الأستاذ الدكتور باسل يونس ذنون الخياط
أستاذ مُتمرِّس/ جامعة الموصل
المطر في التراث العراقي:
المطر آية من آيات الله تعالى، ونعمة عظيمة لكافة المخلوقات من بشر ونبات وحيوان، قال تعالى (وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ تُخْرَجُون) (الزخرف:11).
الأمطار هي المصدر الأول لمياه الشرب على مستوى العالم، وهي الرافد والمُغذي الأول للمياه الجوفية. وتعمل الأمطار على تثبيت التربة وجعلها صامدة متماسكة أمام هبات الرياح، مانعة بذلك تَشكّل العواصف الرملية. كما تعمل الأمطار على تنقية الأجواء من الغبار والشوائب والأدخنة التي تؤثر سلباً على صحة الإنسان.
ترد كلمة المطر ومشتقاتها خمس مرات في القرآن الكريم، وتأتي في مواضع أخرى بألفاظ تفيد المطر مثل: الغيث والودق والماء والسماء والطل والوابل.
والمطر هو خير وبركة، ويرد في القرآن الكريم بلفظ (غيث) ليدل على النفع والرحمة، قال تعالى: (وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِن بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ) (الشورى: 28). كما أن رؤية المطر في المنام دالة على الخير، والمطر إذا لم يأتي منه الضرر فهو يدل على الخير والرحمة.
المطر في الأمثال والتراث الشعبي العراقي:
هناك عدد من الأمثال الشعبية الشائعة في العراق عن المطر، ومن هذه الأمثال: "المُبلل ما يخاف من المطر"، حيث يُذكر هذا المثل ليُهوّن الناس على المبتَلى بالمصائب، فمصيبة أخرى لن تغير من المعادلة شيئا لأن زخة مطر جديدة لن تؤثر على المُبلل أصلا بالمياه.
ويصادف أحياننا أن يقوم شخص بالتهرّب من حالة معينة، ثم يجد نفسة قد وقع بتبعات كثيرة من جراء تلك الحالة، فيقال له عندئذٍ (انهزم من جوة المطر.. وقع جوة المزريب)!! و (المزريب) أو (المرزيب) هو مخرج الماء وجمعه (مزاريب)، وهي كلمة فصحى.
وللمطر مكانة خاصة في التراث الشعبي العراقي، فعندما يتأخر توقيت المطر، كان الأطفال يأخذون (لعبة) مصنوعة من الملابس القديمة ويرفعونها على عودة أو خشبة طويلة ويطرقون الأبواب منشدين:
يا أم الغيث غيثينا لولا المطر ماجينا ... حطو النا بالطبشه أصبح ولدكم يمشا
فتقوم ربات البيوت بصب طاسة ماء على (اللعبة)، ثم ينتقل الأطفال إلى الدار الآخر ليكرروا فعاليتهم. فكانت أغنية (يا أم الغيث غيثينا) أشبه بحملة طلب استسقاء، وكانت تتم بوقت واحد في محلات الموصل القديمة.
https://www.youtube.com/watch?v=Nqp07d0tLpA
ومن الأغاني الشعبية التراثية التي كان يُرددها الناس في عموم العراق مع قدوم الغيوم أغنية (مطر مطر.. حلبي):
مطر مطر.. حلبي .. عبّر بنات الچلبي
مطر مطر.. شاشا .. عبّر بنات الباشا
مطر مطر عاصي .. طوّل شَعر راسي
راسي بالمدينة .. ياكل حبة وتينة
وكما هو واضح من كلمات الأغنية أن (بنات الچلبي) و (بنات الباشا) كانت لهن خصوصية عند تعبيرهن من سيول المطر!!
والمطر الحلبي منسوب إلى مدينة حلب السورية، وحلب هي توأم مدينة الموصل وبينها العديد من الروابط المشتركة. فكما تشتهر الموصل بأمطارها الغزيرة، فإن حلب تشتهر بأمطارها التي تكون أحياننا أشد ضراوة من أمطار الموصل.
https://www.youtube.com/watch?v=eRk7nlFBxhU&t=16s
ومن الأناشيد التي كان ينشدها الأطفال بعد انتهاء سقوط المطر وطلوع الشمس:
طلعت الشُميسه على گبر عيشه
عيشه بنت الباشا تلعب بالخرخاشه
صاح الديچ بالبستان الله ينصر السلطان
و (عيشه) هي (عائشة خاتون) زوجة (حسن باشا) والي بغداد في العهد العثماني.
قصيدته (أنشودة المطر):
(أنشودة المطر) هي أشهر قصيدة للشاعر العراقي الكبير بدر شاكر السَّيَّاب وقد اشتهر بها، كما أنها اسم ديوان السَّيَّاب والذي قام بنشره عام 1962م.
وبدر شاكر السَّيَّاب (1926-1964) هو من مواليد قرَية جِيْكُور في محافظة البصرة، وقد توفيت والدته عندما كان عمره ست سنوات وعانى في طفولته. التحق بدار المعلمين العالية، واختار لنفسه تخصص اللغة العربيّة وقضى سنتين في تعلّم الأدب العربي، ثم دخل الجامعة وتخصص باللغة الإنكليزية ومارس التدريس.
لقد مرَّ السَّيَّاب بهذه الدنيا مروراً سريعاً على مدار ثمان وثلاثين سنة، وكانت حياته مسرحاً للألم والانفعال: فحُرم حنان الأم صغيرا، وعاش فقيراً، مريضاً مشرداً، يسعى وراء تيارات سياسية ثائرة، حتى قضى نحبه سنة 1964 حيث توفي في المستشفى الأميري في الكويت.
لقد كانت السنوات الثلاث الأخيرة من حياة السَّيَّاب فترة رهيبة عرف فيها صراع الحياة مع الموت. وقد زجّ بجسمه النحيل وعظامه الرقاق إلى حلبة هذا الصراع الذي جمع معاني الدنيا في سرير ضيق حيث راح الوهن وهو يتفجر عزيمة ورؤى وحباً، يقارع الجسم المتهافت المتداعي، ووجه الموت يحملق به كل يوم فيصدّه الشاعر عنه بسيف من الكلمة.
قصيدته (أنشودة المطر):
بعد أن كتب السَّيَّاب قصيدته (أنشودة المطر) سنة 1960، أرسلها إلى (سهيل إدريس) رئيس تحرير مجلة (الآداب) في بيروت لغرض نشرها، وكتب له الرسالة الآتية: "أرسلُ إليكَ رفقة هذه الرسالة قصيدة لي بعنوان "أنشودة المطر"، وأتمنى أن تنال رضاك وأن تكون صالحة للنشر في (الآداب). إني لخجول جداً من أن قصيدتي هذه والتي ستشغل في مجلة (الآداب) حيزاً قد يكون من الأولى ملؤه بما هو خير من قصيدتي وأجدى".
لم يكن السَّيَّاب يدرك أن قصيدته التي قدمها إلى رئيس تحرير مجلة (الآداب) بتواضع المبدع ورهافة الشاعر، سوف تكون حجر أساس في تجديد تجربة الشِّعر العربي المعاصر كله، وعلامة من علامات انعطافاته الحاسمة؟!
ومع ولادة (أنشودة المطر) ظهرت البوادر الأولى لاستلهام التراث الأسطوري في شِعر السَّيَّاب ومنه في الشِّعر العربي الحديث، وتماهت شخصية السَّيَّاب بتموز وبالمطر كما تماهت صورة العراق بعشتار والمدينة وصارت مفاتيحا لفهم عالمه الشِّعري.
ولم يقتصر السَّيَّاب على الأسطورة اليونانية على عادة الشِّعراء الأوروبيين، بل أخذ ينهل من التراث البابلي فأحيا رموزا لا تزال إلى اليوم فاعلة في وعي الشِّعراء، وبلغ السَّيَّاب النضج الكامل في هذه التجربة في قصيدة (مدينة بلا مطر).
وما تزال قصيدة (أنشودة المطر) واحدة من أهم ما نُشر في الشِّعر الحر، وكانت بدون منازع حجر الزاوية في بناء الصرح الشِّعري الذي تفيأ في ظلاله كل الشِّعراء اللاحقون وبين للجميع تجاوز الشِّعراء للقيود العمود وأقنعت المؤسسة النقدية العربية بجدوى هذا الشكل الجديد.
لم يحاول أحد من ملحني العراق تلحين قصيدة (أنشودة المطر) نظراً لصعوبتها، وبعد اعتزال الفنان السعودي محمد عبده قام بتلحينها وغنائها في مطلع التسعينيات.
https://www.youtube.com/watch?app=desktop&v=rgPNHKBj9ko
النص الشِّعري:
عَيْنَاكِ غَابَتَا نَخِيلٍ سَاعَةَ السَّحَرْ ،
أو شُرْفَتَانِ رَاحَ يَنْأَى عَنْهُمَا القَمَرْ .
عَيْنَاكِ حِينَ تَبْسُمَانِ تُورِقُ الكُرُومْ
وَتَرْقُصُ الأَضْوَاءُ ...كَالأَقْمَارِ في نَهَرْ
يَرُجُّهُ المِجْدَافُ وَهْنَاً سَاعَةَ السَّحَرْ
كَأَنَّمَا تَنْبُضُ في غَوْرَيْهِمَا ، النُّجُومْ ...
وَتَغْرَقَانِ في ضَبَابٍ مِنْ أَسَىً شَفِيفْ
كَالبَحْرِ سَرَّحَ اليَدَيْنِ فَوْقَـهُ المَسَاء ،
دِفءُ الشِّتَاءِ فِيـهِ وَارْتِعَاشَةُ الخَرِيف ،
وَالمَوْتُ ، وَالميلادُ ، والظلامُ ، وَالضِّيَاء ؛
فَتَسْتَفِيق مِلء رُوحِي ، رَعْشَةُ البُكَاء
كنشوةِ الطفلِ إذا خَافَ مِنَ القَمَر !
كَأَنَّ أَقْوَاسَ السَّحَابِ تَشْرَبُ الغُيُومْ
وَقَطْرَةً فَقَطْرَةً تَذُوبُ في المَطَر ...
وَكَرْكَرَ الأَطْفَالُ في عَرَائِشِ الكُرُوم ،
وَدَغْدَغَتْ صَمْتَ العَصَافِيرِ عَلَى الشَّجَر
اللهم صبياً نافعاً ورزقاً واسعاً طيباً مباركاً فيه.. اللهم اسقينا غيثاً مريئاً مغيثاً نافعاً.. اللهم أغثنا وافتح لنا أبواب رحمتك وارزقنا من حيث لا نحتسب.
915 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع