بقلم احمد فخري
رواية (صانع المعجزات) - الجزء الثاني
من لم يتسنى له الاطلاع على الجزء الاول فبامكانه مراجعته من خلال هذا الرابط
https://algardenia.com/maqalat/63715-2024-06-07-10-47-33.html
في الجزء الاول: وقف ريان امام بيت صديقه عمر وضغط على جرس الباب فخرجت له خادمة المنزل سألها،
ريان : انا اسمي ريان ابحث عن عمر. الا ناديته يا اختي؟
الخادمة : لحظة واحدة لو سمحت.
تركته ودخلت البيت. وبعد قليل خرجت سيدة خمسينية تعرف على ملامحها جيداً قال،
ريان : مرحباً يا خالة، جئت لازوركم بعد خروجي من السجن. هل عمر موجود في الدار؟
بدأت ام عمر تبكي وتحاول مسح دموعها بيدها ثم احتظنت ريان فابتل كتفه قالت،
ام عمر : لقد رحل عمر يا ريان. رحل صديقك بعد آخر زيارة زرناها لك في السجن. اشتد عليه المرض وصار لا يخرج من الدار ابداً. كان يراوح ما بين الوعي واللا وعي حتى دخل في غيبوبة طويلة ثم لفظ انفاسه وودع الحياة. كان المرحوم يؤمن ببرائتك بثقة كبيرة ويكرر مراراً وتكراراً يقول، "لقد اتهموا صديقي المسكين ظلماً وعدواناً، ففقد مستقبله بسبب اولئك السفلة الذين ادخلوه السجن. ليتني استطيع رؤيته للمرة الاخيرة فاودعه قبل ان أرحل من هذه الدنيا". والآن رحل عمر يا ريان وهو ينطق باسمك لانه كان يحبك حباً جماً.
صار ريان يبكي بحرقة وبالم شديد، فصديقه كان مصدر الامل الاخير الذي تمسك به اثناء فترة محكوميته بالسجن. ولما سمع كلمات امه تأثر بها بشكل كبير فصديقه لم يشك يوماً ببرائته. ولكن كيف يرحل ويتركه وحيداً في هذه الدنيا؟ كيف يبقى بلا سند؟ اوف يا حظي السيء، لقد عدت ثانية وطعنتني من الخلف. انتهت آمالي واحلامي وتطلعاتي للمستقبل. انا الآن منبوذ، بلا صديق، بلا شهادة، بلا مأوى، وفوق كل هذا وذاك، انا لا املك درهماً واحداً بجيبي. جلس ريان على الارض يجهش بالبكاء فاقتربت منه ام عمر وسألته،
ام عمر : متى خرجت من السجن يا بني؟
مسح دموعه واجاب،
ريان : اليوم فقط يا خالتي. خرجت هذا الصباح.
ام عمر : هل زرت بيت عمك؟
ريان : اجل. وليتني لم ازرهم.
ام عمر : إذاً خبّروك بانهم زوجوا اختك خلود لرجل مسن بعمر جدها اليس كذلك؟
ريان : اجل وقد زرت خلود كذلك في بيتها قبل ان اتي الى هنا.
ام عمر : سمعت انها ولدت حديثاً.
ريان : نعم انجبت طفلة اسمتها سولاف.
ام عمر : وهل ستسكن ببيت عمك الآن يا ريان؟
ريان : كلا، لقد طردني عمي وزوجته من بيتهم ونعتوني باقسى الصفات. بعدها زرت اختي فشعرت ان زوجها لا يرغب باقامتي معهم.
ام عمر : انت سوف لن تقيم الا ببيت اخوك عمر انه هو الذي اوصاني بذلك قبل ان يموت وقال بانك ستبقى بغرفته وهذا امر لا يقبل النقاش.
ريان : ولكن يا خالتي انا...
قاطعته بحزم وقالت،
ام عمر : لو كان عمر على قيد الحياة، لاصر على بقائك معنا. انت تعلم ان البيت كبير ولا يسكنه احد سواي انا والخادمة گوطة.
ريان : خادمتك اسمها گوطة؟
ابتسمت ام عمر ومسحت دموعها ثم قالت،
ام عمر : المرحوم عمر منحها ذلك اللقب فاصبحنا نسميها گوطة لكن اسمها الحقيقي هو فاطمة. انت تعرفه كيف كان يتحلى بروح النكتة والمرح الدائم.
ريان : ربما سابقى عندكم بضعة ايام فقط حتى اجد لنفسي مسكناً بمفردي.
ام عمر : ادخل الآن يا ولدي ورتب امورك في غرفة صديقك بالطابق العلوي فملابس عمر كلها لا تزال بداخل الدولاب وانتم كنتم تتبادلون اوعيتكم في السابق. هيا اصعد يا بني.
دخل ريان الغرفة والحزن يعصر قلبه. كل شيء من حوله يذكره بعمر لكن صديقه العزيز وتوأم روحه قد رحل الآن. كم من مرة وقف الى جانبه وسانده عندما كان يستخف به الزملاء بالمدرسة! كم من مرة كان يمده بالمال لان زوجة عمه منعت عنه المصروف! اجل رحل ولم يتمكن من توديعه، واحسرتاه يا عمر ذهبت وتركتني وحدي. صار ريان يتفحص الصورة التي وضعت فوق الطاولة وفيها جلس عمر الى جانبه على اريكة خشبية في حديقة الامة. سحب احدى الادراج فوجد ملابس فيها. اخذ واحداً منها وقميصاً نظيفاً مع باقي حوائجه الاخرى ثم دخل الحمام لينعم برذاذ الدوش الساخن الذي راح يغسل به همومه ويجرف عنه الايام المرة التي فقد فيها حريته بداخل السجن. صار يفكر بسريرته ويشجع نفسه ليدب الامل بقلبه يقول، "يجب ان لا ادع تلك الفترة السوداء تمر سدىً، يجب ان اسير قدماً الى الامام كي ارسم لنفسي مستقبلاً وان لا اظل انحب وابكي على ماضٍ لم يكن لي يد في رسمه. ساكبر وساقوى وسيقسى قلبي وستخرج لي مخالب جارحة ادسها بجسد اعدائي واولهم مثنى الحقير الذي لفق لي التهمة وجعلني اخسر كل شيء. انا الآن حر طليق ولدي صديق حميم لن يخونني ولن يطعنني من الخلف ابداً. انه صديقي الجديد، الحاسوب الذي عثر علي وعثرت عليه بعد غياب طويل. يجب ان اجد طريقة اتمكن من خلالها استغلال ما تعلمته من صديقي صالح زميل السجن كي اعيش عيشة شريفة حرة كريمة بعيدة عن الاشرار. لكن الامر لا يمكن ان يقف عند ذلك الحد ابداً. يجب ان استمر باثراء خزيني من المعلومات عن هذا العملاق الجبار. فما تعلمته من صالح بالرغم من انه كان رائعاً لكنه لا يكفي. اريد ان اعرف كل شاردة وواردة لذلك المارد الجبار". خرج من الحمام فنادت عليه ام عمر من الاسفل وقالت،
ام عمر : هل وجدت كل شيء على ما يرام يا ولدي؟
ريان : اجل يا خالتي. كل شيء على ما يرام، لا تقلقي.
ام عمر : انا على يقين بانك جائع يا بني. انزل لاعمل لك لقمة تأكلها.
ريان : كلا يا خالتي لقد تناولت شطيرة شاورمة قبل مجيئي اليك.
ام عمر : إذاً خذ قسطاً من الراحة وساراك غداً.
ريان : سافعل يا خالتي.
وضع ريان رأسه على المخدة فغاص بدنيا الاحلام في غضون ثوانٍ ليجد نفسه ينجرف في ماء اسود نتن يجري في سيلان مدمر وهو غير قادر على السباحة فيه فيغطس تارة ويخرج تارة اخرى. يظل السيل ينقله من مكان لآخر لتتلاطمه الامواج دون ان يستقر او يكِنّ. فجأة سمع صوتاً ناعماً يقول له،
گوطة : استيقظ يا سيدي.
فتح عينيه فوجد الخادمة گوطة واقفة امامه قال،
ريان : نادني ريان وحسب يا گوطة. نعم لقد استيقظت الآن شكراً.
گوطة : تقول لك عمتي، انزل وتناول افطارك.
ريان : ايعقل ذلك؟ هل غلبني النوم كل هذا الوقت؟ يا الهي ربما لبثت 15 ساعة او اكثر. حسناً يا گوطة قولي لها انني آت.
نزل ريان وحيا ام عمر ليجلس الى جانبها ويتناول وجبة الافطار فسألته،
ام عمر : ما هي خطتك اليوم وما هي مخططاتك للمستقبل يا ولدي؟ يجب ان تفكر ملياً في مستقبلك وماذا ستفعل وكيف ستعيش حياتك لا ان تظل تبكي على الماضي.
ريان : بما انني تلقيت دروساً مكثفة في علم الحاسوب بالفترة الاولى من محكوميتي من احد رفاق السجن واصبحت اتعامل مع الحاسوب بشكل جيد فقد قررت ان اجد عملاً لدى احدى ورشات التصليح للحواسيب. بعدها ساحاول ان ادرس بالمسائي كي اواصل دراستي وادخل الجامعة.
ام عمر : لا، انا لا اوافقك على الشطر الاول من مخططك. اسمع مني يا ابني. ساقوم بمدك بالمال الكافي كي تفتح ورشتك الخاصة بك وسنقتسم الربح انا وانت مهما كان حجمه. بامكانك ان تبقى عندي هنا، فبيتي هو بيتك وهو كبير اسكن فيه وحدي مع گوطة.
ريان : لا اعرف ماذا اقول لك يا خالتي. انت قدمت لي حلاً ينقذني ويغمرني بالامل. شكراً جزيلاً خالتي.
ام عمر : لا تقل شيئاً فانا انظر اليك مثلما انظر للمرحوم ابني. هيا يا ولدي تهيأ وابدأ يومك الاول بعد ان نلت الحرية. اخرج واسعى فالله يحب من يسعى.
ريان : اولاً ساذهب الى شارع المتنبي كي ابحث عن بعض الكتب التي ستعينني ببعض المعلومات التي ما زالت تنقصني ثم اعود لابحث عن سمسار قد يساعدني في البحث عن دكان صغير يصلح لاحوله الى ورشة للمشروع.
ام عمر : وفقك الله يا ولدي.
قالتها ووضعت بعض النقود في جيب قميصه العلوي. خرج ريان من بيت ام عمر يحفوه الامل لان الله اوقف معه اناس في محنته يصفّون الى جانبه، يشدون من ازره ويعينوه على خوض الشدائد. ركب الحافلة فاخذته الى شارع الرشيد. نزل من الحافلة وسار على قدميه باتجاه شارع المتنبي. كان كل ما خطى خطوة باتجاه ذلك الشارع العريق، ازدادت ضربات قلبه وتسارع ايقاعها. كان يشعر وكأنه طفل صغير يذهب الى دكان حلوى، فنهمه نحو العلم كان لا يخبو ابداً. وصل بداية الشارع فراح ينظر الى شباك المكتبة الاولى ليدخلها ويسأل عن كتب الحاسوب فاخبره صاحبها بانه لا يملك كتباً من هذا النوع لانه متخصص بالادب ودواوين الشعر. خرج من تلك المكتبة ودخل مكتبة ثانية فوجد القليل من كتب الحاسوب لكنها قديمة عفى عنها الزمن ولم تكن تغطي المواضيع التي يبحث عنها. دخل المكتبة الثالثة والرابعة والخامسة وبقي يبحث ويبحث حتى وصل الى مكتبة كبيرة حملت فوقها يافطة مخطوط فوق بابها (مكتبة النهضة الجديدة) دخلها ولم يكن مستبشراً في العثور على ضالته. لكنه عندما صار بقلبها رأى رجلاً في عقده السادس ارتسمت على وجهه بسمة عريضة رحب به وقال،
صاحب المكتبة : اهلاً وسهلاً بك يا ولدي. كيف استطيع مساعدتك؟
ريان : انا ابحث عن كتب تتحدث عن البروتوكولات.
صاحب المكتبة : لدي تسعة كتب عن بروتوكولات حكام صهيون.
ريان : لا، لا، كنت اريد ان اقرأ عن بروتوكولات الانترنيت سيدي.
صاحب المكتبة : إذاً اذهب الى مؤخرة المحل وانحرف يساراً ستجد قسم الخوارزميات وعلم الحاسوب هناك. لدي تشكيلة كبيرة وحديثة منها.
ريان : شكراً جزيلاً.
ذهب ريان الى المكان الذي اشار اليه وصار يتفحص الرفوف التي اكتظت بكتب الكومبيوتر فاثارت اهتمامه العناوين التالية،
1 بروتوكول الانترنيت بالتفصيل العملي.
2 داخل الجهاز: مقدمة مصورة للمعالجات الدقيقة وهندسة
الكمبيوتر.
3 المعالجات المكروية تحت المجهر.
4 ترقية أجهزة الكمبيوتر وإصلاحها.
5 فهم العالم الرقمي والتجسس السبراني.
6 الهواتف الذكية وبرمجتها بلغة الـ C والـ C شارپ.
7 اساليب تصليح الهواتف الذكية وفهم انظمة تشغيلها.
انتاب ريان حماس كبير وصار قلبه يخفق 130 ضربة بالدقيقة راح يتفحص تلك العناوين الدسمة ويقلب اوراقها. فجأة رأى صاحب المكتبة يأتيه من الخلف ليسأله،
صاحب المكتبة : هل وجدت ما كنت تبحث عنه؟
ريان : اجل سيدي. هناك الكثير من الكتب التي اود اقتنائها. انها تماماً ما كنت ابحث عنه.
صاحب المكتبة : اشر إليّ عن اي كتاب تريده وسوف اعطيك ثمنه.
مد ريان يده وصار يخرج الكتب السبعة التي اثارت اعجابه من الرفوف قال،
ريان : اريد هذه الكتب السبعة سيدي.
سلمه الكتب السبعة فنظر اليها ثم قال،
صاحب المكتبة : لحظة واحدة، دعني احصي لك ثمنها.
راح يضرب على آلة حاسبة صغيرة اخرجها من جيبه ثم قال،
صاحب المكتبة : المجموع 14000 دينار. ساعمل لك خصم خاص بامكانك ان تدفع فقط 12000.
اخرج ريان حزمة المال من جيب قميصه وعدها ثم قال،
ريان : واحسرتاه، لدي 10000 فقط سيدي.
صاحب المكتبة : إذاً اترك واحداً منها وساحتفظ لك به حتى تعود في المرة القادمة.
ريان : انا موافق.
حمل صاحب المكتبة الكتب الستة فتبعه ريان حتى وصلا الى مدخل المكتبة وبدأ يضرب على الآلة المحصلة. دفع له ريان المبلغ فسلمه وصل ورقي بالمبلغ. وقبل ان يعطيه حزمة الكتب سأله،
صاحب المكتبة : كيف اصبح لك كل هذا الشغف نحو علم الحاسوب يا ترى؟
ريان : لقد كنت في السجن سيدي والتقيت هناك برجل طيب قام بتدريسي ذلك العلم ثم رحل بعد فترة وجيزة ليتركني وحدي. والآن اريد ان اثري معلوماتي اكثر.
صاحب المكتبة : هل لي باسم ذلك الشخص؟
ريان : انا آسف، لا يمكنني ان اخبرك باسمه. فذلك امر شخصي.
صاحب المكتبة : ربما كان اسمه صالح الخميسي؟
ريان : اجل، اجل، يا الهي، كيف عرفت ذلك؟ هل تعرفه؟
صاحب المكتبة : صالح الخميسي هو ابن عمي. فبعد ان خرج من السجن زارني هنا بالمكتبة وشرب عندي الشاي ثم سافر الى البصرة ليبقى مع والدته المريضة. بعد فترة قصيرة من رجوعه توفت والدته فهاجر الى هولندا.
ريان : يا الهي، لا اصدق ذلك. كيف بعثني القدر الى محلك وانا مدان بكل ما اعرف لابن عمك صالح؟ انه امر غريب جداً.
صاحب المكتبة : بالحقيقة نحن الصابئة عددنا قليل، والكل منا يعرف الكل. انتظر هنا لحظة واحدة لو سمحت. ارجوك لا تغادر قبل ان ارجع.
ريان : حسناً.
وقف ريان يتفحص الكتب التي اقتناها للتو بينما دخل صاحب المكتبة الى قلب المحل من جديد ثم عاد وبيده الكتاب السابع قال،
صاحب المكتبة : ارجو ان تقبل مني هذه الهدية المتواضعة.
ريان : لا، لا يمكن ان اقبلها كهدية. ساحضر لك ثمنها فيما بعد.
صاحب المكتبة : لا ابداً ارجوك. ارجوك انا سعيد لانك ملأت قلبي بالفخر والاعتزاز عندما تحدثت عن ابن عمي. اتوسل اليك ان تقبلها مني فهي هدية لك بكل حب.
ريان : شكراً لك يا عمي. انها اكثر هدية فرحت بها في حياتي. ولكن دعني اسألك، هل لديك عنوان صالح بهولندا؟
صاحب المكتبة : لدي عنوانه الالكتروني، ساكتبه لك.
اخرج ورقة صغيرة ودون عليها عنوان صالح واعطاها لريان. امسك بها ريان وقبّلها ثم طواها ووضعها بجيب قميصه. نظر الى صاحب المكتبة وقال،
ريان : طاب يومك سيدي. وشكراً لك مرة اخرى على الهدية.
صاحب المكتبة : رافقتك السلامة يا ولدي. تعال وزرني مرة اخرى.
خرج ريان من المكتبة وهو في غاية السعادة، عاد الى البيت ثم وضع الكتب السبعة في الغرفة وهم بالخروج فجابهته ام عمر اثناء دخولها البيت، حياها فسألته،
ام عمر : هل وجدت سمساراً يا ولدي؟
ريان : كلا يا خالتي، لقد عدت للتو من شارع المتنبي بعد ان اشتريت بعض الكتب التي ساحتاجها في عملي. لكنك لن تصدّقي ما حدث هناك.
راح يقص عليها كيف تعرف على صاحب المكتبة الذي كان بالصدفة ابن عم الشخص الذي لقنه علم الكومبيوتر في السجن.
ام عمر : ان الله يبعث اليك اناس يدعموك ويقفون الى جانبك دائماً لانك انسان طيب وصادق ونزيه. والآن اسمع مني جيداً، انا قمت بشيء قد يساعدك في مسعاك. فقد وجدت لك سمساراً جيداً كان المرحوم زوجي يتعامل معه كثيراً. وقد عثر لك هذا السمسار على محل تجاري بالقرب من مكتبه في شارع 52 بالكرادة الشرقية بثمن مناسب، ما رأيك؟
ريان : هذا امر مفرح جداً، ولكن هل اخبرك بالايجار؟
ام عمر : يقول ان ايجاره 350 الف دينار بالشهر.
ريان : جيد جداً. متى نستطيع معاينته؟
ام عمر : بامكاننا الذهاب غداً إن شئت.
ريان : طيب خالتي سنزوره غداً إن شاء الله.
في تلك الليلة لم يغادر ريان الغرفة وانكب على قراءة الكتب التي اقتناها في ذلك اليوم. وكلما قرأ معلومة جديدة دونها في دفتره ثم رفع يده للسماء ليدعوا لصاحبه صالح ولابن عمه صاحب المكتبة بالرزق والتوفيق. وما ان انقضت الليلة حتى اتم كتاباً واحداً منها ليهيئ الثاني للقراءة في الليلة الموالية. وهكذا دواليك سينهي جميع الكتب في غضون اسبوع واحد فقط. بعدها فتح الحاسوب وارسل رسالة الكترونية الى صالح ليبدأ التواصل معه.
باليوم التالي جلس ريان في سيارة ام عمر لتصطحبه الى شارع 52 حيث يقع مكتب العقارات فالتقوا بالسمسار الذي اخذهما سيراً على الاقدام ودخلا المتجر الخالي. نظر اليه ريان وهو مستبشر. راح يتفحص الغرفة الاضافية في الخلف ثم وجه سؤالاً للسمسار،
ريان : المكان لا يحتوي على مرحاض، فانا سامكث فيه طوال اليوم. ماذا لو اردت ان اقضي حاجتي؟
السمسار : بامكانك ان تستعمل المرحاض بمكتبي لان مكتبي يبعد اقل من 10 امتار عن هذا المحل.
ام عمر : انا اعتقد ان المكان مناسب والموقع جيد جداً يصلح للمشروع ولكن حبذا لو تقدر ان تخفض الايجار قليلاً لان ابني ريان يبدأ مشروعه من الصفر ولا زال لديه الكثير من المعدات التي سيحتاجها كي يباشر عمله.
ريان : لو وافق صاحب العقار ان يخفض الايجار الى 200 الف فسيكون افضل.
السمسار : لا اعتقد انه سيتمكن من خفضه بهذا القدر. ساحاول اقناعه كي يهبط من 350 الف الى 300 الف.
ام عمر : شكراً لك يا ابو صفاء. ولكن متى سنستلم الرد؟
السمسار : الآن فوراً، ساتصل بصاحب العقار على هاتفه النقال. انتظروني قليلاً لو سمحتم.
استل هاتفه النقال من جيبه واتصل بصاحب العقار، وبعد الكثير من الرد والعطاء بينهما تمكن من اقناعه بقبول مبلغ 300 الف. على ان يدفع شهراً واحداً كمقدمة وشهران كضمان. انهى المكالمة مع صاحب العقار وقال،
السمسار : لم اكن اعتقد انه سيوافق على خفض الايجار. لكنه وافق فعلاً على 300 الف. بامكاننا الرجوع الى مكتبي كي ندون العقد وتوقعه.
ام عمر : ساوقع العقد باسمي.
ساروا الى مكتب السمسار فوقعت ام عمر على العقد وتسلما المفاتيح ثم خرجا من المكتب. جلسا بالسيارة فقالت،
ام عمر : اخبرني يا ولدي، كم يلزمك من المال كي تبدأ عملك؟
ريان : ربما مليوني دينار يا خالتي.
ام عمر : ساعطيك خمسة ملايين دينار كي تتمكن من شراء ادوات التصليح وبعض قطع الغيار وما شابه، وإن احتجت للمزيد فبامكاني ان امنحها لك لاحقاً.
ريان : شكراً لك يا خالة. انا جداً ممتن لك ولكلّما قدمت فقد انقذتيني من الضياع.
ام عمر : لا عليك يا ولدي. سابقى اساندك حتى تتمكن من الوقوف على قدميك.
<<<<<<<<<<
كانت الايام التي تلت محملة بالعمل الدؤوب لكليهما فقد قام ريان وام عمر بتركيب الرفوف بداخل المحل وشراء بعض الكراسي
والاثاث وما شابه ثم قام بتصميم اليافطة التي سيعلقها فوق المحل وبطاقات الزيارات فاعطاها لاحدى المطابع التي قامت بطباعتها. ولما علق اليافطة فوق المحل نظر اليها بكل فخر واعتزاز وقال،
ريان : الآن اتممنا كل شيء. ساتوكل على الله وافتتح المحل غداً.
في تلك الليلة لم يتمكن ريان من النوم من فرط حماسه نحو المشروع. ازدحمت الافكار والتسائلات برأسه، هل سينجح المشروع؟ هل ساتمكن من رد لتلك السيدة الفاضلة ام عمر ما قدمته لي من مال؟ هل سيصبح عندي زبائن دائمين؟ هل ستجابهني مصاعب وعقبات؟ ولما نظر الى ساعته وجدها تشير الى السادسة فجراً، نهض من سريره دون ان يغمض له جفن وبدأ يستعد لافتتاح محله. كان مضطرباً جداً لكنه تلقى الكثير من التشجيع من ام عمر حينما جلس ليتناول الافطار معها فقد قامت بترتيل بعض الآيات القرآنية له كي يوفقه الله بمسعاه. خرج من البيت وركب الحافلة متوجهاً الى المحل ليفتتحه. ولما اصبح قاب قوسين او ادنى منه، نظر من بعيد لكنه لم يشاهد اي شخص يقف في الخارج فطمأن نفسه وقال لا زال الوقت مبكراً، سوف يأتون فيما بعد لا محال. فتح باب المحل وصار يرتب قطع الغيار التي اشتراها باليوم السابق على الرفوف التي صنعها له نجارٌ اعتادت ام عمر التعامل معه. وبعد مرور ساعة اعد لنفسه فنجاناً من القهوة وراح ينظر الى الباب يترجى منه بل يتوسل اليه كي ينفرج فيدخل اي احد ويتحدث معه حتى لو كان ذلك عن طريق الخطأ. ولكن هيهات، بدأ يراوده شك بان مشروعه فاشل وانه سوف يصاب بخيبة امل مما جرى له بحياته من نكسات واحباطات. وفجأة دخلت فتاة فائقة الجمال ذات شعر كستنائي طويل يكاد يصل الى الارض، قصيرة القامة، رشيقة القوام، في اوائل العشرينات من عمرها. هب ريان واقفاً وابتسم بوجهها ابتسامة عريضة قال،
ريان : اهلاً وسهلاً بك يا آنسة، كيف استطيع خدمتك؟
الزبونة : لدي هاتف من نوع آي فون عزيز علي جداً. بالآونة الاخيرة اصبح بطيئاً جداً ولا اعلم السبب. لقد رأيت محلك الجديد هذا فجئت لاسألك، هل بالامكان اصلاحه؟
ريان : بالتأكيد، اجلسي هنا قليلاً ودعيني افحصه لك بينما تتناولين فنجان قهوة.
الزبونة : بالحقيقة لا اريدك ان تباشر العمل عليه قبل ان تخبرني بثمن التصليح فانا طالبة فقيرة لا املك الكثير من المال.
قالتها بدلع وكأنها تستجدي عطفه.
ريان : دعيني افحصه اولاً كي اعرف علته وسنتحدث بباقي الامور لاحقاً.
امسكت فنجان القهوة الفخاري المورد واخذت منه رشفة صغيرة ابتلت شفتاها الصغيرتان التان تشبهان حبة البندق بينما راح ريان يجري كل الفحوصات المكثفة الشاملة عليه. وبعد مضي ربع ساعة قال لها،
ريان : هاتفك قد اختنق وامتلأت ذاكرته. انه يحتاج الى اعادة فرمته.
الزبونة : وماذا عن الصور وارقام الهواتف بداخله؟ لدي فيه صور كثيرة عزيزة علي ولا اريدها ان تختفي.
ريان : ساقوم بالاحتفاض بها على حدة وبعدها سانظفه تنظيفاً كاملاً ثم ارد ارقام الهواتف والصور اليه فيما بعد. الامر يتطلب ساعة تقريباً. بامكانك المغادرة والعودة بعد ساعة يا مدام.
الزبونة : انا آنسة يا استاذ ولست مدام. وكم سيكلفني ذلك؟
ريان : بما انك زبونتي الاولى واستفتحت بك المحل على بركة الله ساعمل لك ذلك العمل مجاناً على شرط ان تخبري كل معارفك بخصوص المحل.
الزبونة : لا اعرف ماذا اقول لك، لقد غمرتني بكرمك. اجل اجل بالتأكيد ساجعل جميع زملائي يأتون الى عندك، كن على ثقة.
ريان : الاسم لو سمحت؟
الزبونة : اسمه ايفون 11.
ريان : لا، اقصد اسمك انت؟
الزبونة : اها اجل، اسمي ميسون العزاوي.
ريان : تشرفنا بك يا انسة ميسون. تفضلي، هذه هي بطاقتي، بامكانك الاتصال بي وقتما شئت للوقوف على حالة هاتفك قبل الشروع بالمجئء.
نظرت الى البطاقة وقالت،
ميسون : شكراً لك يا سيد ريان.
ريان : بل الشكر لك يا آنسة ميسون.
خرجت الزبونة من الورشة فَهَمَّ ريان بعمل الاجراءات اللازمة ليحفظ جميع بياناتها على شريحة ذاكرة صغيرة من خلال موصل من نوع (انفنتي). وعندما تأكد من ان جميع البيانات صارت آمنة بداخل الشريحة شرع بعمل الفرمتة. وبعد ان انتهى الهاتف من تنظيف نفسه. قام ريان باعادة بياناتها بكل امانة ليرجع الهاتف كما كان، والآن صار هاتفها يعمل بسرعة فائقة. وما هي الا ساعة ورن هاتفه برقم غريب لم يتعرف على صاحبه فاجابه ليسمع صوتاً رقيقاً على الطرف الثاني يقول،
ميسون : مرحباً سيد ريان. انا ميسون زبونتك الاولى، هل تذكرتني؟
ريان : وهل ينسى المرء اول زبونة لديه؟ طبعاً تذكرتك.
ميسون : اتصلت بك كي اقف على حالة هاتفي.
ريان : هاتفك يا آنسة قد اصيب بالتلف ولم يعد صالحاً ابداً.
ميسون : ماذا تقول؟ انه جديد لم يمكث عندي سوى سنة واحدة. لماذا؟ ما الذي اصابه؟ يا الهي.
ريان : اطمئني سيدتي كنت امازحك وحسب. الهاتف عاد افضل من ذي قبل. بامكانك التفضل الى هنا لاستلامه وقتما تشائين.
ميسون : كم انت لئيم وشرير ومكروه. كدت اصاب بالسكتة القلبية.
ريان : حفظك الله وحفظ قلبك من كل شر سيدتي. لم اقصد ان اسبب لك اي قلق. انا اعتذر. سامحيني.
ميسون : لا عليك عزيزي ريان. هي هي هي احببت ان امازحك انا ايضاً. انا آتية بعد آخر محاضرة، ساصلك حوالي الساعة الثالثة ظهراً.
ريان : ساكون بانتظارك يا آنسة على احر... اقصد سيكون الهاتف جاهزاً للاستلام.
بقي ريان جالساً ينظر الى باب المحل لساعات طوال ولم يدخل احد من الزبائن فصار القلق يدب في قلبه من جديد. لكنه كان يأمل ان يأتي الفرج فيما بعد. وفي الساعة الثانية عشر والنصف خرج من المحل ودخل المخبز عبر الشارع ليشتري صمونة ثم يعود بها الى محله. راح يقطّع بعض الجبن والطماطم وقطع الدجاج التي وضعتها له گوطة في علبة بلاستيكية ليعمل منها شطيرة يتناولها مع قدح من الشاي. بقي محله فارغاً حتى الساعة الثالثة والربع واذا به يفاجأ بمجموعة كبيرة من الشبان يدخلون المحل كالعاصفة الهوجاء تتصدرهم ميسون. وعلى ما يبدوا انهم جميعاً زملائها. دخلوا وهنوه بافتتاح ورشته. سلم الهاتف المعافى لميسون ففرحت به كثيراً وشكرته على اعتنائه به خصوصاً وانه وضع لها غلافاً خاصاً يحمي شاشة الهاتف من التلف قال،
ريان : وضعت لك هذا الغلاف كي لا تتخدش الشاشة.
ميسون : وكم ثمنه؟
ريان : سعره في العادة 10 آلاف لكن بامكانك ان تعتبريه هدية مني.
ميسون : لا اعرف ماذا اقول. انا جداً ممتنة لافضالك. والآن لدي زميلي سامر قد احضر لك حاسوبه اللابتوب للتصليح. هل تصلح الحواسيب ايضاً؟
ريان : بالطبع. دعني افحص الحاسوب لو سمحت يا سامر.
اعطى الشاب الحاسوب لريان وقال،
سامر : لقد توقف فجأة عن العمل ولم يعد يظهر اي شيء على الشاشة سوى خط افقي صغير ينبض في الاعلى. كذلك لم اعد اسمع اي اصوات عندما اضغط على زر التشغيل. ارجوك اخبرني عن ثمن التصليح قبل الشروع به.
ريان : إذا كان العطل في الخوارزميات اي البرمجية فسوف لن يزيد عن 25 الفاً. اما إن كان هناك عطل ببعض الاجزاء ويتحتم عليَّ تبديلها فسوف ساحاسبك على ثمن تلك القطع بالاضافة الى ثمن التصليح الذي هو 20 الفاً. والآن سالقي عليه نظرة تفصيلية مكثفة وساخبرك بالمشكلة فيما بعد قبل ان ابدأ العمل عليه. ارجوك اعطني اسمك الكامل ورقم جوالك.
اعطى سامر اسمه الكامل ورقم جواله فوضعه على ورقة صغيرة الصقها فوق الجهاز ثم راح يقدم استشارات وخدمات لباقي زملاء وزميلات ميسون حتى انتهى من آخر واحد منهم. وبتلك اللحظة دخلت ام عمر المحل حاملة بيدها صحناً كبيراً قالت،
ام عمر : السلام عليكم جميعاً يا شباب. بمناسبة افتتاح المحل قمت بخبز كيكة كي نحتفل بها جميعاً. ارجوكم تفضلوا وخذوا قطعة منها.
قطّعت الكيك الى اجزاء وراحت توزعها على الطلاب المتواجدين بداخل المحل ثم اعطت واحدة لريان ودخلت المطبخ لتعد الشاي للجميع. بعد ان انتهوا من تناول الكيك شكروه وشكروا ام عمر ثم خرجوا من المحل. وما هي سوى يومين واتصل ريان بسامر ليخبره بحالة حاسوبه فيتقاضى منه ثمناً متواضعاً لتصليحه ويقوم بتسليم سبعة هواتف نقالة الى باقي زملاء وزميلات ميسون. سرعان ما انتشر صيت ريان ومهارته الفائقة وورشته التي لا تتقاضى مبالغ فاحشة في تصليح الهواتف والحواسيب لترى الاسابيع التي تلت حشوداً كبيرة من الطلاب الذين صاروا يقصدون محله بشكل كبير ومتواصل. ومن هناك انطلقت الاخبار عنه ليصبح الكثير من سكان بغداد من زبائنه الدائمين خصوصاً وانه استقبل زيارة من مندوبي مبيعات اغلب ماركات الهواتف الشهيرة من (سامسونغ) و(اوپو) و(زومي) و(ڤيڤو) و(ميزو) و(هواوي) لتصبح ورشة ريان مصدراً لبيع الهواتف النقالة الجديدة بالاضافة الى تصليحها. بعدها وسع عمله اكثر إذ صار يبيع الحواسيب جديدة من نوع (ايسر) و(آسوس) و(اتش پي) و(ديل) و(توشيبا) و(لينوڤو). وبهذا اضطر لان يستأجر المحل الملاصق لمحله ويفتح الجدار بينهما فتزداد مساحة المحل. بدأ الناس يأتونه من كل حدب وصوب فيزدحم المحل ليصبح من الصعب عليه ان يقوم بخدمة الزبائن وحده لذلك قرر ان يوظف فتاتين كي يعملا معه في بيع الهواتف والحواسيب بينما تسلم ريان ورشة التصليح.
جنى باول شهر ارباحاً قاربت الـ 6 ملايين دينار. اعطى نصفها لام عمر واحتفظ بالباقي. كان ذلك النجاح الذي حققه نعمة كبيرة ونقمة بنفس الوقت. ففي يوم من الايام وبينما كان يغير قرصاً صلباً من نوع (اس اس دي بسعة 250G ) لاحدى الحواسيب بالغرفة الخلفية سمع دخول اشخاص الى المحل راحوا يصرخون على موظفاته فخرج ليشاهد ثلاثة رجال مسلحين يمسكون بيد الفتاة المكلفة ببيع الهواتف. اقترب منهما ريان وسأل،
ريان : ما المشكلة يا اخي؟ لماذا تمسك بيد الفتاة؟
الاول : هل انت صاحب المحل؟
ريان : اجل انا صاحبه، تفضل.
الاول : هذا الحي خطير جداً وبالامكان ان تتعرض لاعتداء اولاد الحرام. لذلك قررنا ان نأتي ونقدم لك حمايتنا. سيكون ذلك من مصلحتك لاننا سوف لن ندع اي احد الاعتداء عليك او على اي من العاملين عندك.
ريان : وكم ستكلفني تلك الحماية؟
الاول : فقط 50 الفاً كل شهر.
ريان : وانا موافق. سادخل واجلب لك المبلغ.
دخل ريان الى الداخل وعاد بالمبلغ فاعطاه للرجل المسلح. نظر اليه الثاني وقال،
الثاني : من الآن فصاعداً ستكون انت بحماية سيد محمد وهذا رقم هاتفنا النقال. إن اعترضك اي احد، ما عليك سوى الاتصال بنا وسنقوم بتولي امره.
ريان : شكراً لك اخي وأكثر الله من امثالكم وامثال السيد محمد. رافقتكم السلامة.
خرج الرجال الثلاثة فاقترب ريان من الفتاة وسألها،
ريان : هل انت بخير يا مهتاب؟
مهتاب : اجل، انا بخير ولكن لماذا اعطيته النقود يا ريان؟ انها اتاوة وليست حماية.
ريان : اعرف ذلك يا اختي ولكن ما العمل؟ لو امتنعت عن منحهم المال فسوف يؤذوننا دائماً ولن يتركونا نرتزق.
في ذلك اليوم كان ريان بحالة نفسية سيئة جداً يلعن اليوم الذي اصبحت فيه المليشات تتحكم بمصائر الناس في بلد عمره اكثر من 7000 سنة لكن الله يمهل ولا يهمل. وبمرور الوقت بدأ يشعر براحة مشوبة بالحذر وتجاوز الامر.
بعد ظهر احد الايام اتصلت به هاتفياً ام عمر واخبرته بانها تريد منه العودة المبكرة الى البيت لقضاء حاجة ملحة في غاية الاهمية فوافق دون تردد. وقبل انتهاء الدوام ببضع دقائق بينما رحلت الموظفات من المحل دخلت عليه ميسون واقتربت منه لتقول،
ميسون : هاتفي الذي قمت بتصليحه. عاد واصيب بعطب من جديد.
ريان : هل بامكانك الانتظار حتى الغد لان علي العودة الى البيت الآن بشكل طارئ.
ميسون : الا يمكنك القاء نظرة سريعة على هاتفي لعلك تستطيع اصلاحه؟
ريان : كلا، يجب ان اغلق المحل واستقل التك توك لاعود للبيت على جناح السرعة.
ميسون : ساخذك الى بيتك بسيارتي بينما تتفحص هاتفي بداخل السيارة، ما رأيك؟
ريان : حسناً هيا بنا.
اغلق ريان ابواب المحل ووضع الاقفال عليها ثم جلس الى جانب ميسون بسيارتها المرسيدس من الفئة 140 وصار يتفحص هاتفها بينما انطلقت ميسون تجوب شوارع بغداد باتجاه بيت ام عمر. وما هي سوى دقائق حتى نظر ريان الى ميسون وقال،
ريان : يبدو انكِ لم تقومي بمسح الصور ومقاطع الفديو المتراكمة بداخل هاتفك لذلك امتلأت ذاكرته برمتها. والآن قمتُ بمسح بعض مقاطع الفيديو المكررة فعاد هاتفك يعمل. ولكن اخبريني يا آنسة ميسون، ماذا تدرسين في الجامعة؟
ميسون : انا بالسنة الاولى من كلية العلوم فرع الرياضيات.
ريان : يآه من الرياضيات.
ميسون : لماذا تقول ذلك؟ هل تكره الرياضيات لهذا الحد يا ريان؟
ريان : بالعكسن، انا احبها كثيراً وكان بالامكان ان احصل على درجة كاملة بالسادس العلمي لولا ان ظروفي انعكست ودخلت السجن بدلاً من الدخول الى البكلوريا.
ميسون : الا حكيت لي قصتك؟
ريان : انها قصة طويلة ومملة يا آنسة ميسون. الوقت لا يسمح الآن، فام عمر طلبتني وارادت مني المجيء لامر مهم جداً.
ميسون : هل انتم اقرباء؟
ريان : كلا، انها والدة اعز صديق لي منذ الطفولة. وافته المنية بسبب المرض لكن امه عطفت عليّ واسكنتني في بيتها بعد خروجي من السجن ثم موّلتني كي افتح مشروع الورشة.
ميسون : اليست هي تلك المرأة التي وزعت علينا الكيك في يوم الافتتاح؟
ريان : اجل انها هي بعينها.
ميسون : يا سلام، تبدو لي وكأنها سيدة صالحة ونقية القلب.
ريان : ام عمر فريدة من نوعها. كانت تُدَرّس اللغة الانكليزية بمدرسة اعدادية لاكثر من 30 سنة. والآن هي متقاعدة.
ميسون : حبذا لو استطيع ان اجلس معها واتحدث اليها بشكل مطول.
ريان : ستزوريها بيوم من الايام ولكن ليس اليوم. فعلى ما يبدو انها تحتاجني بامر جلل.
ميسون : إذاً سنلتقي غداً بعد انتهاء عملك لانني اريدك بامر جلل انا ايضاً.
ريان : وهل سيتعلق الامر بهاتف مليء بمقاطع التك توك؟
قالها وهو ينظر بوجهها ويبتسم. علمت ميسون انه تفهم سبب مجيئها الى محله بوقت انتهاء العمل لكنها لم تكن لتخجل في ابداء مشاعرها حين قالت،
ميسون : اسمع يا ريان، انا اريد ان احدثك عن... اقصد انني اريد ان اقول لك انني... اقصد يعني...
هنا قاطعها وقال،
ريان : اسمعي يا ميسون، انت فتاة جميلة جداً مثقفة وميسورة الحال، لا تحتاجين الى شخص مثلي لا يعمل سوى اعاقتك عن الوصول الى تحقيق مستقبلك الزاهر. انا انسان بسيط، لدي سوابق ويتيم الابوين، اسكن لدى امرأة قامت بمنحي السكن والعمل من باب الشفقة.
ميسون : لكنني اهتم كثيراً بمعرفة رأيك بي.
ريان : انا لا انكر انني اميل اليك، لكنني لا اعرف عنك الكثير، وبالمقابل انت ايضاً لا تعرفين عني اي شيء.
ميسون : لذلك يجب ان نتقابل كثيراً كي نتعرف على بعضنا البعض.
ريان : وانا موافق ولكن ليس اليوم طبعاً. فانا ملزم بتلبية طلب ام عمر. بالرغم من انني مجروح منك قليلاً لانك كذبت علي.
ميسون : انا؟ وكيف كذبت عليك؟
ريان : اقنعتيني بالبداية انك فقيرة الحال ولا تملكين ثمن اصلاح هاتفك عندما التقينا بالمرة الاولى.
ميسون : بالحقيقة انا اعجبت بك من النظرة الاولى وتمنيت ان يكون لدي سبب مقنع كي اراك ثانية. على العموم انا اعتذر عن اسلوبي الغير اخلاقي.
ريان : لا ابداً. انه امر بسيط. ساغفر لك تلك الكذبة البيضاء ولكنني بشكل عام لا احب الكذب ابداً حتى لو كان لونه ابيض.
ميسون : اعدك بانني سوف لن اكذب عليك مستقبلاً مهما كلف الامر. والآن هل سنلتقي غدا يا ريان؟
ريان : اجل، اجل، شكراً على توصيلي واراك غداً.
نزل من السيارة ونظر اليها من الشباك فغمزت له بعينها وارسلت له قبلة هوائية ثم رسمت له علامة القلب باصابعها لتنطلق بسيارتها وتتركه واقفاً اما بيت ام عمر.
دخل ريان البيت فرأى ام عمر جالسة في غرفة الاستقبال تنتظر قدومه والقلق بادياً على وجهها، ولما رأته مقبلاً وقفت وقالت،
ام عمر : حمداً لله لانك اتيت. هل تذكر الرسائل الالكترونية GMAIL التي علمتني على استعمالها في حاسوبي؟
ريان : اجل اذكر، ماذا جرى، ما المشكلة؟
ام عمر : لقد وصلتني رسالة من شخص مجهول وفيها تهديد بالقتل. يريد مني الف دولار.
ريان : دعيني ارى الرسالة يا خالتي.
فتح حاسوبها ودخل على بريدها الالكتروني ولما فتح الرسالة قرأ التالي:
يا امرأة،
انا اعلم اين نسكين واين تروحين وتجيءين كل يوم لاقد تبعتك الى سوك الثلاثا لما اشتريتي خضروات من هناك.
اريد منك فلوساً الف دولار والا ساذبحك بالسكين بنص الشارعي.
سابعث لك العنوان والوقت لتجيبي لي فلوسي الالف دولار كاملتن.
اعاد قرائتها عدة مرات فسألته،
ام عمر : هل تبين معك شيئ؟
ريان : يبدو انه شخص غير متعلم بشكل جيد. انظري الى الاخطاء الاملائية واسلوبه الركيك في رسالته.
ام عمر : اجل حقاً. لقد قرأتها ولاحظت عين الشيء. والآن هل ندفع له المال؟
ريان : وهل يعقل ذلك؟ كيف ندفع المال لاي شخص يبعث لنا برسالة الكترونية؟
ام عمر : وما العمل إذاً؟ هل نهملها؟ وإن اهملناها فربما سيقوم بمهاجمتي وذبحي كما يهدد بالرسالة.
ريان : كلا يا خالتي، ساقوم بالتحقيق في الرسالة وسوف اعرف عنه كل شيء.
ام عمر : وكيف ذلك يا ولدي؟
ريان : كل رسالة الكترونية تبعث الى اي شخص كان. بالاضافة الى النص الذي بطياتها فانها تحتوي على معلومات خفية يتمكن الخبير من الوصول اليها ومعرفة الكثير عن مرسلها والمكان الذي ارسلت منه.
ام عمر : يا الهي لم اكن اعلم ذلك. وكيف ستفعل ذلك؟
ريان : دعيني افتح الجزء الخفي الذي يحتوي على تلك المعلومات وساخبرك بعدها.
فتح ريان الجزء المخفي للرسالة فامتلأت الشاشة بالرموز والحروف والعناوين التي لا يفهمها سوى الخبراء وصار ريان يتفحصها ويكبس لوحة المفاتيع لاكثر من 10 دقائق ثم قال بعدها،
ريان : لقد وضعت العنوان الالكتروني (IP) بداخل برنامج الخرائط وعلمت من خلاله العنوان الذي ارسلت منه تلك الرسالة. انه شارع رقم 17 احد الشوارع المتفرعة من الطريق السريع محمد القاسم.
ام عمر : يا الهي، هذا ليس بعيداً عنا.
ريان : اجل ولذلك تتبعكِ المجرم وانت تذهبين للتسوق ومشى خلفك الى هناك.
ام عمر : وما العمل الآن إذاً؟
ريان : ساذهب اليه واتحقق من مكانه وعندما اتأكد من كل شيء ساسلمه للشرطة.
ام عمر : توخى الحذر يا ولدي. فقد يكون مسلحاً او تابعاً لاحدى العصابات او المليشات الخطرة.
ريان : لا تقلقي يا خالتي.
خرج ريان من البيت وتوارى عن الانظار. وبعد مرور ساعتين عاد الى البيت فاستقبلته ام عمر وسألت،
ام عمر : حمداً لله لانك رجعت سالماً. ماذا جرى؟
ريان : ذهبت الى العنوان فوجدته مجرد منزلاً اعتيادياً. راقبت المنزل من بعيد لاكثر من نصف ساعة حتى خرج ولد صغير لا يزيد عمره عن 11 او 12 سنة. بعدها قررت ان اضغط على الجرس فخرجت لي سيدة اربعينية. سالتها إن كان زوجها موجوداً فاخبرتني بان زوجها قد سافر الى خارج البلاد ولا يوجد في الدار سواها هي وولدها حمودي. سألتها إن كان ولدها حمودي يملك جهاز حاسوب فاجابت بالايجاب. قلت لها ان ابنها يبعث برسائل تهديد لك ويطلب منك المال. لم تصدق ما قلته وقالت ان ابنها مهذب جداً ولا يمكن ان يعمل هذه الاعمال المشينة. فطلبت منها الاذن بفتح حاسوب ابنها للتحقق منه. ادخلتني غرفته وسمحت لي كي افتح حاسوب ابنها حمودي لتثبت لي ان ابنها بريء. وعندما اريتها الرسالة الالكترونية التي قام بتهديدك بها تأكدت من ان ابنها هو الذي ارسل تلك الرسالة ولاكثر من سيدة بالمنطقة ايضاً. شعرت المسكينة بالخجل وصارت تعتذر وطلبت مني الصفح وارادت ان تأتي اليك لتعتذر منك شخصياً. بعدها احضرت لي الشاي ورحنا ننتظر عودة ابنها محمود. ولما عاد بعد ساعة اخبرته بما اكتشفنا فارتبك كثيراً وصار يبكي ويتوسل كي لا اسلمه للشرطة. اخبرته باني ساحتفظ بجميع الرسائل التي ارسلها لجميع النساء اللواتي هددهن وساسلمها للشرطة إن عاد وكرر تلك الاعمال الصبيانية فوعدني بانه تاب وانه لن يفعل ذلك ابداً. وبنفس الوقت طلبت مني امه ان اوصل اعتذاراً خاصاً اليك ووعدتني بانها ستشدد مراقبة ابنها من الآن وصاعداً وان امراً مثل هذا سوف لن يتكرر مستقبلاً والا فانها ستسلمه للشرطة بنفسها.
ام عمر : إذاً، كان مجرد طفل صغير اراد ان يبتز المال مني.
ريان : اجل ولا اعتقد انه سيكرر فعلته تلك.
ام عمر : ولكن كيف عرف الولد عنواني الالكتروني؟
ريان : سألته ذلك فاخبرني بانه صار يلعب كرة القدم مع بعض الاطفال الذين يقع منزلهم في نفس شارع بيتك واستفسر عنك فاخبروه بكل المعلومات والتفاصيل التي يستطيع ان يستفيد منها.
ام عمر : اجل ولكن من اين عرف عنوان بريدي الالكتروني؟
ريان : لا اعلم يا خالتي. لكن الاطفال اليوم شديدوا الذكاء ويكرسون كل طاقاتهم وجهودهم في التعامل مع الحواسيب.
ام عمر : الحمد لله انها انتهت على ذلك القدر يا ولدي. واحمد الله لانك اصبحت خبيراً بهذه الامور وتمكنت من العثور على ذلك الصبي لتوقفه عند حده.
ريان : انا بالخدمة يا خالتي. ولكن إذا لا زلت تريدين تقديم شكوى للشرطة فبامكاني اعطائك الادلة لتقدميها اليهم.
ام عمر : لا، لا اعتقد ان ذلك سيكون مجدياً. المهم انهه تاب وان امه اصبحت تشدد الرقابة على ابنها. والآن جاء دوري لاعد لك وجبة العشاء.
ريان : انه اجمل خبر سمعته بحياتي فانا اتضور جوعاً.
وبعد تناول وجبة العشاء، جلس مع ام عمر في غرفة الاستقبال وراح يتابع الاخبار على التلفاز بينما كان يترشف من قدح الشاي. وبعد ساعة او اقل بدأ النوم يطبق عليه فاستأذن من ام عمر وصعد الى غرفته بالطابق العلوي ليستعد للنوم. وباليوم التالي ذهب الى المحل مبكراً ليفتح الباب ويبدأ يوم عمل جديد. كان ذلك اليوم مكتضاً بطلبات الزبائن فاصبح من الصعب عليه التنفس بداخل المحل لكنه كان يواجه جميع الزبائن بابتسامة لطيفة وحديثاً مهذباً ويحث موظفاته ان يعملن بنفس الاسلوب. وفي نهاية اليوم نظر الى ساعة الحائط فوجدها تشير الى السادسة مساءاً اخبر الفتيات بالعودة الى منازلهن. وبينما هو يغلق ابواب المحل وقفت سيارة ميسون الفضية امامه فابتسم واشار لها بيده كي تنتظره حتى يكمل غلق الابواب الفولاذية ووضع الاقفال عليها. جلس الى جانبها بالسيارة وقال،
ريان : هل تأخرت عليك؟
ميسون : تأخرت 16 دقيقة.
ريان : يا سلام، 16؟ والآن ضعيها تحت الجذر التربيعي لتصبح 4 دقائق فقط.
ميسون : مشكلتي انني وقعت بحب خبير في الرياضيات.
ريان : لو علم والدك بذلك لقام بـ (طرحنا) ارضاً و(ضربنا) ضرباً مبرحاً وبذلك (تنقسم) علاقتنا ثم (تنقص) حصتنا من اللقاء ويضيع املنا من (التكامل).
ميسون : التكامل، التكامل، اوووووه لا تذكرني بالتكامل. فهو نقطة ضعفي. هو وابن عمه التفاضل.
ريان : هل يعقل ذلك؟ انت بصحبة خبير مادة الكالكيلوس وتشكين من التفاضل والتكامل؟
ميسون : هل انت حقاً خبيراً بها؟
ريان : اجل يا حبيبتي انا كنت اخذ علامات كاملة بتلك المادة.
ميسون : ماذا قلت؟
ريان : قلت لك انني كنت اخذ علامات كاملة بتلك المادة.
ميسون : لا لا لا اقصد قبل تلك الجملة.
ريان : اها تريدين ان توقعي بي في شباكك كي اعترف لك بحبي؟ لا يا حبيبتي سوف لن تنالين مني هذه المرة.
ميسون : كم كنت اتمنى ان تشاطرني تلك المشاعر يا حبيبي. والآن وبطريق المزاح فجرت قنبلتك وقلتها.
ريان : قلتها لانني اشعر بها حقاً ولكن الهوة بيننا واسعة يا ميسون.
قاطعته بان وضعت سبابتها فوق شفتيه وقالت،
ميسون : لا تكمل كلامك. دعنا نستمتع باوقاتنا معاً فمنذ ان عرفتك وانا لم اعد قادرة على النوم لانك ببالي دائماً. فورما اضع رأسي على المخدة واغمض عيني تأتي امامي لتزين احلامي.
ريان : وانت كذلك يا ميسونتي الحلوة.
ميسون : نسيت ان اسألك، ماذا ارادت منك ام عمر بالامس؟ ولماذا طلبت حضورك بتلك السرعة؟
هنا قص عليها قصة الولد الذي كان يعبث معها ويبعث برسائل التهديد وكيف اصطاده وتمكن من اخافته والسيطرة عليه. ولما اكمل سرد القصة قالت،
ميسون : انت اثبت لام عمر ولي ايضاً انك انسان عظيم ومقتدر وصانع للمعجزات، وهذا يجعلني احبك اكثر.
بهذه الاثناء اوقفت سيارتها امام احدى المقاهي واغلقت المحرك قالت،
ميسون : دعنا نجلس بهذا المقهى ونتحدث فانا اتوق للحديث اليك وجهاً لوجه بدلاً من النظر الى الشارع والسيارات اثناء القيادة.
ريان : وانا كذلك يا ملكة جمال بغداد.
جلس الحبيبان في المقهى بزاوية معزولة وصارا يتهامسان كلمات حلوة ملؤها الحب والعشق والهيام والامل. لكن الواقع عاد وفرض نفسه عليهما عندما قال،
ريان : يجب علينا ان نكون واقعيين يا ميسون. انا لا احلم يوماً ان اكون لك فانت في القمة وانا في القعر. انا مجرد كومپيوترچي وانت ابنة حسب ونسب.
ميسون : ماذا قلت؟ ما هو الكومپيوترچي؟
ريان : الكومپيوترچي هو مصلح الكومپيوترات على وزن فيترچي واوتچي وبورچي ومطيرچي.
ميسون : كم انت ظريف وخفيف الظل، لا تقل ذلك حبيبي. سوف نجد طريقة كي نكون سوية حتى لو اضطررنا ان نتزوج بالسر فاترك بيت عائلتي لابقى مع حبيبي الكومپيوترچي.
ريان : لا تقولي ذلك ابداً. فالعائلة لا تعوض باي ثمن. انا فقدت عائلتي مع اختي خلود بوقت مبكر واصبحنا عرضة لتنمر زوجة عمي واولادها والآن انا لاجئ ببيت السيدة الكريمة ام عمر.
ميسون : بامكانك ان تتحدث مع والدي وتخطبني منه فهو انسان متحضر تستطيع التفاهم معه.
ريان : اجل ولكن كيف ساتحدث معه بماضي اسود مثل الماضي الذي مررت به؟
ميسون : اسمع حبيبي، الآن والدي يمر بمشكلة كبيرة هذه الايام لذلك علينا ان ننتظر قليلاً. دعه ينهي مشكلته ثم تتمكن من الذهاب الى مكتبه لتتفاهم معه.
ريان : ما نوع عمل الوالد؟
ميسون : لديه شركة استيراد وتصدير مركزها في بغداد ولديه مكتب في عمان.
ريان : وما هي مشكلته بالتحديد إذا لم يكن ذلك تطفلاً مني؟
ميسون : لديه شريك في عمان اسمه وليد ختايرة قام باختلاس مبلغ كبير منه وهو في صدد رفع دعوة قضائية عليه، لكن امله في كسب القضية ضئيل جداً لانه لا يملك اي دليل مادي ضده.
ريان : هل بامكانك ان تعطيني معلومات عنه وعن شريكه وعن الشركة؟ ربما استطيع مساعدته.
ميسون : بالطبع حبيبي ساكتب لك كل التفاصيل الآن.
اخرجت ميسون ورقة من حقيبتها وصارت تدون المعلومات عن شركة والدها ثم اعطت الورقة لريان فتفحصها جيداً وقال،
ريان : لا تنسي ان تكتبي اسم البنك وعنوانه ورقم الحساب بعمان.
ميسون : سافعل ذلك. انا اعرف رقم الحساب فقد حفظته عن ظهر قلبي لانني كلما ذهبت الى عمان مع زميلاتي لقضاء الاجازة كنت اذهب لذلك البنك واسحب المال الذي احتاجه من هناك.
ريان : ساقوم انا بالتحقيق بالموضوع.
ميسون : ماذا ستفعل؟ هل ستسافر الى عمان؟
ريان : لا ليس بالضرورة، لكنني سافعل كل ما بوسعي من هنا. ارجوك لا تخبري احداً بما تكلمنا عنه.
ميسون : اكيد، انا واثقة من قدراتك حبيبي.
بعد ساعة كاملة من حديث العشق والهيام خرجا من المقهى فاوصلته بسيارتها الى منزله ثم عادت ادراجها الى بيتها. فور دخول ريان من الباب الرئيسي قالت له ام عمر،
ام عمر : انتظرتك كثيراً كي نتعشى سوية لكنك لم تأتي، لذلك تناولنا العشاء انا وگوطة.
ريان : لقد ذهبت مع شخص ما واكلنا شيئاً في المقهى.
ام عمر : هل هو شخصٌ ام شخصةٌ؟
قالتها وهي تبتسم. شعر ريان بالاحراج الكبير واسدل رأسه للارض ثم قال،
ريان : بل هي انسانة راقية جداً رقيقة مهذبة مثقفة اسمها ميسون العزاوي.
ام عمر : يا سلام انا جداً سعيدة يا ولدي. أهي موظفة؟
ريان : كلا انها طالبة بكلية العلوم بالسنة الاولى.
ام عمر : هل اخبرتها بصراحة عن وضعك؟
ريان : اجل يا خالتي، اخبرتها بكل الشيء عن السجن وعن وفاة والديّ واختي خلود وعنكِ.
ام عمر : اهم شيء باي علاقة هي الصراحة التامة. والا فسوف لن يكتب لها النجاح.
ريان : وهذا رأيي ايضاً. لكن هناك عائق كبير بيننا. فوالدها رجل اعمال مرموق ويعيشون ببحبوحة كبيرة. اما انا فكما تعلمين...
قاطعته بحزم وقالت،
ام عمر : اعلم ماذا؟ انت ايضاً رجل اعمال وعن قريب جداً سييسر الله لك وستصبح ذا شأن عظيم. لا تستصغر نفسك ابداً فانت رجل اعمال مميز وسيكون لك مشاريع كبيرة بالمستقبل إن شاء الله.
ريان : شكراً لك يا خالتي. والآن علي ان اختلي بغرفتي فلدي عمل مهم عليّ انجازه لميسون.
ام عمر : اها طبعاً، اجل فهمت، فهمت، رسائل الحب والغرام.
ريان : لا يا خالتي. وعدت ميسون ان انظر بشيء ما لمصلحة والدها.
ام عمر : هذا مدخل ممتاز كي تستطيع الوصول الى قلب اباها. اذهب يا ولدي وقم بمساندته فالله يحب من يساند الناس.
صعد ريان الى غرفته وفتح الحاسوب. تطلع بالورقة التي زودته بها ميسون فوجد ان (بنك الاسكان للتجارة والتمويل) في عمان يستعمل الانترنيت في جميع تعاملاته وصفقاته وخدماته للزبائن. وبعد معالجة كلمات الحماية الامنية تمكن من اختراق الجدار الناري للمصرف والدخول على حسابات الزبائن والشركات. ولما بحث عن رقم الحساب الذي زودته به ميسون بدأ ينظر الى كل المعاملات السابقة التي وقعت من سحب وايداع. بعد ذلك صار يدخل على الحساب الشخصي لوليد ختايرة شريك والد ميسون. دخل بعد ذلك على حاسوب الشركة الرسمي فانفتح امامه (صندوق پاندورا) إذ اصبح يعالج العوائق الامنية والجدار الناري للشركة حتى اخترقه فبدأت الصورة تتوضح من خلال الاطلاع على المشاريع والعقود والعروض والمناقصات. قام بتدوين كل الادلة التي بدأ يتوصل اليها ويحتفظ بها بالحاسوب ثم استشف منها المزيد من المعاملات من خلال المراسلات التي كانت تجري على البريد الالكتروني بين وليد ختايرة وبين شركة بريطانية تدعى PLECY INTERNATIONAL في لندن. اخذ عنوان تلك الشركة ببريطانيا وباشر بالدخول على موقعها من خلال بروتوكول الانترنيت والوقوف على اسرارها فعلم ان تلك الشركة تتعامل مع مصرف يدعى (باركليز بانك) في بريطانيا. دخل على حساب وليد ختايرة بذلك البنك بلندن لتبدأ اساريره تنفرج. ابتسم وقال، "لقطتك يا حرامي".
اخرج هاتفه وطلب رقم ميسون لكن ميسون رفضت الاستجابة لمكالمته فعلم انها بموقف حرج لا يسمح لها الرد على مكالمته. اغلق الخط وصار ينتظر وينتظر وينتظر حتى مرت ساعة كاملة ثم سمع هاتفه يرن فاجاب عليه ليسمع صوت ميسون من الطرف الثاني تقول،
ميسون : ريان حبيبي انا اسفة جداً لانني لم اجب على اتصالك. الو الو ريان، الو ريان حبيبي...
فسمعته يقول،
ريان : ها حبيــــــــــــــبي. مو على بعض احسك، منهو الزعلك؟
فاجابته بنفس اللحن وقالت،
ميسون : انتــــــــــــــــــا. هاهاهاها. هل وجدت شيئاً يا عمري؟
ريان : هل عندك شك؟
ميسون : ابداً. ليس لدي شك. كنت اعرف انك ستسحل الذئب من ذيله.
ريان : الآن اصبحت لدي كل الادلة التي تنقذ والدك من الافلاس ولكن يجب علينا ان نمهد لها بشكل جيد.
ميسون : كيف ذلك؟ علمني حبيبي، علمني يا سوپرمان العراق، علمني يا من ملك قلبي وتربع على عرشه.
ريان : يجب ان تخبري والدك عن محلي الكائن بشارع 52 وكيف اصلحت لك هاتفك ولزملائك كل حواسيبهم ثم تخبريه باني انسان يمكن الاعتماد عليه وقد طرحتِ عليّ مشكلة والدك فوافقت انا كي اساعده. بعدها تخبريه باني مستعد لان اقابله وجهاً لوجه وان اسلمه كل الادلة التي تدين شريكه وتنقذه من الافلاس.
ميسون : سافعل ذلك اليوم إن شاء الله. كن مطمئناً.
بعد مرور ساعتين اتصلت ميسون بريان من جديد واخبرته بان والدها يود مقابلته في مكتبه باليوم التالي على الساعة التاسعة والنصف صباحاً ثم قامت باعطائه العنوان. سجل ريان العنوان واخبرها انه سيذهب لمقابلته في الغد. وفي اليوم التالي بقيت ميسون في قلق شديد كي تعرف نتائج مقابلة ريان بوالدها. يا ترى هل سيتمكن من اقناعه او ربما سوف يغضب والدها منه كعادته وينهي الاجتماع بسرعة كبيرة. لم تذهب الى الجامعة بذلك اليوم بالرغم من ان لديها محاضرات مهمة لكنها بقيت تنتظر في غرفتها لاكثر من خمس ساعات حتى رن هاتفها فاجابت عليه من اول رنة وقالت،
ميسون : اخبرني حياتي كيف سارت الامور؟
ريان : هناك حديث طويل وتفاصيل كثيرة يجب ان اخبرك بها. هل لديك وقت كي نتقابل اليوم؟
ميسون : اجل، اجل، وانا كذلك لدي الكثير من الحديث لاخبرك به ايضاً.
ريان : إذاً دعينا نتقابل بعد الساعة السادسة هذه الليلة بنفس المقهى الذي كنا جالسون فيه بالامس.
ميسون : ساكون هناك في تمام السادسة.
في الساعة السادسة الا ربعاً وقف ريان خارج المقهى ينتظر حبيبته وينظر الى هاتفه الذكي لانه لم يعد يرتدي ساعة يد. فالساعة كانت تعيقه وتشعره بالاختناق لانه لا يعتقد ان لها جدوى بعد ان ظهر الهاتف الذكي. بقي يتابع الثواني وهي تتقلب ببطئ شديد على شاشة جواله حتى شاهد من بعيد سيارتها الفضية تقترب وتقف امام المقهى. ولما نزلت من السيارة وهي ترتدي فستاناً وردياً طويلاً، راحت تتبختر بمشيها. بدأ قلبه يخفق بسرعة شديدة. بتلك اللحظة ود لو انه يستطيع أخذها بالاحظان فيرفعها من الارض ويدور بها ثم يمطرها قبلاً ساخنة لكنه اذكى من ان يفعل ذلك لانه في مكان عام ولا يجوز ان ينقاد لمشاعره. مد لها يده فامسكت بها بقوة لتصافحه وهي تبتسم ثم دخلا المقهى وجلسا على نفس الطاولة التي احتلوها بالامس قال،
ريان : أخبريني ميسونتي ماذا لديكِ؟
ميسون : لا، لا، أخبرني انت اولاً كيف جرى لقائك مع ابي؟
ريان : بالحقيقة ذهبت الى مكتبه نصف ساعة قبل الموعد وانتظرته في الشارع حتى وقفت سيارته الـ (بي ام دبليو) الزرقاء ونزل منها ابوك. حييته وصافحته فتعرف عليّ على الفور وأدخلني المكتب لكن تعابير وجهه لم تكن توحي بانه سعيد بلقائي.
ميسون : هكذا هو ابي، جدّي دائماً في البداية. ارجوك اكمل.
ريان : جلسنا بمكتبه قال، "سمعت من ابنتي انك قمت بالتحقيق على شريكي وليد ختايرة بالاردن عبر الانترنيت" فقلت نعم سيدي واخرجت له اصبع فلاش درايڤ صغير فيه كل المستندات التي قمت باستنساخها واعطيتها له. فتح حاسوباً محمولاً امامه وادخل اصبح الفلاش به وصار يتفحصه جيداً وبدأ يسألني عن النصوص والمستندات والرسائل الواحدة تلو الآخرى وكيف تحصلت عليها. ولما شرحت له الطرق الفنية لم يتمكن من فهمها لكنه على ما يبدو كان سعيداً جداً لانه اصبح يمتلك ادلة دامغة تدين شريكه وبالامكان ان تدخله السجن ليسترد امواله المسروقة. يبدو ايضاً انه كان في غاية السعادة وقتها وبقي يسألني عن كيفية لقائي بك.
ميسون : وكيف انتهت المقابلة؟
ريان : شعرت انه صار يراوده احساس بعلاقتنا العاطفية بالرغم من ان اي شيء من هذا القبيل لم يطرح باللقاء بتاتاً. والآن اخبريني انتِ ماذا حصل معكِ حينما عاد ابوك الى البيت بعد ان قابلني؟
ميسون : رجع ابي الى البيت ثم اتصل بمحاميه سمير العبد الله في عمان واخبره عن كل الادلة التي تحصل عليها منكَ وقال له بانه سيبعثها له بالبريد الالكتروني. وما ان استلمها المحامي وتفحصها بدوره حتى قال ان القضية اصبحت الآن رابحة 100% وانه سوف يتمكن من ارجاع امواله التي اختلسها منه شريكه والتي تقارب الـ 3 مليون دولار.
ريان : انا جداً سعيد بتلك الاخبار. وهل تحدث معكِ بخصوصي؟
ميسون : نظر الي بعد ان اغلق الخط مع المحامي وطلب مني ان اسدل الباب خلفي. عاتبني وقال، كيف سمحت لنفسك ان تزودي شخصاً غريباً كل تلك الاسرار عن عملي؟ ربما كان بامكانه ان يسبب المزيد من الاضرار. فقلت له بان شريكه قد اختلس جميع امواله وانه اصبح على الحديدة ولم يبقى له اي شيء يذكر. ماذا سيخسر لو علم ريان بذلك؟ ثم قلتُ، لا تنسى يا ابي انه انسان شريف وطيب ومحل ثقة.
هنا سألني ووجهه يعتليه الغضب وبصوت مرتفع سأل، "هــــــل لديك علاقة مع ريان يا ميسون؟" بالحقيقة ارتعدت وانتابني الخوف، ترددت قليلاً ولم اتمكن من الاجابه كنت اخشى من ردة فعله الغير متوقعة لكنني تشجعت بعدها وقلت له باني معجبة بك كشخص مهذب وطيب وشهم وذكي ولديك الكثير من الخصائل النبيلة. نظر بعيني ووجهه لازال غاضباً قال بنبرة جدية، "الحق يقال، انه زودني بمعلومات في غاية الاهمية حين تجسس على شريكي ومن خلالها تمكنت من تسليم الادلة للمحامي ليخبرني بان القضية اصبحت مضمونة وانه سيتمكن من استرداد الاموال المسروقة. فقلت له، "الا يسعدك ذلك؟ الا تريد ان يقف الى جانبك شخص شريف طيب خلوق مهذب شهم؟ هنا ازداد وجهه تجهماً حين قال، "اسمعي يا ميسون، تبيّنَ لي ان ريان كما وصفتيه لي حقاً على انه صانعٌ للمعجزات. وإذا لم تتزوجيه انت فسوف اتزوجه انا". هنا انفجرنا انا وابي من الضحك ثم احتظنني وقال، "اخبري امك كي تستعد حتى يأتي لتناول وجبة الغداء معنا الجمعة"، فسألته بكل غباء وانا لا اصدق ما ورد منه قلت، "الجمعة القادمة يا بابا؟" قال، "لا، الجمعة الماضية يا ذكية". صرنا نضحك اكثر واسرعت لاكلمك واخبرك بكل ما جرى بيني وبينه.
ريان : لا اصدق لا اصدق لا اصدق. انا اجريت بحثاً دام بضع ساعات على الكومبيوتر فحققت به نجاحاً كبيراً وتمكنت من ان افوز بك يا اعز مخلوقة عندي.
ميسون : وانا جداً سعيدة يا ريان. الف مبروك علينا نحن الاثنين. والآن هل ستستطيع ان تأتي يوم الجمعة؟
ريان : بالحقيقة، يوم الجمعة ليس مناسباً ابداً.
ميسون : لماذا؟ ماذا لديك حبيبي؟ ما هو الشيء المهم الذي يمنعك من المجيء؟ ما هو الشيء الذي هو اهم مني؟
ريان : لدي اجتماع وزاري سوف يحضره الوزراء لتوديعي لانني ساغادر حياة العزوبية.
ضحك الاثنان بصوت مرتفع فقالت،
ميسون : إذاً ساخبر والدتي بانك قادم الى بيتنا يوم الجمعة (الجمعة القادمة طبعاً).
ريان : طبعاً، ولكن ارجو ان تكثروا المشاوي ولا احب المقليات.
ميسون : يا سلام. وصرت تضع شروطك ايضاً؟
ريان : طبعاً لانني سارضى بابنتهم.
ضحك الاثنان من جديد فقالت،
ميسون : ارجو ان اتحدث معك قبل يوم الجمعة لانني ساشتاق اليك كثيراً.
ريان : وانا كذلك يا عمري. فانت دائماً ببالي يا حياتي.
في يوم الخميس خرج ريان من المحل مبكراً بعد ان تأكد ان الموظفات سيقمن باغلاق المحل بالوقت المحدد وتوجه الى الحلاق كي يحلق رأسه ثم عاد الى البيت فاستقبلته ام عمر وقالت،
ام عمر : انعم الله عليك بالحلاقة الجميلة. يبدو انك تستعد لموعد جديد مع حبيبة القلب هذه الليلة.
ريان : كلا يا خالتي، لقد دُعيتُ لتناول وجبة الغداء ببيتها غداً.
ام عمر : هذا شيء جميل وتطورات خطيرة على الساحة العربية والدولية. وكيف تمكنت من ذلك يا ملعون؟
ريان : طلب مني والدها ان اساعده بامور تقنية على الانترنيت هل تذكرين؟
ام عمر : اجل اذكر، وهل نجحت بذلك؟
ريان : اجل يا خالتي، لقد انقذته من سرقة كبيرة قام بها شريكه بعمان وسوف يتمكن من استرداد مبلغ كبير جداً بعد المحاكمة.
ام عمر : كم كان المبلغ؟
ريان : حوالي 3 مليون دولار.
ام عمر : يا محتال، لقد عرفت كيف تدغدغ قلب والدها لتفوز بابنته.
ريان : كنت سافعل ذلك حتى لو لم يكن والدها. واعني حتى لو كان شخصاً غريباً.
ام عمر : انا اعرفك جيداً يا ولدي لانك تحب عمل الخير.
ريان : شكراً خالتي على هذه الثقة.
ام عمر : بامكانك ان تصطحبني معك عندما تذهب لخطبتها.
ريان : وهل لي احد غيرك يا خالتي فانت اصبحت بمقام امي؟
ام عمر : وانت بمقام ابني كذلك يا حبيبي.
باليوم التالي كانت الاستعدادات تجري على قدم وساق في بيت ميسون لان والدها طلب منهم ان يغدقوا الكرم على ضيفه الذي قام بانقاذه من الافلاس ووفر عليه اموالاً طائلة وذلك باعداد افضل المأكولات الشهية بالمطبخ حتى اكملوا جميعاً مهامهم ليصبح الدار على اهبة الاستعداد لاستقبال الضيف المميز. وقبل موعد وصول ريان بربع ساعة وبينما كان الجميع جالساً بغرفة الاستقبال ينتظر قدومه، سمعوا رنين جرس الباب ففتحت الخادمة الباب ثم عادت واخبرت سيدة المنزل ان الابن الاصغر لجارهم المدعو فرات جاء يريد التحدث اليها. خرجت اليه ام ميسون فقال لها،
فرات : يا خالتي ام مسيون، تعالي بسرعة الى بيتنا فاخي يحتضر وامي بحالة يرثى لها، ابي يبكي بوسط الدار وانا لا اعلم ماذا افعل.
ام مسيون : انتظر يا ولدي فرات ساتي معك حالاً.
دخلت والدة ميسون الى بيتها وقالت،
ام ميسون : يبدو ان ابن جارنا الاكبر يحتضر وسيرحل قريباً. يجب ان اذهب لاقف معهم.
ميسون : ولكن يا ماما، ريان في الطريق وسيأتي الى هنا بعد قليل.
ام ميسون : سوف لن اتأخر. ساذهب لبت جارنا قليلاً ثم اعود. مجرد 5 دقائق انتظروني.
ميسون : إذاً ساتي معك انا ايضاً يا امي.
هنا صاح والدها من بعيد وقال،
والد ميسون : وانا كذلك خذوني معكم.
قالت ام ميسون لخادمتها،
ام ميسون : إذا وصل ضيفنا ريان. ادخليه غرفة الاستقبال وقدمي له الضيافة ولا تدعيه يخرج ثانية. اخبريه باننا عند الجيران وسنعود على جناح السرعة.
الخادمة : حسناً سيدتي ساخبره.
خرجت العائلة الى بيت جارهم المجاور فوجدوهم يبكون بدموع صامتة والاجواء يغمرها الحزن والكآبة. ولما رأتهم جارتهم مقبلين قالت،
الجارة : شكراً لكم على حضوركم. ابني حبيبي سيرحل عن قريب؟ ليتني كنت انا التي ساموت بدلاً عنه.
والد ميسون : لقد سمعنا وعصر قلبنا الحزن بذلك الخبر الاليم لكن ابنك المسكين يتعذب منذ امد طويل بسبب مرضه.
الجارة : الآن والده دخل معه بالغرفة. وشرع بكتابة وصيته.
والد ميسون : صبركم الله يا اختي.
ميسون : صبرك الله يا خالة.
والد ميسون : كان الله بعونكم. انها حقاً كارثة لا تحتمل.
بهذه الاثناء ومن ناحية اخرى وصل ريان الى بيت ميسون وضغط على زر الجرس ففتحت له الخادمة لتسمعه يقول،
ريان : انا اسمي ريان. جئت لالبي دعوة الاستاذ باسل العزاوي.
الخادمة : اجل، اجل، تفضل استاذ ريان.
دخل ريان وتبع الخادمة الى غرفة الاستقبال فوقفت امامه وقالت،
الخادمة : سامحنا يا استاذ ريان. لقد ذهب الجميع الى بيت جارنا الملاصق لهذا البيت لان ابنهم يحتضر وعلى وشك ان يغادر الدنيا الى دار حقه.
ريان : يا الهي. ربما يجب علي ان اذهب واعود بوقت لاحق.
الخادمة : لا، لا، الاستاذ باسل والعمة ام ميسون ينتظرانك منذ البارحة. انهم لن يتأخروا لدى الجيران وسيعودوا فوراً. تفضل بالجلوس.
ريان : هل ذهبت ميسون معهم؟
ابتسمت الخادمة لانها على دراية بعلاقتهما قالت،
الخادمة : اجل سيدي، ذهبت معهم لكنها تنتظرك على نار وستعود معهم بعد قليل. هل ترغب بشرب شيء؟
ريان : قهوة عربية لو تكرمت.
جلس ريان وحده في غرفة الاستقبال يعتريه الشعور بالاحراج. فالعائلة التي استدعته لتناول وجبة الغداء، رحل افرادها وابقوه جالساً وحده. هل يجوز ذلك؟ ربما ارادوا ان يوصلوا له رسالة بعدم رغبتهم باستقباله! ربما اخطأوا باستدعائه!
وبعد مرور اكثر من ربع ساعة دخلت ميسون البيت وقد بان على وجهها الحزن واحمرت عيناها من البكاء. لكنها فور دخولها تفاجأت بوجود ريان فذهبت اليه وقالت بصوت منخفض،
ميسون : اعتذر منك حبيبي، لقد كنت انا وابوي نواسي جارنا لان ابنه يحتضر.
ريان : اجل، اخبرتني خادمتكم بذلك. انه امر مروع. هل هو طفل صغير؟
ميسون : كلا، انه بسنك تقريباً (حماك الله). اصيب بمرض خبيث يدعى الالتهاب الشعبي الحاد (برونكايتس) مما جعله يرقد بالسرير لسنتين تقريباً وصارت تنتابه نوبات طويلة من السعال المرعبة ومع ذلك ورغم كل تحذيرات الاطباء لم يمتنع عن التدخين. احيانا كان يسب ويشتم الجميع ويتكلم بكلام بذيئ للغاية. واحيانا كان يعود الى طبيعته ويتحدث بشكل لائق. يبدو انه سيموت اليوم في اي لحظة لانه صار عاجزاً عن التنفس.
ريان : مسكين. كان الله بعونه وبعون ذويه.
بهذه الاثناء دخل والدي ميسون فقاموا بالاعتذار من ريان ليخبروه بما اخبرته به ميسون واضاف والدها قائلاً،
والد ميسون : حاول جاري كتابة وصية ابنه لكنه لم يتمكن من شدة حزنه إذ كانت يداه ترتعشان فقمت انا بكتابة الوصية بنفسي.
ميسون : اخبرنا يا بابا، ماذا قال فيها؟
والد ميسون : قال ان الله عاقبه لانه ظلم احد زملائه بالاعدادية وحطم مستقبله وحياته. فقد اتهمه بسرقة نص مليون دينار ليدخله السجن بسببها. وقال انه نادم على ما فعل.
بدأ ريان يستغرب من الكلام الذي يسمعه ويتململ ثم استجمع شجاعته وسأل،
ريان : ما اسم الولد الذي يحتضر يا عمي؟
والد ميسون : اسمه مثنى.
هنا انتفض ريان من مجلسه وفاجأ الجميع حين سأل،
ريان : هل هو مثنى احمد الخزعلي؟
ميسون : اجل، هل تعرفه يا ترى؟
ريان : وكيف لا اعرفه؟ انه هو الذي اتهمني ظلماً وعدواناً ودبر لي تهمة السرقة ليدخلني السجن لامكث فيه ثلاث سنوات كاملة وجعلني اخسر مستقبلي.
ميسون : يا الهي، ما هذه الصدفة العجيبة؟
والد ميسون : هل تريد ان تذهب اليه لكي يعترف امامك ويعتذر منك يا ابني؟
ريان : كلا يا عمي، لا اريد ان اقف امامه فيرق قلبي لحالته. لانني عندما كنت بالسجن، اقسمت اني ساحطمه وادمر حياته كما حطم حياتي.
والد ميسون : لكنك افضل من ذلك بكثير. فلو فعلتها لاصبحت شريراً مثله يا ابني. ساذهب الآن الى بيت جاري واخبرهم بما قلته لي للتو.
خرج باسل العزاوي والد ميسون مرة ثانية وعاد ليتحدث مع جاره. وما هي الا دقائق وعاد والد ميسون وبصحبته احمد الخزعلي والد مثنى فوقف امام ريان وقال،
احمد : السلام عليكم، انا احمد الخزعلي والد مثنى.
اجابه ريان بنبرة غضب كبيرة قال،
ريان : وعليكم السلام.
احمد : لقد أخبروني بما فعل بك ابني مثنى يا ريان في الماضي وهذا شيء مؤسف حقاً. انا اقدر حقدك عليه والمك منه لكنني اطلب منك ان تخلع حذائك وتضربني به بقدر ما تشاء كي تأخذ بثأرك منه.
ريان : حاشى لله يا عمي. يقول الله في كتابه العزيز، "لا تزر وازرة وزر اخرى".
احمد : لكن ابني الان على فراش الموت ولم يتوقف عن النطق باسمك فهو نادم على ما فعل ويريد ان يعترف لك بذنبه ويعتذر منك مباشرة. ارجوك يا ولدي تعال ودعه يستسمحك. انا اعرف ان ما فعله بك امراً مريعاً لا يغتفر ابداً لكنك انسان طيب ولك قلب كبير كالذهب. ارجوك يا ولدي تعال معي ودعه يعتذر منك ويطلب منك السماح.
ريان : انت تطلب مني المستحيل يا عمي. فمستقبلي الاكاديمي تدمر وعائلتي تشتت بسببه. كيف لي ان اغفر له ما فعل؟
احمد : كأبّ سيدفن ابنه باي لحظة، اطلب منك ان تمنحه جزء من كرمك فهو يموت يا ولدي. إنا سانحني لاقبل قدميك.
نظر ريان الى الارض وراح يفكر بصمت ثم رفع رأسه للسماء وتمتم بعض الآيات حين قال (فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ) نظر اليه ثم قال،
ريان : حسناً ساتي معك.
خرج الاثنان معاً وخرج خلفهما والد ميسون ليدخلوا غرفة مثنى ويقفوا جميعاً حول سريره. فتح مثنى عينيه بصعوبة فرأى ريان فتبسم بسمة فاترة ملؤها الوهن والتعب ثم قال،
مثنى : حمـ حمـ حمداً لله انك اتيت يا ريان. انا شخص سيء وشرير نذل. انا نادم على ما فعلت. ارجوك سا سامحني.
بقي ريان ينظر اليه بحقد كبير لكن قلبه رق بعد ذلك فادار رأسه بعيداً ثم قال،
ريان : سامحتك يا مثنى.
ابتسم كثنى في فراشه ابتسامة مقتضبة وقال،
مثنى : هل حقاً سامحتني من من من كل قلبك يا ريان؟
ريان : اجل سامحتك من كل قلبي فليسامحك الله.
ابتسم مثنى ورفع رأسه للاعلى وقال،
مثنى : حمداً لله، ساموت الآن ولا احمل ذلك الذنب العظيم فوق كتفي.
قالها ثم نطق الشهادتين وسلم الروح لخالقه.
صرخت والدة مثنى وصار جميع الحضور يبكي فاحتظن والد مثنى ريان وشكره على مجيئه. لم يتحمل ريان فصار يبكي هو الآخر على اثر بكائهم ثم استأذن وخرج ليترك العائلة تندب على ولدها وعاد مع والد ميسون. دخلا الدار فقال ريان،
ريان : سامحوني يا احبابي فانا يجب ان ارحل.
ميسون : لكنك لم تأكل بعد يا...
قاطعها والدها وقال،
باسل : دعيه يخرج يا ميسون. لقد مر بموقف صعب جداً. سنستدعيه بيوم آخر وبفرصة افضل.
خرج ريان وخرجت العائلة كلها معه لتودعه.
وباليوم التالي دخل باسل العزاوي والد ميسون الى بيت جاره ليحضر الفاتحة التي اقيمت على روح فقيدهم مثنى. جلس وقال، "رحم الله والديه القرا الفاتحة". فرفع جميع الحضور ايديهم وقرأوا الفاتحة. فصار يستمع الى القرآن الكريم وهو يرتل ويسبح بسبحته السوداء المرصعة بحبات الفضة. وبعد قليل اقترب منه شاب يحمل صينية فيها فناجيل قهوة وعرضها على باسل فرفع رأسه لينظر بوجه الشاب الذي يحمل الصينية واذا به ريان. اجل ريان لا غيره جاء ليقف مع عائلة مثنى. ابتسم بوجهه واخذ فنجانا منه وشكره وقال،
والد ميسون : انت انبل انسان رأيته في حياتي.
<<<<<<<<<
بعد مرور سنتين على وفاة مثنى.
دخلت ميسون غرفة نومها فرأت زوجها ريان لازال في السرير قالت،
ميسون : هيا يا حبيبي انهظ من السرير ستفوتك المحاضرة الاولى عن الذكاء الصناعي. فانت تنتظرها منذ وقت طويل.
ريان : ليس لدي الطاقة كي انهظ. اريد منك قبلة ساخنة كي تشحنني.
ميسون : حسناً ساقبلك قبلة واحدة فقط ولكن دون تبعاتها مفهوم؟
ريان : مفهوم.
قبلته قبلة ساخنة لكنه على ما يبدو كان لديه نوايا اخرى الا انها صرخت به وقالت،
ميسون : الظاهر انك لا تشبع. انهظ يا محتال فان عليّ ان ارضع ابنتك رزان المجنونة التي لا تشبع ابداً مثل ابيها.
ريان : ابنتي وحدي انا يا عمري؟
ميسون : بل ابنتنا الجميلة. رزان ابنة ريان. آخ منك يا رزان.
دخل ريان الحمام واغتسل ثم عاد وارتدى ملابسه وهم بالخروج لكنها نادت عليه من جديد فالتفت وقال،
ريان : ما الامر؟ ماذا تريدين؟
ميسون : لا تنسى ان تجلب معك فخذ غنم من الجزار عند عودتك من الجامعة فاليوم لدينا زائرنا المميز الذي سيتعشى عندنا.
ريان : اجل وانا انتظر زيارة معلمي صالح الذي جاء من هولندا على احر من الجمر. ساشتري اللحم من شارع 52 لدى عودتي من الجامعة لكنني قبل ذلك سامرؤ على المحل لاتفقد الامور هناك.
...تمت...
4791 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع