صبيح صادق
في ذكرى وفاة دوني جورج رئيس المتحف العراق الأسبق
تمر في هذا الأسبوع ذكرى وفاة عالم الآثار العراقي، الصديق الذي يفخر به علم الآثار في العراق، الدكتور دوني جورج بمدينة تورينتو بكندا، يوم 11 مارس/ آذار من عام 2011.
ولد دوني عام 1950، وتخرج من قسم الآثار، كلية الآداب ببغداد، وعمل في المتحف العراقي، ثم حصل على شهادة الماجستير فالدكتوراه، وتقلد العديد من المناصب المتعلة بالاثار، وفي عام 2000 تم تعيينة مديرا عاما للدراسات والبحوث في الهيئة العامة للآثار العراقية، ثم مديرا عاما للمتاحف العراقية، ورئيس هيئة الآثار العراقية، والّف عشرات البحوث والكتب، وشارك بالعديد من المؤتمرات الثقافية.
لقد علـّق دوني جورج كل آماله ومستقبله بالمتحف العراقي، وما أن بدأت عمليات نهب المتحف، عام 2003، حتى انهارت كل آماله وأصيب بنكسة مدمرة، فأمتعض من الولايات المتحدة، وأخذ يشكوها في المؤتمرات الثقافية والصحفية، ومنها المؤتمر الصحفي الذي عقد في لندن، عام 2003، حول عمليات نهب المتحف العراقي، وفي هذا المؤتمر حضر دوني جورج برفقة الدكتور جون كيرتيس مدير قسم الشرق الادنى في المتحف البريطاني، وهو المؤتمر الذي قامت الصحفية العراقية وحيدة المقدادي بتغطيتة وفيه رد دوني جورج على أسئلة الصحفيين حول طبيعة نهب المتحف العراقي، قائلا:
"سمعنا من الأخبار ان المتحف سرق.. فذهبنا انا والدكتور جابر خليل مدير دائرة التراث الى مركز المارينز، وتحدثنا الى الكولونيل زاركون وطلبنا ارسال حراسة الى المتحف حفاظاً على ما تبقى من موجوداته فقال لنا اذهبوا وستلحق بكم الحماية، فعدنا لكنهم لم يأتوا... كان هذا يوم الأحد 13 /4، وبقينا ننتظر حتى وصلت الحماية يوم الأربعاء".
وردا على سؤال حول هويات هؤلاء اللصوص الذين سرقوا المتحف العراقي، أجاب دوني جورج:
"نعتقد انه كان هناك نوعان من اللصوص. النوع الأول جاء ليأخذ أي شيء ذي قيمة حتى الكومبيوترات والأثاث.. وهؤلاء بدأ بعضهم بإعادة المسروقات بعدما ناشدناهم من خلال المساجد والاذاعة وبالفعل استعدنا قطعاً مهمة جداً بعضها عاجية أو ذهبية، منها اناء سومري من الوركاء (5000 ق.م) يصور الحياة الزراعية في بلاد سومر. وجاءنا ايضاً مواطنون يحملون قطعاً كانوا قد احتفظوا بها لحمايتها من اللصوص.
أما النوع الثاني من اللصوص فنعتقد انهم عصابات دولية محترفة وخبيرة في الآثار بدليل انهم لم يأخذوا النسخ الجبسية... لأنهم يميزون القطع الأصلية عن انساخها. ولقد وجدنا في الحديقة كومة مفاتيح غير مفاتيحنا... ووجدنا ايضاً اربع سكاكين خاصة بقطع الزجاج (وعرض الدكتور جورج احدى هذه السكاكين على الحضور). لقد اخترقوا 120 غرفة في المتحف وهشموها، وبعثروا ومزقوا الوثائق والسلايدات الخاصة بالأرشيف وهؤلاء هم الذين هربوا المسروقات الى الخارج" ( ).
وفي عام 2006 قدم دوني استقالته وغادر العراق، وانتهت حياة هذا العالم بالسكتة القلبية يوم 11 آذار / مارس عام 2011، حال وصوله بالطائرة الى مدينة تورينتو بكندا، قادما من الولايات المتحدة.
تعود علاقتي مع دوني جورج إلى عام 1969، عندما كنا ندرس بالصف الأول بقسم الآثار، كيلة الآداب، جامعة بغداد. لم يكن في الصف الأول غير حوالي عشرة طلاب، وهناك تعرّفت عليه. طالب نشط، متوقد الذهن، يتقن اللغة الإنكليزية بشكل مذهل، يتمتع بثقافة عامة واسعة، جرئ في مناقشاته مع الأساتذه، وفي الوقت نفسه يناقش في غاية الأدب والانفتاح.
بعد شهرين انتقلتُ للدراسة في قسم اللغة العربية، لكن علاقتي بقيت مستمرة مع واحد فقط من طلاب ذلك الصف، وهو دوني جورج.
بعد افتراقنا كنت ألتقيه في الباحة المقابلة لقسم الآثار، فنقف لنتحدث في شؤون كثيرة. كان مغرما بالآثار العراقية، ويفتخر بأنه آشوري، من سلالة الحضارة الآشورية. منذ ذلك الوقت تكوّنت لدي فكرة، بأن هذا الطالب سيكون له شأن كبير في المستقبل.
في عام 1974، افترقنا بعد الحصول على البكلوريوس. . . بعد سنوات، في عام 1978، عندما كنت أعمل في القسم الثقافي في جريدة الجمهورية، فكرت بإعداد زاوية في الصفحة الأخيرة بعنوان "صورة لها تاريخ"، تتناول في كل مرة صورة من صور الآثار العراقية المحفوظة في المتاحف الأجنبية، مع التعليق عليها حول أهميتها وتاريخها والمتحف الذي يحتفظ بها. ابتدأتُ بتنفيذ الفكرة من خلال المصادر والكتب المتوفرة، لكنني كنت بحاجة إلى صور أخرى، فقررت الاتصال بالمتحف العراقي أملا في الحصول منهم على بعض الصور. اتصلت تليفونيا فزودوني برقم قسم التصوير. اتصلت بقسم التصوير، وطلبت منهم صورا عن الآثار العراقية، فحدد لي المتحدث موعدا لاستلام الصور. ذهبت إلى المتحف العراقي مبكرا جدا. عند الدخول، وجدت نفسي كأنني امام قاعدة محصنة، وكأنهم في حالة انذار، في التدقيق وفي اغلاق الأبواب، وفي كل شيء، بل حتى العاملين في المتحف عليهم أن ينتظروا في قاعة خاصة للدخول. كنت جالسا في قاعة الانتظار، وفي تلك الأثناء مرّ من أمامي صديقي القديم في قسم الاثار، دوني جورج، سلَّم عليّ، ووقفنا قليلا، وأخبرني بأنه يعمل في المتحف، لكن كان عليه أن يلتحق بزملائه لابتداء الدوام، فغادر المكان.
في استعلامات المتحف وضّحت لهم بأني أطلب صورا كان المتحف قد وعدني بها، وأريد أن أذهب الى قسم التصوير لاستلامها. لم تكن تلك التحصينات التي شاهدتها إلا بداية للدخول الى زنزانات، أو أنا شعرت بأنها زنزانات، لشدة التحصينات والإجراءات. وهنا تتكرر الصدفة مرة أخرى، وأنا أبحث عن قسم التصوير، وإذا بصديقي القديم الجديد التقيه مرة أخرى. تحدثنا عن أيام الجامعة، ثم سألته عن قسم التصوير، فقال لي:
ـ أنت في قسم التصوير، ولكن لماذا أنت هنا؟
ـ أنا أتيت إلى قسم التصوير لأنهم وعدوني بتزويدي بصور من المتحف.
ـ أنت الذي أتصل بي طالبا الصور؟!
ـ نعم، وأنت الذي تكلم معي وأعطاني موعدا؟!
ـ نعم.
كانت مفاجأة لطيفة جدا، بقينا نضحك ونضحك نحن الاثنين من هذه الصدفة غير المتوقعة.
أطلعني جورج على الكثير من الصور، وقال لي خذ ما تشاء. فشكرته وحملت ما أردت منها. كنت اتذكره كلما أعد حلقة حول "صورة لها تاريخ"، من الصور التي زودني بها. الآن وبعد مرور أكثر من أربعين عاما، أود أن أقول لك ياصديقي دوني جورج، أيها المتفاني للحفاظ على موجودات المتحف العراقي، أشكرك على تعاونك ومساعدتك في الحصول على تلك الصور التي أحيت تلك الحلقات.
لقد كان قسم الآثار الذي تعلقتَ أنت به حد العشق سببا في تعارفنا، والتقيتك صدفة مرة أخرى في المتحف العراقي الذي افنيت حياتك من أجله فأفناك.
*)وحيدة المقدادي: مسؤول في المتحف العراقي لـ«الشرق الأوسط»: الأميركيون يعرضون علينا المال للسكوت على السرقات، صحيفة الشرق الأوسط، لندن، عدد 8930، 11 مايو (أيار) 2003.
958 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع