قصة : عادل شهاب الاسدي
هناك يورق البنفسج
هاهما الآن وبعد عناء يصلان مدينة (شتوتغارت) واحدة من أكبر عشرة مدن في ألمانيا . تشتهر بالصناعات التقنية والهندسية وتعد المدينة الوجه الجيد والمناسب لمن يريد أن يبدأ حياته في ألمانيا فهي مدينة متاحة للمهاجرين. هذا ما أوجزته سارة لجميل عن هذه المدينة التي لجأت إليها عائلتها واستقرت للعيش فيها.هو ذا العنوان بالضبط الذي حصلت عليه سارة من خالتها قبل أن تنوي المغادرة : ــ شارع رقم 9 منزل 107 حمدا لله ها أنا أصل بسلام .
اجتاحت جسدها رعشة وهي تتقدم بقلق نحو عتبة البيت .
- ما بكِ يا سارة ؟ سألها جميل وهو يلاحظ الارتباك والقلق باديين على محياها ..
-لا أعلم يا جميل ! .. شعور خفي ينتابني كيف سأواجه أمي , ربما لن تشفع لي كلمات الاعتذار والندم التي سأسوقها لها لقد غادرت وهي غير راضيةٍ عني لعدم امتثالي لرغبتها حينما دعتني لمرافقتها والسفر معها محذرة إياي من مغبة عنادي وتمسكي بأمين ،وها أنا أشعر بالخذلان والندم كيف سيكون شكلي حينما أقف بين يديها لا أعلم !..لا .!...
- دعكِ من هذه الوساوس يا سارة لا وقت للندم . الآباء لا يتخلون عن أبنائهم مهما كانت الأسباب هيا .. هيا تشجعي سأكون معك ..
ضغطت على زر الجرس المثبت إلى الجانب الأيسر من الباب وهي تضع يدها على قلبها :
- أوه ..أمي سامحيني اشتقت أليك كثيرا !.
غمرها شعور طافح بالفرح والطمأنينة وهي ترتمي بين أحضان أمها بعد أن أطلقت العنان لدموعها تغسل قلبها المعذب بما علق به من مرارة وقهر أيام ما كانت تصارع حياتها التي أشعلتها سميرة وزوجها بنيران الحقد والكراهية ومكنهما أمين بخذلانهِ لها لتتحول حياتها إلى حطام .. حكت سارة لأمها كل ما جرى لها مرورا برحلتها المحفوفة بالمخاطر وهي تعبر عباب البحر التي كانت مثل كابوسٍ مرعب كادت أن تودي بحياتها لولا عناية الرب !
والتفتت صوب جميل : - مَن هذا الشاب الذي أراه معك يا أبنتي ؟
- لم تخبريني عنه ؟ !
- آه أمي لقد شغلني فرح لقاءك .انه جميل البغدادي التقيته صدفة في تركيا كان يروم الهجرة أيضا عن طريق البحر . وقد كان خير رفيق لي انه شاب شهم وغيور. لولاه لكنت الآن طعما لأسماك القرش .
أطلقت ضحكة كأنها أنغام موسيقى رفَ لها قلب جميل كطائرٍ غريب يبحث عن مأوىً .. وعلت وجهه ابتسامة خجول !
- رد قائلا : ـ لا.. .. لم أفعل شيئا يستحق أنه واجبي ..
وأعقبَ : ـ سارة إنسانة رائعة تستحق ذلك وأكثر .
التفتت ألأم نحو سارة ورمقتها بنظرةٍ عرفت سارة ما تعنيهِ أمها من وراء تلك النظرة ( الأم سر بنتها ) ..هنأ جميل أم سارة بمناسبة وصول ابنتها سالمة متمنيا لها حياة مستقرة وآمنة .. مردفاً :ـ إن شئت سأكون معك لمساندتك في رسم حياتك من جديد.
قالت أم سارة وهي تهم بالنهوض : ـ لا شك أن الجوع يهرس بطونكم سأدخل المطبخ لأعدَ لكم الطعام .. قالت لجميل :
- عذراً ! أسمح لي دقائق
- تفضلي ..
التحقت سارة بأمها لتساعدها في إعداد الطعام :
- أمي كم اشتقت لطعامك !
- هيا ساعديني ! .. أمكِ لم تعد بتلك العافية .
- سلامتك .. أمي ..
ـ ماذا عندك يا سارة !
- جميل يا أمي ؟ ما به ؟.. ليس عنده مكان يأوي إليه
ـ وماذا يعني لكِ ؟
- لا يا أمي أقصد ..! كما تعلمين لقد وصلنا حديثا والبحث عن مكان يحتاج وقتا أرجو ..
قاطعتها أمها :
- آه .. فهمت .!..
- لا عليك سنتدبر له مكانا ..
- أين ؟ هنا عندنا ! .. قفزت سارة فرحة
بادرتها أمها وهي منهمكة بإعدادِ الطعام :
- سنهيئ له الملحق الذي يقع خلف البيت
- وهل هناك ملحق تابع ...؟
- نعم انه مرتب وهادئ ويطل على حديقة المنزل سيناسبه .. ريثما يجِد له سكنا بديلا .
- رائع .. شكرا لكِ ..
- ما نقدمه لجميل هو جزء من المعروف الذي طوقني به هذا الرجل الشهم .. لا تقلقي ..
-لا شك انه سيفرح بهذه المفاجأة !!
بعد تناول الغداء كانت سارة مع جميل يوضبان الملحق الذي سيسكن به ..
صفحة جديدة تنتظر سارة وجميل في مقدمتها مهمة البحث عن فرصة عملٍ لكليهما ..فجميل خريج الجامعة التكنولوجية قسم الهندسة التقنية وهذا ما سهل عليه عناء البحث الطويل فقد استطاع أن يحصل على وظيفة بصفة مهندس في احد مصانع المدينة فيما عملت سارة في أحدى الشركات وبمرتب مناسب . قال جميل :
ـ حمدا لله الآن لقد أمنا مستقبلهما الوظيفي ..
- نعم ..
أجابته سارة وهي تدفع بشعرها إلى الخلف وتلفه على شكل كرة ثم تثبته بمشبكٍ صغيرٍ فيما انتصب نهداها نافرين..
- كانت تلك معضلتنا الحقيقية .
أطلق تنهيدة وهو ينظر إلى السماء !
- ماذا هناك لِمَ تنظر هكذا إلى أعلى ؟.
فرد ممازحا إياها :
- هناك معضلة أهم
ثم رمقها بنظرة عميقة :
ـ تفهمين ما أعني..
سحبته من ذراعه !!
- هيا.. هيا لا تستبق الأحداث ..أمي بانتظارنا.
مرت الأيام والشهور وجميل يشاطرها تفاصيل حياتها وهي تتقدم نحو الأفضل فيما بدأت مغاليق قلبها بالانفتاح رويدا رويدا حتى شعرت بنسائم الأمل تدغدغ روحها المجدبة وتلطف أزهارها الذاوية .
يشعر أمين أن ستائر اليأس قد أسدلت على فصول حياته وقد أضحى كمدينة ميتة وموحشة عقب رحيل سارة وسفرها خارج البلاد وباتت آماله تتلاشى وتتبدد بعد أن امتلكت عقله وكيانه وان شعوره بالوحدة القاتلة ألقى عليه ظلالاً من القتامة والكآبة وكأن كل شيء بات مرهونا بعودتها.حتى صار يناجيها بعقل ممسوس وقلب كسير : ـ رسمك .. صوتك همساتك ..سكناتك هي ذا تملأ أرجاء البيت مذ رحلت يا سارة وكل شيء هنا ينطق بكِ لقد تهاوى البنفسج على تراب حديقتك في ميتة موحشة .. أي ندم يُلهِبُ روحي المعذبة وأي ذكرىً توقظ مباهج الأيام ؟ !
سنتان ونيف مضت على رحيل سارة و أمين يحاول جاهدا ان يتسقط أخبارها ولا سبيل لذلك سوى خالتها الوحيدة التي تعيش في منطقة قريبة منه كانت تطلعه ببعض ما يخص حياتها وهي في بلاد المهجر. ..
ينتاب جميل شعور بالسعادة وهو يسكن قرب سارة يجلس اليها يتجاذبون الأحاديث والآراء يخرجون معا للعمل ويعودون سوية في وقت واحد حتى بات يلازم كل منهما الآخر في البيت وخارجه ,بيد أن سارة لا تريد أن تخوض غمار تجربة ثانية كتلك التي سبقتها مع زوجها التي تركت في نفسها جراح لم تندمل بعد , دون أن تتأكد من حقيقة مشاعر جميل حيالها في وقت لا تخفي إعجابها الشديد به وبسلوكه المتزن والمسئول الذي لا ينفك ليفصح عنه . سوى أمها التي بدت معجبة بجميل وشهامته ,,وتعلقه البائن بابنتها جعلتها تحرض سارة على القبول بجميل وتحبب لها فكرة الارتباط به كزوج قبل فوات الأوان.
ذات مساء وهم مجتمعون على مائدة العشاء اعلن جميل وبشكل مفاجئ مصوبا نظره نحو سارة لقد اتخذت قرار المغادرة والسكن بمفردي . حصلت على بيت خاص بي , منحتني إياه الشركة التي أعمل بها
صُدِمت العائلة لسماع الخبر فقد كان يحسبونه سندا بعد أن اعتادوا وجوده بينهم . وجه كلامه بشكل مباشر لسارة :
- لم أعد أطيق الانتظار يا سارة إما أن تقبلي بي زوجاً !. أو أغادر إلى حيث لا عودة أنا احبك وأنت تعلمين !!.لم يدر بخلده انه سيقترن بامرأة تختلف ديانتها عن ديانته وهو الشاب المسلم فقد عرف انها مسيحية كلدانية ولكنه اسقط تلك الأعراف والمفاهيم من حساباته واضعا مشاعر الحب والإنسانية فوق كل اعتبار.
-عليكِ أن تختاري فالأمر متروك لكِ !!
بادرته ألأم : ـ سارة تحبك وأرجو أن تعذرها فأنت أدرى بما مرت وما قاست ..ثم سارعت ممسكة يده نعم يا بني ستقبل بكل تأكيد..!!
- أليس كذلك يا ابنتي ورمقتها أمها بنظرةٍ كانت كفيلة بقبول سارة بهذا العرض .فتبسمت بحياء .
- مبروك لنا قالها جميل وسرعان ما أخرج خاتما جميلا من جيبه ليودعه أصبعها وسط زغرودة فرح ملأت عنان البيت ..
الآن وقد أصبح كل شيء على ما يرام وهاهما الزوجان يعيشان تحت سقف واحد ويمكن لجميل أن يحضن سارة ويقبلها كل صباح ليطفئ لهيب اشتياقه. سعادة غامرة تسللت إلى حياتهما وأضحى كل شيء له طعم ومعنى, يذهبان معا إلى عملهما بسيارتهما الخاصة التي اشتراها جميل مؤخرا.. يبقى ينتظرها لحين انتهاء عملها..
تمر الأيام وجميل يزداد حبا وتعلقا بزوجته ويحرص على أن يحقق لها كل ألوان السعادة . الحنين إلى الماضي لا يعني أن تجربة فاشلة مرت بها بل هو حنين يملأ كيانها انه الاشتياق إلى بلدها ... لأيام صباها ,أصدقائها , مدينتها .. شوارعها , كل موطئ قدم لها فيها ذكرى وحنين !.. بلدها الذي تناهبته ويلات الحروب فهي تشعر بالغربة رغم الاستقرار الذي تحظى به فليس هناك حب يضاهي حب الأوطان ..!
شمس أخرى تشرق في حياة سارة وشمعة مضيئة أنارت حياتها , أمر لم يكن بالحسبان فبعد شهور ستصبح سارة أما !! رحماك يا رب !! الفرحة لم تسع الزوجان فباتا على أحر من الشوق يترقبان موعد مجيء مولودهما .
جلست سارة بجوار النافذة المطلة على حديقة المنزل. أزاحت ستارتها وأخذت تتأمل شجيراتها . تراءت لها شجرة البنفسج وكأنها ما فتأت تزدهي وتفوح عطرا يملأ أرجاء البيت , شرعت تقلب أوراق الماضي الذي ما برح يستوطن رأسها كحلم رمادي ثقيل .أخذت ترنو إلى السماء وهي تغرق بعالم فسيح من الضباب الندي . نثيث المطر المشبع برائحة الزهر أخذ ينزلق على زجاج النافذة فيما تلاحقت ندف ثلجية كثيفة لتشكل شيئا فشيئا ستارة سميكة فوقها!مشاعر دفيئة ملأت قلبها وهي تضم ابنتها إلى صدرها لتهبها الطمأنينة والحياة !
632 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع