د.رعد العنبكي
في صباح الباكر من اليوم الرابع من نيسان 1939 ايقضني المرحوم والدي ليخبرني بانه قد شاهد من شرفته المطلة على شارع الامام الاعظم في الصرافية بعد منتصف الليل موكبا مكونا من عدة سيارات مدنية وعسكرية وسيارات شرطة يتقدمها نعش ملفوف بالعلم العراقي متوجها نحو البلاط وان الوضع في الشارع غير طبيعي..
واضاف : ( يمكن الملك مات!! )
فبقينا ننتظر على مضض موعد افتتاح محطة اذاعة بغداد ..فتحت الاذاعة في الوقت المعين بتلاوة من اي الذكر الحكيم ثم اخذ المذيع يذيع بصوت متهدج وحزين البيانات الرسمية :
فقد نعى البيان الاول وفاة الملك غازي على اثر اصطدام السيارة التي كان يقودها بعمود الكهرباء بالقرب من قصر الحارثية وذلك في الساعة الحادية عشرة والنصف من الليلة الماضية ،ثم تلا البيان المتضمن تقرير الاطباء الذين فحصوا الملك ثلاثة منهم من العراقيين من ذوي السمعة الحسنة هم
الدكاترة : صائب شوكة وصبيح الوهبي وجلال حمدي واثنان من الانكليز هما : الدكتور سندرسن طبيب العائلة المالكة والدكتور براهام الاخصائي في الجراحة بالمستشفى الملكي
وقد جاء في تقرير الاطباء ان الوفاة قد حصلت من جراء كسر شديد في الجمجمة وتمزق في المخ عندما كان الملك يسوق سيارته بنفسه فاصطدمت بعمود الكهرباء بالقرب من قصر الزهور
ثم تليت البيانات المتعلقة بتنصيب ولي العهد فيصل الثاتي ملكا على العراق وتسمية خاله الامير عبد الأله وصيا على العرش ودعوة مجلس النواب واعلان الحداد العام والاحكام العرفية الى غير ذلك من البيانات التي
تقتضيها مثل هذه الحالة الاستثنائية التي فاجاءت البلاد عبر الليل وقبل ظهر يوم4 نيسان 1939 انتظمت البغداديات في حلقات مقابل دارنا في الصرافية ونصبن ( جاينه ) تتوسطهن ( عداده ) تعدد مناقب الملك الشاب وقد حزمن بعبيهن ولطمن صدورهن وبعضهن رحن يمزقن ( زياكهن ) ويصرخن باعلى اصواتهن ( يبو ---- يبو ) ثم يتبع ذلك ضرب على الصدور باليدين مصحوب بنفثات وزفرات ( اوحو------ احو ) تخرج من اعماق افئدتهن وما فتئت امثال هذه الحلقات تتكاثر حتى شملت شارع الامام الاعظم من باب المعظم حتى البلاط الملكي
ما ان اذيعت هذه البيانات حتى هاجت بغداد عن بكرة ابيها فاخذت الجموع الزاخرة تتوجه الى البلاط على شكل مظاهرات ومسيرات تحمل اللافتات الحزينة وتردد الهوسات المثيرة
وكان منظر البغداديات اكثر المشاهد التي تركت في نفسي اثرا بليغا وابكتني كثيرا فقد انتظمن امام دارنا في الصرافيةعلى شكل حلقات وعملن ( جاينه ) و (لطميه ) تتوسطهن ( عداده ) تحزمت بعباءتها وكلهن قد لطخن جباههن ورؤوسهن بالطين وخهن يصرخن ( يبو----يبو ) ويكفخن رؤوسهن ويلطمن صدورهن كلما نطقت العداده ارجوزه مؤثره في تابين الملك الشاب وتعداد مناقبه وبغدادياته ومن يسمع تلك العداده ومن يشاهد ذلك المشهد لا يتمالك الا ان ( يكهد ) بالبكاء مهما حاول ضبط عواطفه والسيطره على اعصابه
وما ان انتصف النهار الا وبغداد كانها في يوم الحشر لقد كان ذلك النهار كئيبا وحزينا لفقد الملك الشاب ومغبرا وثقيلا من جراء الرياح الشرقية – الشرجي – التي اجتاحت بغداد في ذلك اليوم..
وفي اليوم التالي الموافق 5 نيسان جرى التشييع الرسمي لجثمان الملك الذي كان مشجى في صالة العرش في البلاط منذ فجر ليلة 4 نيسان في تشييع مهيب ومنتظم من البلاط الملكي الى المقبرة الملكية في الاعظمية وقد اشتركنا انا وجلال الحنفي في التشييع...
وفي اليومين التاليين استقرت الاحوال في بغداد بعد اعادة تاليف الوزارة فاصبح في الامكان الطواف بالسيارات في الشوارع وكان اول عمل قمت به هو التوجه الى قصر الزهور لاءقف بنفسي على تفاصيل تلك الحادثة المروعه التي رجت العراق من اقصاه الى اقصاه شاهدت السيارة الحمراء المكشوفة ( ام التنته ) ( كونفر تبل ) من نوع ( هدسون ) جاثمة على دواليبها الاربعة الى يمين الشارع على ارض رطبه وغير مبلطه وعلى مقعديها الامامي والخلفي بقع من الدماء وشاهدت عمود الكهرباء الملتوي والمقلوع من الارض مع قاعدته الكونكريتية من شدة الاصطدام فوق السيارة وعليه اثار من الدم اليابس والمخ وبعض الشعر وشاهدت الاسلاك الكهربائية متقطعة وشاهدت الزجاجة الامامية محطمة ومقود السيارة ( ستيرن ) ملتويا ولاحظت الشارع المنحدر من تقاطع الطريق مع سكة القطار والذي كان انحداره فيما يبدو السبب في انزلاق السيارة المسرعة المتوجهه من قصر الزهور الى قصر الحارثية وارتطامها بعمود الكهرباء ربما بسبب عدم تمكن الملك من السيطرةعليها في تلك الساعة المتاءخرة من الليل وهو مخمور مقدمتها باتجاه قصر الحارثية ومؤخرتها باتجاه قصر الزهور..
بعد هذه المشاهدة الدقيقة عدت من موقع الحادثة وقد تكونت عندي شبه قناعة عن الحادثة واسبابها والظروف المحيطة بها وعلى الرغم من اربعين عاما على وقوعها ورغم كثرة ماقيل وكتب عنها من يوم وقوعها حتى يوم الناس هذا فهي لم تتغير لقد زعم فريق من الناس انها امر دبر بليل وادعى فريق اخر
انها قضاء وقدر ان الاسترسال بهذا الموضوع ومناقشة وجهة نظر كل من الفريقين يبعدني كثيرا عن موضوع هذا الكتاب
هذا ولكم مني فائق الشكر والامتنان لااعطائي هذه الفرصه لكي انقل هذا المقال للاستاذ المرحوم امين المميز من كتاب ( بغداد كما عرفتها ) ....
ولكم مني اطيب المنى
اخوكم المخلص
الدكتور
رعد العنبكي
772 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع