سمير عبد الحميد
غدر البرامكة
كتب الدكتور مصطفى جواد- رحمه الله مقالا-في مجلة( الرسالة) المصرية سنة1934 بعنوان: نكبة البرامكة قال فيه:((لعل اغرب ما وهم فيه المؤرخون فعمي عليهم سبب تدمير الرشيد للبرامكة، انهم عدوا بني برمك دعاة للعلويين، ومذيعين لمذهب التشيع في البلاد.والمشكلة التاريخية اذا استبهم جانبا منها تشعبت فيها الظنون، واختلفت الاراء، واضطربت الاحكام.ولو علم المؤرخون ان البرامكة كانوا يتقربون الى الرشيد بالسعي على العلويين ،والسعي بهم وتبغيضهم، لوجدوا الى سبب تلك الفتكة الهاشمية سبيلا، ،ولعلموا بانهم لما حق عليهم العذاب ،دمرهم الله تدميرا.لم يكن استثارهم بالحكم وحده سبب هلاكهم ،ولا غزارة ثرائهم مدعاة الى النقمة عليهم ،ولا الزواج الذي اختلقته الشعوبية موجبا لأستأصالهم ،ولا الحادهم منبها على عقابهم ،وانما الندامة التي ندمها الرشيد بعد ان استدرجوه الى تشريد بني عمه العلويين، واستحلال دمائهم الزكية، وتعذيب الابرياء منهم العذاب الهون.لم يكن الرشيد ملحدا حتى لايندم،ولا بليدا حتى لاينتبه ،ولاشقيا حتى لايتوب ،ولا مقصرا حتى لا يتدارك.وقد ولغو في دماء بني علي وطلبوا الزلفى بتعذيبهم ،واعلوا مراتبهم بخفض العصبية الهاشمية واجتثاث الشجرة النبوية؟ولقد جرؤوا بالحادهم وسوء سيرتهم ان (جعفرهم) حز رأس حبيسه العلوي عبدالله الشهيد بن الافطس ،في يوم النوروز،واهداه الى الرشيد في طبق الهدايا،فلما رفعت المكبة من فوق الطبق ورأى الرشيد راس ابن عمه :استعظم ذلك ،فقال له جعفر :ما علمت ابلغ في سرورك من حمل راس عدوك وعدو ابائك اليك.وكان الرشيد قد حبسه عند جعفر وامره ان يوسع عليه ،فلم يجد هذا الشقي الكفاية الا بقتله صبرا، لاسيف معه يذود به عن نفسه،ولا بنو علي حوله يحوطونه، ويكلأنه ،ولاشفيع يرد عنه لؤم الزنادقة،وهو الذي شهد وقيعة (فخ) متقلدا سيفين ينفح عن حق كان يراه مبزوزا،فلما أسر اخذه الرشيد وحبسه عند جعفر، فضاق صدره بالحبس وكتب الى الرشيد رقعة: يشتمه فيها شتما قبيحا،فلم يلتفت الى ذلك لانه عالم بالعزة النبوية والاستبسال الهاشمي،ولم يأمرالا بالتوسيع عليه والترفيه عنه ،فكان من امره مع جعفر ماكان. وفي قصةابنه ( يحي بن عبد الله بن الحسن العلوي) مزيدا من سعة الرشيد في العطف والرعاية لرجالات اهل البيت العلوي، فمن امره: انه كان قد اختفى بعد وقعة فخ وظل متخفيا يدعو لنفسه -قبل خلافة الرشيد- حتى بايعه عدد كبير من الناس في كل مكان. فلما تولى الرشيد الخلافة فتش عنه وطلبه، فلجأ يحيى الى خاقان ملك الترك ثم رحل الى طبرستان ومنها الى الديلم وهناك اعلن عصيانه. وقد ارسل الرشيد اليه الفضل بن يحيى البرمكي فاستماله الى الصلح وكتب له شروط الامان بخط الرشيد هو ولسبعين رجلا من اعوانه ووجه الرشيد الجوائز والهدايا الى يحيى فالقى يحيى السلاح. وورد الفضل ومعه العلوي الى بغداد، فلقيه الرشيد بكل ما احب وامر له بمال وفير، واجرى عليه ارزاقا وافيا، وانزله ضيفا في قصر يحيى بن خالد البرمكي، ثم اعطاه قصرا خاصا وسمح للناس بزيارته والتسليم عليه. ان رعاية الرشيد لرجالات العلويين تشير الى عطف الرشيد ورافته وتسامحه معهم ومحبته لهم،يقول الرشيد:((يظنون باني ابغض علي بن ابي طالب ؟والله ما احب احدا حبي له.ولكن هؤلاء ،-يقصد العلويين الذين يعاصرونه ،اشد الناس بغضا لنا ،وطعنا علينا ،وسعيا في افساد ملكنا بعد ان اخذنا بثأرهم،ومساهمتنا اياهم ما حويناه ،حتى انهم لأميل لبني امية منهم الينا،فأما ولده لصلبه،اي ولد علي رضي الله عنه ،فهم سادة الاهل والسابقون الى الفضل.))وقد جاء في كتاب الاغاني :ان الشاعر منصور النمري مدحه مرة وثلب العلويين ،فضجر من ذلك ،وقال له :((ياابن اللخناء ،اتظن انك تتقرب الي بهجاء قوم ابوهم ابي ،ونسبهم نسبي ،وفرعهم واصلهم فرعي واصلي ))؟وكذلك لم يكن لهارون مسوغا لمعاداة رجالات العلويين ،فقد ورد عن الصدوق :ان الامام الكاظم كان يأمر الشيعة بطاعة السلاطين.ويقول:(( على كل حال، فان كانوا عدولا، فليسالوا الله ابقاءهم، وان كان جائرين، فليسالوا الله صلاحهم.)) كذلك قد ورد عن الصدوق بان الامام الكاظم كان منعزلا عن السياسة. وعدما دعا المامون الرضا لاستلام الخلافة منه، رفضها وقبل بولاية العهد، معترفا باحقية المأمون العباسي بالخلافة؟ قال بهاء الدين أبو الحسن على بن فخر الدين عيسى الاربلي الكردي في ترجمة الامام موسى بن جعفر: (( وكان السبب في قبض الرشيد على أبي الحسن - ع - وقتله ما ذكره أحمد بن عبيد الله بن عمار، عن على بن محمد النوفلى عن أبيه... عن مشايخهم قالوا : كان السبب فى أخذ موسى بن جعفر - ع - أن الرشيد جعل ابنه في حجر جعفر بن محمد بن الأشعث فحسده يحي بن خالد بن برمك على ذلك وقال : إن أفضت اليه الخلافة -اي الى الامين بن الرشيد- زالت دولتي ودولة ولدي ، فاحتال على جعفر بن محمد - وكان يقول بالأمامة - حتى داخله وأنس به ، فكان يكثر غشيانه في منزله، فيقف على أمره ويرفعه إلى الرشيد، و يزيد عليه في ذلك بما يقدح في قلبه ، ثم قال لبعض ثقاته : أتعرفون لى رجلا من آل أبي طالب ليس بواسع الحال يعرفني ما أحتاج اليه ، فدل على على بن اسماعيل بن جعفر بن محمد : فحمل اليه يحي بن خالد مالا ، وكان موسى - ع - يأنس بعلي ابن اسماعيل ويصله ويبره ، ثم أنفذ إليه يحيى بن خالد يرغبه في قصد الرشيد ويعده بالاحسان اليه ، فعمل على ذلك ، فأحس به موسى - ع - فدعا به وقال له الى أين يا ابن اخي ؟ ، قال إلى بغداد . قال وماتصنع ؟ قال على دين وانا معلق ، فقال له موسى : أنا أقضى دينك وأفعل لك واصنع. فلم يلتفت الى ذلك، وعمل على الخروج ،فاستدعاه ابو الحسن وقال له : أأنت خارج ؟ قال : نعم لابد لي من ذلك فقال له انظر يا ابن اخي واتق الله ولا تؤتم اطفالي، وامر له بثلثمائة دينار واربعة الاف درهم. فلما قام من بين يديه قال لمن حضره : والله ليسعين في دمي ويؤتمن أولادي . فقالوا : جعلنا فداءك ،أو أنت تعلم هذا من حاله وتعطيه وتصله ؟ قال نعم ، حدثني أبي عن آبائه عن رسول الله - ص - أن الرحم اذا قطعت فوصلت فقطعت قطعها الله ، وانى أردت أن أصله بعد قطعه ، حتى اذا قطعنى قطعه الله ، قالوا: فخرج على بن اسماعيل حتى أتى يحي ابن خالد فتعرف منه خبر موسى بن جعفر - ع - فرفعه الى الرشيد وسأله الرشيد عن عمه فسعى به إليه وقال له : إن الأموال تحمل إليه من المشرق والمغرب وأنه يسلم عليه بالخلافة ))ونظرا لكون الواشي هوابن اخ موسى الكاظم وهو احد وجهاء الاسرة العلوية اخذ هارون الامر بالاعتبار وامر يحيي بن خالد بالخروج على البريد ولايوافي بغداد الا وموسى معه ولما وافى بغداد . لم يودع ألإمام في الحبس مع عامة الناس، وإنما حبس في بيت الفضل بن الربيع – وهو احد كبار رجال الدولة- وكان موسعاً علية في المعيشة ، ولقاء العلماء، وكثيراّ ما يلتقي بالرشيد وتجري بينهما النقاشات والحوارات الدينية المعمّقة . اورد المسعودي في مروج الذهب ان الرشيد عفا عن الامام، وأطلق سراحه لرؤيا رآها في المنام.
فقال: إن عبد الله بن مالك الخزاعي كان على دار هارون الرشيد وشرطته، فقال: أتأني رسول الرشيد وقتاً ما جاءني فيه قط،، فانتزعني من موضعي ومنعني من تغيير ثيابي، فراعني ذلك، فلما صرت إلى الدار سبقني الخادم فعرف الرشيد خبري، فأذن لي في الدخول عليه فدخلت فوجدته قاعداً على فراشه فسلمت عليه فسكت ساعة، فطار عقلي وتضاعف الجزع علي، ثم قال: يا عبد الله أتدري لما طلبتك في هذا الوقت قلت: لا والله ياأمير المؤمنين، قال: إني رأيت الساعة في منامي كأن حبشياً قد أتاني ومعه حربة فقال: إن خليت عن موسى بن جعفر الساعة وإلا نحرتك بهذه الحربة، فاذهب فخل عنه، قال: فقلت: يا أمير المؤمنين، أطلق موسى بن جعفر ثلاثاً، قال: نعم امض الساعة حتى تطلق موسى بن جعفر، وأعطه ثلاثين ألف درهم، وقل له: إن أحببت المقام قِبَلنا فلك عندي ما تحب، وإن أحببت المضي إلى المدينة فالإذن في ذلك لك، قال: فمضيت إلى الحبس لأخرجه، فلما رآني موسى وثب إلي قائماً وظن أني قد أمرت فيه بمكروه، فقلت: لا تخف، فقد أمرني بإطلاقك وأن أدفع لك ثلاثين ألف درهم، وهو يقول لك إن أحببت المقام قِبَلنا، فلك كل ما تحب، وإن أحببت الانصراف إلى المدينة فالأمر في ذلك مطلق لك، وأعطيته ثلاثين ألف درهم، وخليت سبيله)). وخيّرهارون الامام بين المقام في بغداد بقربه معززاً مكرماً ، أو ان شاء عاد الى دياره في المدينة. ويبدو انه اختار البقاء في بغداد ولسبب ما، نقل الامام بعد فترة من الزمن الى بيت رئيس الشرطة ابن شاهك السندي وهو قائد شرطة هارون وعن كيفية معيشة الامام في بيت السندي ومنعا للشائعات حولها فقد اوردت كتب الكافي وبحار الأنوار والأمالي وتاريخ اليعقوبي وغيرها ان رئيس الشرطة ابن شاهك السندي خاطب المدعوين بقوله: يا هؤلاء انظروا إلى هذا الرجل- يقصد ألإمام- هل حدث به حدث؟ فإن الناس يزعمون أنه فُعِل به مكروه ويكثرون في ذلك، وهذا منزله وفراشه، موسع عليه غير مضيق، ولم يرد به أمير المؤمنين سوء، وإنما ينتظر به ان يقدم فيناظر أمير المؤمنين، وها هو ذا صحيح موسع عليه في كل شيء، فاسألوه. فقال (أي ألإمام): اما ما ذكر من التوسعة وما اشبهها فهو على ما ذكر. (يزعم زوراً بعض المغرضين والحاقدين على الخلافة، أنه سجن في قبو تحت الأرض وبلا فراش!! ولما توفي نظمت سلطات الخلافة مراسيم رسمية، تتيح لرجال عُدول وأعيان واشراف المجتمع، امكانية رؤية جثمان الامام، ليشهدوا على وفاته اولاً، وليشهدوا انه لم يتعرض في جسده الطاهر، لأي اثر من طعن او ضرب او خنق، أو جرح. إبراءً لذمة الخلافة في عدم مسّها الامام بسوء، ودحضاً للشائعات والتقولات التي انطلقت آنذاك. ؟عموما انقسم المؤرخون سبب وفات الامام. امثال الخطيب البغدادي وابن الجوزي وابن الأثير والذهبي وابن كثير وابن خلكان، انه مات في السجن ميتّة طبيعية حتف انفه (بأجله)، وأورد اليعقوبي والأصفهاني انه مات في السجن غير مسموم.
أمّا المسعودي فقد ذكر في مروج الذهب انه مات مسموماً خارج السجن، بعد ان كان حرّاً طليقاً في بغداد. ولم يحدد كيف تم سمّه، ومن الذي سمّه، ولماذا؟. واطلاق مثل هذا الخبر دون تعيين معيّن، يصعب التأكد من صحته. وربما يكون هذا الخبر نوع من التخمين والتكهن وترديد ماتناقلته الناس من الشائعات. لأن التحقق من مسألة السم ليس بالأمر المتاح، كما لايمكن اتهام مجهول، ولا معرفة السبب الذي يدفع أحد ما لتسميم الامام رحم الله الامام موسى الكاظم، ورحم الله هارون الرشيد، وغفر لهما وجمعهما في اعلى الجنان مع جدّيهما علي والعباس (رضي الله عنهم اجمعين))
2024
846 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع