هيفاء زنكنة*
موقف مؤسسات التمويل اليسارية الغربية من غزة… «روزا لكسمبورغ» نموذجا
في بادرة صمت تثير ما هو أكثر من التساؤل، أعلنت «مؤسسة روزا لكسمبورغ ـ شمال إفريقيا» تعليق «جميع أنشطتها حتى إشعار آخر احترامًا (لجميع) ضحايا الشرق الأوسط». تزامن اختيار مكتب شمال أفريقيا، بتونس، الصمت، أو الجلوس بظل الحائط، تجاه مقاومة الشعب الفلسطيني، متزامنا مع الموقف المُدّوي المؤيد للكيان الصهيوني للمكتب الأم، في ألمانيا. والذي نشرته على صفحتها الرسمية، إثر بدء « طوفان القدس» ونصه «أن أكتوبر 2023 هو نقطة تحول». لماذا؟ «بسبب المذبحة الرهيبة التي ارتكبتها حركة حماس الإسلامية ضد المدنيين الإسرائيليين». هكذا قدمت المؤسسة وقوفها الصريح مع المحتل الصهيوني، متجاهلة بذلك الاستعمار الصهيوني الاستيطاني على مدى 75 سنة الماضية، وسياسات الفصل العنصري، والحصار، والتطهير العرقي، والتهجير القسري، والاعتقالات المستمرة وإنكار حق العودة للاجئين الفلسطينيين. واصلت المؤسسة، حتى يوم 15 نوفمبر، وصف الإبادة المنهجية التي يعيشها سكان غزة، يوميا، وقتلها الأطفال والنساء بمرأى من العالم كله، بأنه « تصعيد للعنف في إسرائيل وفلسطين بشكل صادم ومثير للقلق». لتساوي بذلك، بين المُستعمِر والمُستَعمَر، بين ممارسي التطهير العرقي الجماعي ومن يتعرضون للتطهير العرقي الجماعي يوميا.
وهو موقف كان سيمر بشكل عابر، لا يستحق الاهتمام في عالم مخّدر بسياسة المعايير الدولية المزدوجة، لولا أن للمؤسسة 18 مكتبا إقليميّا منتشرا في أرجاء العالم، من بينها تونس ومكتب فلسطين والأردن والكيان الصهيوني. وهي مؤسسة يسارية لها شركاء محليون في البلدان المذكورة ينشطون في مجالات متعددة «من خلال التعاون الأكاديمي واللوجستي / أو المالي. تعاون متنوّع واسع من مشاريع التربية السياسيّة عالميا بتمويل من وزارة الخارجيّة الألمانيّة والوزارة الفدراليّة للتنمية والتعاون». وتفتخر المؤسسة بقولها: «نحن نتعاون مع أشخاص وممثلين سياسيين من المنطقة ونعمل مع المنظمات غير الحكومية التقدمية والنقابات والحركات الاجتماعية ومراكز الفكر والمنصات الإعلامية البديلة».
ترتبط المؤسسة بحزب يساري ألماني إلا أن تمويلها يستخلص، بشكل أساسي، من ميزانية الحكومة الفيدرالية. ويبين تقرير ميزانيتها أن المساهمات الحكومية ازدادت من 30.6 مليون يورو في عام 2010 إلى 67.4 مليون يورو في عام 2018. وفي عام 2018، جاء ما يقرب من 50 في المائة من جميع المساهمات، أي ما يقرب من 33 مليون يورو، من الوزارة الاتحادية للتعاون الاقتصادي والتنمية، كما تلقت مبلغ 11.9 مليون من وزارة الداخلية الفيدرالية و12.1 مليون من الوزارة الفيدرالية للتعليم والبحث، وما مجموعه 7.2 مليون من وزارة الخارجية. مما يعني أن سياسة المؤسسة، مهما ادعّت من استقلاليتها، لا يمكن إلا أن يكون انعكاسا لسياسة الحكومة الألمانية.
بالنسبة إلى مكتب شمال إفريقيا الذي تم إنشاؤه في يوليو/تموز 2013 في تونس- تؤكد المؤسسة أن هدفها العام هو تشجيع المبادرات المبتكرة والخلاقة في المنطقة، ودعم العدالة الاجتماعية والمشاركة السياسية التصاعدية والحوار بين المجتمعات. وأنها تقف «مع أعراف الحركات العمالية والنسائية، وكذلك ضد الفاشية وضد العنصرية».
مما يأخذنا إلى موقف المؤسسة وفرعها في شمال إفريقيا من حملة الإبادة في غزة، فلنتوقف هنا ونتساءل: إذا كانت هذه الأهداف اليسارية الاشتراكية ومناهضتها للفاشية والعنصرية حقيقية فعلا، فأين هي من غزة اليوم؟ لماذا تقف بقوة بجانب محتل استيطاني عنصري، تكتظ شوارع العالم بالمتظاهرين الأحرار إدانة لجرائمه؟ ولم اختار مكتب شمال أفريقيا ـ تونس الصمت تجاه المحتل من جهة وتجاه المركز الأم الرئيسي المؤيد لمحتل يلتذ بقتل الأطفال والنساء وجوهر سياسته العنصرية هو إبادة الشعب الفلسطيني؟
وكيف يبرر مكتب تونس صمته وهو يقرأ رسالة العديد من زملائه العاملين في مكتب فلسطين والأردن، التي تم توجيهها الى المكتب الرئيسي، ونُشرت بعد تسريبها في صحيفة «العربي الجديد»؟ الرسالة التي يتساءلون فيها قائلين: «كيف يمكن لهذا الصمت أن يتماشى مع التزامنا المشترك بالعدالة وحقوق الإنسان ومكافحة الظلم؟ كيف يمكن لمنظمة وقفت باستمرار ضد الظلم والقمع أن تتردد في اتخاذ موقف حازم ضد الجرائم الجسيمة التي ترتكب بحق شعبنا؟». واصفين كيفية إغراق موقع المؤسسة بروايات المحتل العنصري وكيف امتنع بيان المؤسسة الرئيسي، في 10 أكتوبر 2023، عن تناول فداحة الظلم، قائلين: «لقد تحدثوا نيابة عنا مستخدمين خطاب «كلا الجانبين» متجنبين مصطلحات مثل «جرائم الحرب» أو «الاستعمار» أو «الإبادة الجماعية» أو «الحصار» فيما يتعلق بالفظائع المستمرة ضد الشعب الفلسطيني».
وفي الوقت الذي يتم فيه تكميم أصوات موظفي المؤسسة المحتجين بفلسطين والأردن، نجد أن ذراعي المؤسسة مفتوحتان بسخاء لمكتب المحتل. متغنية بأنها «تهدف إلى التركيز بشكلٍ خاصٍّ على العلاقات الألمانيّة ـ الإسرائيليّة، التي تلقي عليها المحرقة بظلالها». وأن المكتب يدعم ملتقى وحوار الخبراء، والأكاديميّين، والناشطين، والسياسيّين الألمان والإسرائيليّين». وفي الوقت الذي يتعرض فيه الفلسطيني لسياسة التطهير العرقي، تؤكد المؤسسة ل «مظاهر اللاساميّة». «اللا سامية التي باتت تهمة العصر الجاهزة ضد كل من يحاول التشكيك بالسردية الصهيونية أو ممارسات الكيان الصهيوني ولا علاقة لها بالموقف من اليهود.
إزاء هذا كله، لم لا يزال مكتب شمال إفريقيا، بتونس، مختفيا وراء حجاب تعليق نشاطه «احترامًا (لجميع) ضحايا الشرق الأوسط»؟ ولِم لَم يعلن (كل شركاء المؤسسة) انسحابهم من الارتباط بها، فكرا وتمويلا، بعد أن أصدرت ثلاث منظمات هي: جمعية خرائط المواطنة، وجمعية الورشة الإعلامية للحقوق الاقتصادية والاجتماعية ومرصد السيادة الغذائية والبيئة قطع العلاقات مع مؤسسة روزا لكسمبورغ « على خلفية موقفها من القضية الفلسطينية» و«موقفها المنحاز للمواقف الرسمية لدول الشمال الداعمة للاحتلال».
وإذ بات صمت بقية الشركاء، أفرادا وجمعيات ومنظمات، مدويا، في فروع المؤسسة المختلفة، لنسترجع بعض ما تعلمناه عن دور المثقف. أليس واجب المثقف البحث عن الحقيقة المختبئة خلف حجاب التشويه والتزييف والإيديولوجية والمصالح الطبقية؟ أليست مسؤولية المثقف أعمق وأكبر بكثير من بقية الناس؟
ولنقارن. في ربيع عام 1967، أي قبل عام واحد بالضبط من تاريخ اغتياله، ألقى الدكتور مارتن لوثر كينغ الابن، قائد حركة الحقوق المدنية، أول خطاب رئيسي له حول الحرب الأمريكية ضد فيتنام، بصوت جهوري، معرضا حياته للخطر، قال مخاطبا الصامتين على الظلم والغزو والحروب العدوانية، مُذكّرا بالقيم الأخلاقية الإنسانية: «سيأتي وقت يكون فيه الصمت خيانة».
*كاتبة عراقية
610 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع