عبد الجبار الجومرد وأبرز محطات حياته.. الجزء خامس

الأستاذ الدكتور باسل يونس ذنون الخياط
أستاذ مُتمرِّس/ جامعة الموصل



عبد الجبار الجومرد وأبرز محطات حياته.. الجزء خامس

لقد كانت تربط الدكتور عبد الجبار الجومرد علاقة طيبة برجل الأعمال الناجح عبد الرحمن السيد محمود، والمعروف أيضا باسم عبد الرحمن ABC. وكان عبد الرحمن السيد محمود يدعم الجومرد ومحمد حديد في الانتخابات في العهد الملكي.

وعبد الرحمن ABC مؤسس محلات (ABC) في منطقة السرجخانة في الموصل والتي اشتهرت ببضائعها الراقية من منسوجات وملابس مستوردة، وكان لديه وكالات عالمية منها ساعات اوميگا وعطور الشبراويشي. كما دخل عبد الرحمن ABC عالم الصناعة، ومن أبرز ما قام به مساهمته الكبيرة في (شركة صناعات الشمال للمشروبات الغازية)، والتي كان لها معمل كبير في الموصل هو ( معمل الكوكا كولا ) في محلة الشفاء، والذي أصبح بعد تأميمه سنة 1964 معمل السجاد اليدوي.

من القصص التي سمعتها من الدكتور عبد الجبار الجومرد أنه بعد أن استلم منصب وزير الخارجية جاءه إلى مكتبه شخص لا سابق معرفة له به وطلب مقابلته. وبعد دخوله إلى مكتب الجومرد تبين له أنه من حاشية العائلة المالكة.

أخذ الشخص يشيد بالجومرد وبأصالته ثم قال له: عندي سر لا أجد شخص أفضل منك لكي أبوح لك به. فقال له الجومرد: تفضل.. فقال الشخص: هناك طفل من العائلة المالكة لا يزال حيا ونريد إخراجه إلى الأردن!

قال الجومرد: كان الموضوع حساس جدا ومن المجازفة الخوض في هكذا موضوع في تلك الأيام العصيبة بعد إبادة العائلة المالكة. ألح الشخص على الجومرد بفعل شيء تجاه ذلك الطفل البريء، فوعده الجومرد بالمحاولة وأخذ رقم هاتفه.


ذهب الجومرد إلى رئيس الوزراء عبد الكريم قاسم وقابله وأخذ يشحن به بوصفه قائد الثورة ويُذكره بنابليون وأمثاله من قادة الثورات ومواقفهم الجليلة التي خلدها التاريخ. عندها قال له الزعيم: قل لي ما بجعبتك؟ فحكى له الجومرد قصة الطفل البريء. تردد الزعيم لكي لا يكون هذا الموضوع نقطة ضعف له أمام رفاقه قادة الثورة. فشحنه الجومرد وقال له: أنت القائد والكلمة العليا هي كلمتك.


عندها اتصل الزعيم بأحد حاشيته المقربين وطلب منه تهيئة سيارة وأوراق رسمية لنقل شخص من بغداد إلى السعودية ثم إلى الأردن لتجنب الشبهات، وفعلا هذا الذي كان.

بعد خروج الجومرد من الوزارة وعودته إلى الموصل تعرض إلى مضايقات من جهات مختلفة، وكان المرحوم والدي يقوم ببعض الإجراءات لحجب رؤيته عندما كان يزور محل والدي في شارع غازي، منها كان يفتح باب مرآة المحل التي كان يجلس خلفها الجومرد.

وبعد ثورة الشوّاف 1959 زادت المضايقات على الجومرد، فذهب إلى موقع الموصل في محلة الطيران وقابل آمر الموقع العقيد حسن عبود وطلب الاتصال من عنده بالتلفون بعد الكريم قاسم. تكلم الجومرد بإنفعال مع الزعيم وسأله: هل هناك شبهه بي؟ فأجاب الزعيم: أبدا، وطيب الزعيم خاطر الجومرد ثم قال له أعطيني حسن عبود. فتكلم الزعيم مع حسن عبود بقوة وحمّله مسؤولية حمايته.

عبد الجبار الجومرد والشِّعر الشعبي الموصلي:
من الآثار الجميلة التي تركها عبد الجبار الجومرد بعض القصائد الشعبية باللهجة الموصلية والتي تحمل في طياتها نفحات سياسية انتقادية.

يقول الجومرد في مطلع قصيدة شعبية:
وركي حزيطه هلهلي ... كن جاكي وفد الموصلِ
أطولهم قاسم أغا ... أقصرهم ملّا علي
أحلفلك بعيسى دده ...و(خاتون خوقة) ومرقدا
البك حساوي ينكغي ...والغشمي مالو مطققه

و (حزيطه) هو لفظ آرامي بمعنى (مسكينة)، أما (خاتون خوقة) فهي شخصية نسائية موصلية حقيقية كانت يُضرب بها المثَل، وقد تحدث عنها العديد من مؤرخي الموصل، منهم الدكتور إبراهيم العلاف والدكتور حازم البكري.


وكما هو واضح من القصيدة فإن الشاعر يستهزئ ب (وفد الموصلِ) آنذاك في العهد الملكي، حيث شبه الشاعر رئيس الوفد (البك) بأنه (حساوي ينكغي ...والغشمي مالو مطققه).

والحساوي هو حمار أبيض كان يُؤجّر (ينكغي) ويستخدم لنقل الأغراض. و (الغشمي) هي رباط الحمار المصنوع من الجلد، وهي تُحزّم رقبة الحيوان وتُربط بمقدمة الوجه. ويصف الشاعر تلك (الغشمي) بأنها (مطققه)، أي مزركشة بالخيوط الملونة وبها طقاقات وبالألوان لتزين وجه الحيوان.

وكتب الدكتور الجومرد قصيدة رائعة مزج فيها اللغة الفصحى وبالعامية، وتحكي القصيدة قصة شاب يخطب فتاة اسمها (سعاد) لتبدأ معركة حامية الوطيس بينه وبين حماته.

لقد رسم الدكتور الجومرد من خلال هذه القصيدة لوحة فنية رائعة بواسطة قلمه المشهود له لتُظهر معاناة شبابنا وهم يخوضون (معركة الخطوبة والزواج).

قصيدة (أنا وحماتي):
ألا فاصغي لما فعلتْ حماتي .. بأول غزوتي كَسَرت عصاتي
خطبتُ سعادَ ابنتها فقالت: .. على عيني ورأسي يا أغاتي
ستأخذُ (غادةً) كالبدر حسناً .. فلا تكُ باخلاً بالمَصرُفاتِ
أبوها تاجر وكذا أخوها .. وظيفته بإحدى الدائراتِ
فقلت لها اطلبي شيئا قليلا .. لأني لستُ مُثْرٍ يا حماتي
وهذا الدهر يظلمُ كل حرٍّ .. أديبٍ فاز في حسن الصفاتِ
فقالت بعد أن جلست رويداً .. وحركت الشفاهَ الهادلاتِ
بأنفٍ مثلِ باسطون الأفندي .. لفائفُ رأسهِ متعرجاتِ
أريد مُخَشخَشاً وأريد حجلاً .. وگرداناتِ تبرٍ فاخراتِ
وقرطينٍ من الذهب المصفى .. أساور في الزنود مكملاتِ
وللحمًام أكياساً وليفاً .. وقبقاباً أريدُ ودوشماتِ
وقندرتانِ رَنگَ اللحمِ شرطاً .. عَمَلْ نيناس أفندي القوندراتي
ومرآةً لتنظرَ فيها حُسناً .. وأمشطةً جميلةَ زخرفاتِ
وداراً فيها أروقةٌ ضِخامٌ .. بها غرفٌ تَدَعْها زائداتِ
وفرش الأرض لا تنسى فاني ... أريد لها طنافس لامعاتِ
تعيشُ بلا أبٍ وبغيرِ أُمٍ .. ولا تدعو لسُكناها الخواتِ
وآخرُ ما أقول وذاك سهلٌ .. مئةْ وخمسين من صُفر الليراتِ
صرختُ بها وقد طارت جيوبي .. من الإفلاسِ وانشقت عباتي
أبنتَ الناسِ هل هذي شروطٌ .. على مثلي تُطبق يا حماتي؟!
فقالت: خشْ وطَمامي تَطْمَّكْ .. زواج البنت أصعبُ من مماتي
وإن تأبى أزوجها لقومٍ .. لهم في البنگِ آلاف الشيكاتِ
ولو أوتيتُ عمراً ألف عامٍ .. لما اخترتُ التأهل في حياتي
فمن رام الزواج يكن أميناً .. بأن الشرطَ ما قالت حماتي

رحم الله الدكتور الجومرد ورحم أمهاتنا وحمواتنا، وأعان الله شبابنا وشاباتنا الذين يطمحون في بناء (عش الزوجية) والدخول في (القفص الذهبي).

وهكذا تنتهي قصة الدكتور عبد الجبار الجومرد الشخصية الوطنية العراقية متعددة المواهب والذي نبغ وجذب الأضواء منذ نعومة أضفاره، وبرز في الخطابة والشٍّعر الفصيح والشعبي والتمثيل والرياضة وكرة القدم، وعمل في عوالم المحاماة والتأريخ والسياسة، وترك آثارا طيبة في كل مجال عمل به؛ ومع كل هذا لم يكن محظوظا لينال الموقع الذي يستحقه مع تعدد كل هذه المواهب.

من باب الوفاء للدكتور عبد الجبار الجومرد أقترح تسمية أحد الشوارع في مدينة الموصل باسمة، وبخاصة في منطقة الدواسة التي سكنها؛ أو في حي الجوسق والذي لا يزال بيته شامخا فيه.

(مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ ۖ فَمِنْهُم مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ ۖ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا) (الأحزاب: 23).

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

1468 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع