمة لطيفة :
ــ متأسف .. كل الغرف مشغولة . .
ليستطرد بعد صمت قصير :
ــ ثمة سرير مع نزيلين احدهما سيغادر في المساء ..
سألته بنغمة متقطعة الأنفاس :
ــ واين هو الآن ؟
ــ خرج لشأن ما ..
توسلت اليه بأن احتل أي سرير في الغرفة لأستعيد قواي ولو لساعتين
فرضخ بعد الحافي الشديد . أسرعت للسائق واستعدت حقيبة سفري . وحين عدت قادني صاحب الفندق الى الغرفة التي سأكون فيها وحين دلفت اليها لقيت رجلا أشيب من أهالي بنغازي وأبصرت عامل الفندق منهمكا بفرش شرشفين على سريري المخصص لي ، بشكل مؤقت حاليا .
شرشفان في وقت واحد؟ لماذا ؟ !
طلب مني التريث لبضع دقائق كيما يرتب ملاءة السرير فامتثلت وأنا أغالب رغبة هائلة في الرقاد !
بعد ساعة من منتصف الليل استيقظت ثانية وأشعلت النور . كان الرجل الأشيب القادم من بنغازي قد غادر . فشعرت ببعض الارتياح لأنني سأستكمل ليلتي ولوحدي في الغرفة .
فجأة لمحت حشرة تدب على وسادتي . كانت اكبر حجما من البرغوث واقرب الى القرادة بلون كان اميل للقتامة . شعرت بدبيب حشرة اخرى في اهاب قميصي فرحت احك واهرش زندي وخاصرتي .
حين قلبت الشرشفين بان سطح الكشن وقد احتشد بدغل من صنف تلك الحشرة . ادركت عندئذ سر تردد صاحب الفندق في اعطائي الغرفة .
نزعت قميصي وقمت بنكته اكثر من مرة ليتهافت القراد زرافات ووحدانا .
لم اكن قد شبعت نوما . على العكس . داهمني قلق وارق وتناهبتني افكار جهنمية كالتفكير بأن ذلك النوع من الحشرات قد ينقل مرض الايدز . كنت في غاية الارتعاب . وقضيت الليل ممسكا بقميصي باحثا في ثناياه وطياته عن الغزاة ولكم كان بحثي مثمرا !
مع مجئ الصباح توجهت الى مكتب إصدار تذاكر السفر وبعد عملية روتينية زودت بتذكرة العودة المرجوة فانفرجت أساريري على الرغم من الآلام المبرحة التي سببتها عضات تلك الحشرة الصعبة الاقتلاع لمهارتها في الاختباء في طيات القميص . كما قمت بمراجعة السفارة التونسية طلبا لفيزا ترانزيت فتسلمتها ولحسن الحظ في تمام الساعة الثانية ظهرا .
كنت قد استرجعت رغم آلام الطريق وعضات القراد نشاطي فغادرت الفندق الى موقف سيارات البيجو التي تقل المسافرين الى تونس العاصمة .
كانت السيارة الأجرة تنتظر راكبا او راكبين كيما تبدأ رحلتها وبالفعل قدم تونسي وبرفقته فتاة فاكتمل عددنا لتنطلق الركوبة الى تونس العاصمة .
عند رأس جدير وهي المنطقة الحدودية بين ليبيا وتونس لم تفلح نسيمات المساء في التخفيف من أورام بدني الملغم بديناصورات الفندق . ألهيت نفسي بالتفرج على الوفود الأفريقية العائدة من احتفالية ثورة الفاتح وماء النهر الصناعي . وبعد رحلة برية مرت السيارة الأجرة بعدد من مدن الساحل التونسي : تطاوين ، قابس ،نابل ، سوسة ، الحمامات وصلت العاصمة وأقمت في النزل الذي اقمت فيه سابقا : سيدي بلحسن ..
هل سأقول وداعا يا ليبيا فيما كانت طائرتنا تقلع باتجاه الأردن ؟ سيكون على ان انتظر أسابيع في احد فنادق عمان قبل ان يصل التحويل الذي يتضمن مرتبتي لعام كامل . وسيكون من ضمن انشغالاتي تفتيش قمصاني بحثا عن المزيد من تلك الحشرات والالتجاء الى مكتبة أمانة عمان مقلبا صفحات كتبها ومجلاتها العلمية والصحية بحثا عن أدنى صلة بين القرادة الليبية ومرض الايدز القاتل ، دونما جدوى وتلك حكاية اخرى !
1206 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع