د.حلمي الفقي
استاذ الفقه المساعد بجامعة الازهر
رمضان الأخير !
واستدار الزمان، ومرت الأيام، واقترب رمضان، ونفوس الصالحين مشتاقة، وأرواحهم تواقة، وقلوبهم ملتاعة تحترق شوقا إلى شهر الخيرات.
أقبل شهر الإحسان، أقبل شهر الخيرات، أقبل شهر اليمن والبركات لتوقظ القلوب من نومها، وتطلق الأرواح من عقالها، وتبعث الهمم من فتورها، وتحث العزائم من كسلها.
وها نحن على بعد أيام من شهر رمضان فهل ترانا نسعد برمضان آخر، وهل ترانا نشهد رمضانا آخر بعد هذا، لا بل ربما هذا آخر عهدنا بشهر الخيرات، بل ربما لا ندرك هذا الشهر الفضيل، بل ربما يدركنا الأجل فى هذه الأيام وتلك الساعات التى تفصلنا عن هذا الشهر الكريم، بل ربما لا أتم أنا كتابة مقالي هذا، وكلمتي تلك، التى أرجو ربي أن يجعلها فى ميزان حسناتى، وحسنات من يقرأها، وأن يجعلنا جميعا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
وإذا كان الأمر بهذه الخطورة، وإذا كان الموت أقرب للإنسان من قرب اللسان إلي الأسنان، فعلينا أن نشمر عن ساعد الجد، ونهب من سباتنا، ونقتل كسلنا، ونوقظ الهمم، ونبعث العزائم، ونبدأ بتوبة نصوح نعض فيها بنان الندم، ونذرف فيها الدمع مدرارا على تقصيرنا فيما فات، ونوطن العزم على إصلاح ما هو آت، ونقف مع النفس وقفة صادقة، نحاسب فيها أنفسنا، ونتدارك فيها أمرنا، ونصلح شأننا.
ومحاسبة النفس أمر لابد منه للمؤمن، كما يحاسب التاجر الحاذق عمال، ويحسب أمواله، والمؤمن يحاسب نفسه فى كل ما يأتي وما يذر، يحاسب نفسه ماذا أردت بأكلتى، ماذا أردت بشربتي، ماذا أردت بنومتى، هل أخلصت النية لربي فى صدقتى، وهذه محاسبة عقب كل عمل، وبعد كل ترك، وهناك المحاسبة الأهم، والتى تكون مرة كل يوم قبل النوم، حين يأوي المؤمن إلى فراشه، ويطفىء أنوراه، متذكرا ظلمة القبر، ووحشته، ووحدته، فى هذا الوقت عليه أن يحاسب نفسه بصدق عن يومه الأخير - والذي ربما لا يصبح عليه صباح فى هذه الدنيا إلا وهو من أصحاب القبور – وإذا حاسب نفسه فوجد خيرا حمد ربه وتذلل إليه أن يقبل صالح عمله، وإن وجد سوءا ندم على فعله، وحاسب نفسه وعاتبها وعاقبها على تفريطها فى حق الله، وهنا ثق وتأكد أخى الحبيب أن اليوم التالى سيكون حالك أفضل، وأمورك أحسن مع ربك وخالقك، وجرب ترى، فقد قال ربنا سبحانه وتعالي فى كتابه { والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين } ( العنكبوت: 69)
فإذا حاسبت نفسك على تقصيرك فى خشوع صلاة اليوم، وعاتبتها صادقا متألما لوجدت صلاتك فى اليوم التالي أحسن خشوعا، وروحك أكثر خضوعا، وعقلك أفضل حضورا.
ونحن على عتبات هذا الشهر الفضيل، شهر رمضان المعظم، علينا أن نوقن أن محاسبة النفس فى هذا الشهر لها طعم آخر، ومذاق مفعم بالأشواق والأشواك، مليء بالألم والأمل، لأن رمضان شهر الجهاد بكل ما تحمله هذه الكلمة من معنى، فهو شهر جهاد النفس والشيطان والشهوات والشبهات والهوى والكسل، وهو كذلك شهر جهاد أعداء الله المحاربين لدين الله، وهو شهر الانتصارت التى حققت العز للإسلام والنصر للمسلمين عبر التاريخ، فكانت معركة الفرقان، والتى كانت أول معركة بين الحق والباطل فى هذا الشهر الكريم، وكان الفتح المبين، فتح مكة المكرمة فى هذا الشهر الفضيل، وغير ذلك الكثير والكثير من المعارك الكبرى في تاريخ الإسلام والمسلمين؛ وتبقي معركة الإنسان مع نفسه، هى المعركة الأصعب للمسلم فى طريق الفوز العظيم بجنة الخلد ونيل رضا الله رب العالمين، ويبقي رمضان عاملا حاسما، وفرصة عظيمة لتحقيق النصر على النفس، فعلى المسلم أن يسأل نفسه ماذا أريد من رمضان، لأرتقي بنفسي وأهلي، امتثالا لأمر ربي { يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا} (التحريم: 6) يجيب على هذا السؤال الدكتور خالد حمدي فيقول: " سألت نفسي:
ماذا تريد من رمضان؟
فوجدتني أجيب مسرعا كأنما أمنياتي واقفة على حافة القلب تنتظر الجواب…
أريد ترميم نفسي مما أصابها من أعطاب وآفات عام كامل..
أريد أن أعرف مقدار ما بنفسي من طهر أو خبث ذاتي… لا سيما وقد تصفدت الشياطين ولم تعد لها ذلكم التأثير القديم علي..
أريد أن أزيل حواجز القسوة والغفلة التي امتلأت بها نوافذ قلبي… فالقرآن الكثير والغفلة لا يجتمعان..{وإن كنت من قبله لمن الغافلين}
أريد الشبع والامتلاء من العبادة..
أريد اللذة الإيمانية التي تفيض الدمعة وتقشعر الجسد..
أريد المكث الطويل على باب الملك من غير ما وسوسة شيطان أو مشغلة إنسان..
أريد الشبع من القرآن المسموع بالقلب الموجوع الذي يجلب الخشية ويستحضر الدموع..
أريد شحن القلب لأيام فتن طوال بعد رمضان..
أريد الطمأنينة والسكينة..
أريد التعرض لرحمات الله أكثر من ذي قبل… فما كان أحدنا أقرب إليها من رمضان..
أريد التقوى الدائمة لنفسي العاصية الشاردة الآثمة..
أريد، وأريد، وأريد…ويقيني أن الكريم إذا أدخلني السوق فلن يحرمني الربح… سيما وهو يعلم أني عبد فقير… رأس ماله حسن الظن بصاحب السوق.
931 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع