الأستاذ الدكتور باسل يونس ذنون الخياط
أستاذ مُتمرِّس/ جامعة الموصل
عبد الجبار الجومرد وأبرز محطات حياته.. الجزء الرابع
ذكر محمد حديد أنه قد تم اخباره بالثورة مساء يوم الجمعة الموافق 1958/تموز/11 حيث كان موجوداً في الموصل بسبب وفاة والده واقامة مجلس الفاتحة هناك. وفي صبيحة يوم الرابع عشر من تموز علم عن طريق الراديو بأن الثورة قد اندلعت، فخرج إلى الشارع وخطب بالجماهير في الموصل.
وبعد الظهر اتصل به آمر الموقع (ناظم الطبقجلي) واخبره بأن قادة الثورة في بغداد يطلبون حضوره إلى بغداد، ووُضعت سيارة عسكرية تحت تصرفه وتم الاتصال بالدكتور (عبد الجبار الجومرد) أيضا، فتركا الموصل متوجهين إلى بغداد.
لقد كان الجومرد من المؤيدين لثورة 14 تموز، وقد لخص رأيه بفترة حكم نوري السعيد حيث يقول: " وهكذا دام حكم نوري السعيد، وحدث في عهده ما حدث من أمور يطول بحثها، وكلها آلام ومآس جعلت شخص نوري السعيد ورفيقه الوصي عبد الاله من أبغض الشخصيات السياسية لدى الشعب العراقي آنذاك وبعده".
مواقف مشهودة من الجومرد سمعتها منه:
• هناك حادثة حاول فيها نوري السعيد رئيس وزراء العهد الملكي، استثارة النائب الموصلي عبد الجبار الجومرد بالغمز إلى لقبه التركي التسمية عندما قال في سياق حديثه عن الجومرد: والجومرد كلمة تركية معناها (السخي)، فانبرى له الجومرد وهو الخطيب المفوّه والوطني العربي الغيور قائلاً: (أنا حملتها على محمل حسن، وشعرت بأنها دعابة بريئة عندما ذكر اسم عائلتي؛ ليس من العيب أن يقال أني من عائلة الجومرد، وفخامة رئيس الوزراء اعتقد أنه يعرف هذه، وكلمة جومرد لقب للجد التاسع ... أن قصده إلقاء اسم هذه العائلة وراء حدود العراق ... إن هذه العائلة لها في مدينة الموصل أربعمائة وخمسون سنة في المدينة فقط، وهذا الزمن الطويل يكفي أن يعطي الحقّ لها أن ترسل أحد أولادها ليكون خادماً للأمة تحت هذه القبة).
• بحدود سنة 1964 زار الموصل الرئيس العراقي عبد السلام عارف (1921-1966) ونزل في بيت صديقه المرحوم عبد الرحمن أرحيم في منطقة الجوسق، وعملوا مجلسا عند المساء وكان هناك عدد من الشخصيات في ذلك المجلس.
تحدث الرئيس عارف عن نيته بتشكيل حكومة كفاءات لحاجة البلد الماسة إلى هكذا حكومة، حيث كانت الحكومات السائدة آنذاك معظم وزرائها من العسكرين. وعند ذلك طلب البعض أن يستفيد من خبرات الدكتور عبد الجبار الجومرد، فقال الرئيس عارف: يا ريت يوافق، فقالوا له: فلنحاول معه.
اتصلوا بالجومرد الذي كان يسكن في الدواسة القريبة بالتلفون وطلبوا منه أن يتهيأ كي تأتي إليه سيارة لأخذه للقاء الرئيس. وبعد أن دخل الجومرد وكلام المجاملات قال له الرئيس عارف: الآن الوضع السياسي في العراق استقر وأريد أن أشكل حكومة كفاءات، فما رأيك؟ أجاب الجومرد: حسننا تفعل يا سيادة الرئيس.. فقال عبد السلام: أريد أن تكون وزيرا للخارجية، فاعتذر الجومرد بحجة المرض، فتدخل الحاضرون وضيقوا عليه الخناق فلم يجد له مخرج..(وكان رحمه الله سياسي مُحنك ذو عقلية مرنة ويستطيع الخروج من أي موقف صعب بسهولة). عندها التفت الى الرئيس عارف قائلا: ولماذا يا سيادة الرئيس وزيرا للخارجية؟ فأجاب الرئيس: انا أوافق لك على أي منصب تطلبه.. فقال الجومرد: نعم سأطلب منصب ولكن بشرط أن لا تزعل مني!! فقال الرئيس عارف: لا أزعل لأي منصب تطلبه حتى لو كان رئيس وزراء.. فقال الجومرد: لا العفو لا أطلب هكذا منصب.. بل أريد أن أكون رئيسا لأركان الجيش!!! وهنا تغير لون وجه الرئيس عارف وبدى عليه علامات الغضب وتفوه ببعض الكلمات ثم قال بانفعال: وأنت أش جابك على رئاسة أركان الجيش وأنت ما تعرف الـ (يس يم)؟؟ وهنا أجابه الجومرد بثقة: يا سيادة الرئيس قلتُ لك لا تزعل وقلتُ أنا أختار المنصب فوافقت.. أليس رئيس أركان الجيش منصب في الدولة العراقية؟ فأجاب عبد السلام: نعم منصب ولكنه خاص بالعسكرين، (وهنا بيت القصيد الذي اراد الجومرد أن يصله)، فقال الجومرد: يا سيادة الرئيس: لماذا حلال على العسكرين المناصب المدنية وحرام على المدنيين المناصب العسكرية؟!.. يا سيادة الرئيس وزير الصناعة عسكري ووزير التجارة عسكري ووزير ...عسكري. ثم تابع كلامه قائلا: يا سيادة الرئيس ماذا تريد أن تُشكِّل: حكومة أم دولة؟ فأجاب عبد السلام: وما الفرق؟ فأجاب: الفرق كبير يا سيادة الرئيس، تستطيع أن تُشكل حكومة بإصدار مرسوم جمهوري تُعيِّن فيه ضابط وزيرا للزراعة ونائب ضابط وزيرا للتجارة وخريج إعدادية وزيرا للخارجية وو.. فتكون حكومة تعترف بها الدول. أما إذا أردت تشكيل دولة فالدولة كيان خاص له سياقاته وأعرافه وقوانينه...وبحيث كل مواطن يعرف حقوقه وواجباته وما له وما عليه.. فأفحمه ومضى في طريقه لا تغريه الدنيا ومناصبها.
• كان نوري باشا السعيد يعاني الكثير من اعتراضات وتحديات المعارضة في مجلس النواب، وكان من قادة المعارضة الدكتور عبد الجبار الجومرد. في إحدى جلسات مجلس النواب انبرى الدكتور الجومرد يكيل النقد لحكومة نوري السعيد، وخاطب النواب قائلاً: "انظروا لهذا البلد، بلد هارون الرشيد والمأمون يوم أصبحت بغداد قبلة العالم، انظروا إلى ما آل إليه من الخراب والتخلف على يد هذه الحكومة القائمة"، فصفق نواب المعارضة له. بيد أن نوري السعيد وقف يرد عليه فقال: "يا حضرة النائب المحترم، نحن لم نتسلم العراق من يد هارون الرشيد والمأمون، بل تسلمناه من الوالي العثماني الذي رحل من بغداد خلال الحرب العظمى، تاركا هذا البلد لنا كما تراه".
• قصة سمعتها في صغري من الدكتور الجومرد، قال: في إحدى جلسات مجلس النواب شن النائب المرحوم محمد رضا الشبيبي (1889-1965) حملة شعواء على نوري باشا السعيد، وعند العصر زار الباشا بيت الشبيبي، وبعد كلام المجاملات عاتب الباشا الشبيبي على تهجمه عليه في مجلس النواب ثم قال له: اسمع يا شبيبي، إذا سقط هذا الحكم فستأتيكم حكومة تأخذ بناتكم من بيوتكم ولا تستطيعون أن تفتحوا فمكم.. وعندها تَرحَّم عليَّ.
مرت سنوات وسقط النظام الملكي وتسلم العساكر مقاليد الحكم في البلاد. وفي أحد الأيام جاءت مجموعة من مليشيات (المقاومة الشعبية) الى بيت الشبيبي وطلبوا ابنته الشابة، فخرج عليهم الشبيبي مرعوبا ليستطلع الخبر فوجدهم مصرين على طلب ابنته، فأدخلهم غرفة الاستقبال لكسب بعض الوقت واتصل بالتلفون بوزير الداخلية آنذاك عبد السلام عارف وقال له مستغيثا: دخيل الله الحقني أبو أحمد!! وبعد دقائق وصل عبد السلام عارف بيت الشبيبي مع قوة عسكرية وطرد المليشيات، عندها أخذ الشبيبي يترحم على نوري السعيد مما جعل عبد السلام عارف يصاب بالذهول، فقال له الشبيبي: هذا ما تكهن به نوري باشا حيث قال لي: سيأتون إلى بيوتكم ويأخذون نساءكم وأنتم صاغرون!!
• يذكر الدكتور إبراهيم العلاف أنه عندما كان الجومرد يعمل ( مديرا للشؤون السياسية في جامعة الدول العربية بالقاهرة سنة 1947 ) استلم برقية من عدن تقول أن الأمير امُحَنْدْ عبد الكريم الخطابي (1881-1963) الزعيم المغربي الكبير الذي قاوم الاستعمارين الإسباني والفرنسي، قد يصل بالباخرة التي كانت تقله من منفاه في ( جزيرة ريؤنيون ) التي قضى فيها منفيا عن بلاده نحو 21 سنة الى ميناء السويس .. فكّر الجومرد ووجد أنه من العار أن يمر الخطابي البطل بأرض الكنانة مكبلا بأغلال العدو الفرنسي ليُرسل الى بلد أجنبي محاطا بالقيود المُذلة.
هرع الجومرد إلى أصدقاءه من الشباب المصريين ليخبرهم بما فكّر فيه ليتفق معهم على خطة ليكون لجوء الخطابي وعيشه في مصر. استجابوا إلى طلبه واتصلوا بالخطابي وعرضوا عليه الفكرة فوافق بشرط أن توافق الحكومة المصرية.
قصد الدكتور الجومرد "مكتب المغرب العربي" في القاهرة حيث معقل فتيان الشمال الافريقي آنذاك وعلى رأسهم (الرئيس التونسي السابق) الحبيب بورقيبة (1903-2000) وعلال الفاسي (1910- 1974) وعبد الخالق الطريس (1910-1970)، ولما وصلت الباخرة (كانومبا) إلى مرفأ السويس مساء 30 أيار 1947 كان بانتظارها رجال رسميون ووفد دار المغرب وشباب مغربي، وطلب المستقبلين من الأمير الخطابي أن يستريح قليلا على اليابسة، فقبل النزول إلى مدينة السويس إذا كان ذلك لا يزعج حكومة مصر .
أسرع وفد من الشباب المغاربة الى القاهرة وهو يحمل فكرة الدكتور الجومرد بأن تقبل مصر لجوء الامير الخطابي إليها. وفي القاهرة فوتحت الحكومة المصرية بالأمر فوافقت.
رست الباخرة في بور سعيد ليلة 31 إيار وفي صباح نزل الأمير امُحَنْدْ عبد الكريم الخطابي زعيم حركة الريف الشهيرة التحررية وشقيقه وبعض من كان يرافقه الى البر واستقلوا سيارة خاصة وتوجهوا الى مقر (محافظ القنال) يواكبهم الشباب العروبي وهم محتفين بالبطل. وهكذا كانت قصة التجاء بطل الريف إلى حمى أرض الكنانة وكل ذلك كان بفضل الدكتور عبد الجبار الجومرد الذي كان يخشى على الخطابي من أن يُنقل الى مكان آخر لا يعرفون فيه قيمته ودوره الوطني والقومي. وقد بقي الأمير امُحَنْدْ عبد الكريم الخطابي في القاهرة منذ سنة 1947 حتى وفاته في 6 شباط -فبراير سنة 1963.
718 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع