الأستاذ الدكتور سلمان الجبوري
العلاقة بين التعليم والاقتصاد
حدثني احد الأصدقاء انه في بداية عمره الدراسي كان يرفض الذهاب الى المدرسة الى درجة ان اباه الذي رغم انه كان امياً الا انه كان مدركا لأهمية التعلم ودور العلم في حياة الفرد والمجتمع، فكان يجبره على الذهاب الى المدرسة الى درجة انه كان يستعمل معه القسوة بل الضرب احيانا ، الى ان سلك صديقي طريق الدراسة وانتظم في طلب العلم رغم شظف الحياة الذي كانت تقاسيه اسرته. وبفضل دور والده ذاك فقد وعى صديقي أهمية التعلم واجتهد حتى بلغ اعلى مراتبه واصبح أستاذا جامعيا يهدي الاخرين لسلوك طريق العلم.
ان للتعليم وطلب العلم أهمية على المستوى الفردي والوطني والقومي كونه الخطوة الاولى للقضاء على ثالوث التخلف ( الجهل ، الفقر والمرض ) وبهدف خلق الانسان المتعلم والواعي لذا سعت القيادة الى البدء بأولى تلك المهام الا وهو الشروع بمحو الامية التي كانت متفشية بين أوساط الشعب. وقد وعت قيادة النظام الوطني ومنذ انبثاق ثورة 17 -30 تموز المجيدة تلك الأهمية فأولت التعليم جهدا متفردا تميزت به عن بقية الدول، فلم يقتصر جهدها على التعليم الاولي والعالي وانما سعت الى توفير فرصة لاولئك الذين تخلفوا عن اللحاق بركب التعلم فقامت بأعلان الحملة الوطنية الشاملة لمحو الأمية الإلزامي في العراق سنة 1978 فكان حدثا ناصعا ومميزا في تاريخ العراق، حدث قام به العراق كله، حكومة وشعبا ، حيث تمت المباشرة بتشريع قانون الحملة الوطنية الشاملة لمحو الامية الالزامي رقم (92) لسنة 1978 والذي نصت المادة الاولى منه على:
اولاً – كل مواطن تجاوز الخامسة عشرة ولم يتعد الخامسة والاربعين سنة من العمر ولا يعرف القراءة والكتابة ولم يصل الى المستوى الحضاري يعتبر امياً لأغراض هذا القانون
ثانياً – يقصد بالمستوى الحضاري ان يمتلك الفرد مهارات القراءة والكتابة والحساب على ان تكون هذه المهارات وسيلة لتطوير مهنته ورفع مستوى حياته ثقافياً واجتماعياً واقتصادياً في سياق المعاصرة من ناحية ولتمكينه من ممارسة حقوق المواطنة والتزاماتها بالاشتراك في صنع القرارات واداء الواجبات العامة.
هذا وقد اقترن هذا الاجراء بتشريع الزامية التعليم ومجانيته ففتحت مجال التعلم وتوسيع المعارف لجميع افراد الشعب فجعلت التعليم مجانيا في جميع مراحله مع توفير كافة مستلزماته بعدما كان حكرا على الطبقات الميسورة الحال والمتنفذة ليتمكن الجميع من اللحاق بركب تحصيل المعرفة ابتداءً من توفير البنى التحتية العصرية وكافة مستلزمات مواصلة التعلم بما في ذلك الأقسام الداخلية المريحة والزي الموحد المجاني.
ان العلاقة بين التعليم والاقتصاد تنطلق من كون العلم أساس البناء والتقدم الاقتصادي لاي بلد . وبتفحص تلك العلاقة نرى انها تنطلق من المفهوم الاقتصادي للتعلم واكتساب العلم ذلك المفهوم الذي ينبع من كونه نوع من أنواع الاستثمار الذي يظهر اثره في النهاية في مجال تقدم البلد . ان الاستثمار في التعليم يأخذ ثلاثة اوجه أولها فردي (أي ان الفرد على استعداد لمواصلة التعلم وتحمل تكلفته) والثاني مؤسسي ( أي ان المؤسسات والشركات تعمل على تطوير قدرات العاملين لديها ومهاراتهم بهدف تحسين أدائهم في العمل لديها وهي تتحمل تكاليف ذلك) والثالث حكومي (أي ان الدولة تقوم بالانفاق على تعليم أبناء الشعب)، لانه ثبت علميا ان تطوير القدرات العلمية للفرد وفق أي من الأنواع الثلاث انفة الذكر انما هو يعظم عنصر الإنتاج الأساسي الا وهو العمل وبالتالي فأنه سيسرّع من التطور والاستخدام الأمثل لبقية عناصر الإنتاج مما يظهر اثره في النهاية في الناتج المحلي الإجمالي وفي رفاهية المجتمع.
ان مقارنة ذلك مع ما هو خاصل في العراق منذ 2003 يجعلنا نؤشر حالة الخطر المحدق بالبلد نتيجة اهمال قطاع التعليم بمختلف مراحله من قبل السلطات الحاكمة التي لم يقتصر عملها على الإهمال فقط وانما عملوا على الإساءة بشكل ممنهج الى هذا القطاع المهم الذي يشكل العصب الحساس للاقتصاد الوطني بعدما شهد قطاع التعليم ارقى مراحله في عهد النظام الوطني لغاية 2003 والتي اعتبرت تلك الفترة العصر الذهبي للتعليم والذي بان اثره في مستوى التطور الاقتصادي في كل القطاعات النفطية والصناعية والزراعية والعسكرية بعدما اصبح العراق منتج للكفاءات العلمية التي ساهمت بشكل مباشر في تطوير تلك القطاعات وبذلك اقترب العراق من التنمية المستدامة التي تؤمن له التطور المستمر. ان الاهتمام بالتعليم يبدأ بالاهتمام بتوفير مستلزماته من بنى تحتية متكاملة وكوادر تعليمية كفوءة ومحصنة وطنياً ومناهج متطورة مع توفير البيئة الملائمة للطلبة تحفظ لهم كرامتهم وتؤمّن لهم أجواء مريحة للتعلم ولذلك فان النظام الوطني قد بدأ النهضة الاقتصادية من الأساس وذلك بايلاء التعليم في جميع مراحله جل اهتمامه .
هذا ويضاف الى كل ماسبق هو اعتماد النظام ومنذ الوهلة الأولى لثورة 17 -30 تموز المجيدة ستراتيجية تثوير التعليم بجميع مراحله ليرقى الى مستوى التنمية والتقدم الاقتصادي والاجتماعي المنشود. وقد اساء قصيري النظر فهم مفهوم التثوير واعتبروه تسيسا للتعليم وجهلوا حقيقة كونه احداث ثورة تعليمية وعلمية
هادفة على أسس حديثة هدفها البناء والتقدم وليس العلم لاجل العلم.
ان ما نراه ونسمعه منذ يوم الاحتلال المشؤوم في 2003 وتسلط شرذمة لاتخشى الله على مقدرات البلد وليس همها سوى التخريب الممنهج والذي شمل قطاع التعليم بجميع مراحله بأسلوب قضى على كل ما تحقق لغاية 2003 والذي اتسم بأهمال للبنى التحتية وعدم الاهتمام بجودة المستلزمات الدراسية وذلك بتزويد الطلبة بمستلزمات بالية مما يضطر أولياء الطلبة الى شرائها من السوق وبأثمان باهضة وكذلك تفشي التسرب من المدارس واستفحال الامية مجدداً بعدما حقق العراق في عام 1987 سبقا عالميا بأعلان قضائه على الامية بأعتراف اليونسكو وحصوله على جائزتها بعد ترشحه من قبل المنظمة العربية للثقافة والعلوم. ومما يعتبر جزءً من منهج التخريب للتعليم في العراق هو انتشار التعليم الأهلي الغير منضبط وتدني مستوى الكوادر التعليمية التي تخضع للمحسوبية والمنسوبية وانقلاب هرم الدرجات العلمية في التعليم العالي بعدما صار منح الدرجات العلمية اعتباطيا وانتشار حملة الشهادات المزيفة والتي لاتتمتع بأي أساس علمي لانها اصبحت سلعة تباع وتشترى كما هو حال العلم الذي تحول الى سلعة رخيصة بعدما كان قيمة عليا مقدسة. هذا غيض من فيض مما حل بقطاع التعليم والذي ينسحب اثره على تقدم البلد وازدهاره لما سببه من تدهور اقتصادي وخيم.
840 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع