الأستاذ الدكتور باسل يونس ذنون الخياط
أستاذ مُتمرِّس/ جامعة الموصل
في رحاب سورة الكهف.. الجزء الثالث
لقد كان السؤال الثاني الذي سُأل به رسول الله (ﷺ) عن رجل طوّاف بلغ مشارق الأرض ومغاربها، ما كان نبؤه؟ فكان الجواب المُنَزّل على النبي الكريم (وَيَسْأَلُونَكَ عَن ذِي الْقَرْنَيْنِ ۖ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُم مِّنْهُ ذِكْرًا) (الكهف: 83).
لقد أثارت حقيقة شخصية ذي القرنين جدلا واسعا، وتعتقد المصادر المسيحية واليهودية أن ذي القرنين هو الإسكندر المقدوني (356-323 ق.م) الذي فتح العديد من البلدان، وتسمّت باسمه مدينة الإسكندرية المصرية، وقد توفي في مدينة بابل.
إلا أن العديد من المصادر الإسلامية لا تتفق مع هذا الرأي وذلك لأن الإسكندر المقدوني كان كافرا، في حين أن ذي القرنين المذكور في القرآن كان مؤمننا.
من أرجح الآراء المُعتمَدة حاليا في المصادر الإسلامية عن حقيقة ذي القرنين، ما توصل إليه العالم الهندي محيي الدين أحمد بن خير الدين (1888-1958م) والمشهور بلقب (أبو الكلام آزاد) وذلك لكونه خطيباً بارعاً.
لقد كتب وزير أوقاف مصر السابق الدكتور عبد المنعم النمر (1913ـ1991) مقالا مفصلا عنوانه (ذو القرنين شخصية حيّرت المفكرين أربعة عشر قرنا وكشف عنها أبو الكلام أزاد)، نقتطف منه الآتي.
لم يرتض أبو الكلام آزاد الأقوال التي قيلت لتحديد شخصية ذو القرنين لأنها قامت على افتراض مخطئ لا يدعمه دليل، ولا يمكن أن يكون بأنه الإسكندر المقدوني، إذ لا تُعرف له فتوحات بالمغرب، كما لم يُعرف عنه أنه بنى سدا، ثم إنه ما كان مؤمنا بالله، ولا شفيقا عادلا مع الشعوب المغلوبة، وتاريخه مدون معروف.
كما أنه لا يمكن أن يكون عربيا يمنيا لأن سبب النزول هو سؤال اليهود للنبي عليه الصلاة و السلام عن ذي القرنين لتعجيزه وإحراجه، ولو كان عربيا من اليمن لكان هناك احتمال قوي لدي اليهود أن يكون عند قريش علم به، لكنهم كانوا متأكدين حين سألوه بأنه لم يصله خبر عنه.
لم يتمكن المفسرين من الوصول إلى نتيجة مقنعة في بحثهم عن حقيقة ذي القرنين: القدماء منهم لم يحاولوا التحقيق، والمتأخرون حاولوه، ولكن كان نصيبهم الفشل لأن الطريق الذي سلكوه كان طريقا خاطئا.
إن السؤال عن ذي القرنين كان من قبل اليهود الذين مصدرهم الأول هو التوراة، فقام أبو الكلام آزاد فقرأ وبحث ووجد في الأسفار، ما يشير إلى أصل التسمية: “ذي القرنين” هو الملك الذي أطلقوا عليه هذه الكنية: هو الملك "كورش".
لم يكتفي أبو الكلام آزاد بتلك النتيجة، وبعد سنوات تمكن أبو الكلام آزاد من مشاهدة آثار إيران القديمة، وعلم بعد مطالعة مؤلفات علماء الآثار فيها وجود تمثال للملك يظهر فيه الملك كورش وعلى جانبيه جناحان، كجناحي العقاب، وعلى رأسه قرنان كقرني الكبش: ومن هنا جاءت التسمية (ذي القرنين).
فهذا التمثال يثبت بلا شك أن تصّور "ذي القرنين" كان قد تولد عند كورش، ولذلك نجد الملك في التمثال وعلى رأسه قرنان، أي ذو التاج المثبت علي ما يشبه القرنين. وكان (ذو القرنين) هو ملِك صالح أُعطي العلم والحكمة، وكان عادلاً كما قال الشاعر:
قد كان ذو القرنين قبلي مسلمً ... ملكاً علا في الأرض غير مفنَّدِ
بلغ المشارق والمغارب يبتغي ... أسباب مُلكٍ من كريمٍ سيدِ
https://www.youtube.com/watch?v=K2Ujhfzm7mg
لقد ظهر كورش في منتصف القرن السادس قبل الميلاد في وقت كانت فيه بلاده منقسمة إلي دويلتين تقعان تحت ضغط حكومتي بابل وآشور القويتين، واستطاع توحيد بلاده تحت حكمه وضم إليها البلاد شرقا وغربا بفتوحاته التي أشار إليها القرآن الكريم.
لقد أسس كورش أول إمبراطورية فارسية، وحين هزم ملك بابل سنة 538 ق.م. أتاح للأسرى اليهود فيها الرجوع لبلادهم، مزودين بعطفه ومساعدته، وظل كورش حاكما فريدا في الشرق حتى توفي سنة 529 ق.م.
سد يأجوج ومأجوج:
لقد بنى كورش سد لمنع الغارات التي كانت تقوم بها قبائل يأجوج ومأجوج من الشمال على الجنوب. يقول (أبو الكلام آزاد): "لقد تضافرت الشواهد عليّ أنهم لم يكونوا إلا قبائل همجية بدوية من السهول الشمالية الشرقية، تدفقت سيولها من قبل العصر التاريخي إلى القرن التاسع الميلادي نحو البلاد الغربية والجنوبية، وقد سُميت بأسماء مختلفة في عصور مختلفة، وعرف قسم منها في الزمن المتأخر باسم التتار في آسيا، ولاشك أن فرعا لهؤلاء القوم كانوا قد انتشروا على سواحل البحر الأسود في سنة 600 ق.م".
لقد أغارت قبائل يأجوج ومأجوج على آسيا الغربية نوزلا من جبال القوقاز، ولنا أن نجزم بأن هؤلاء هم الذين شكت الشعوب الجبلية غاراتهم إلى الملك كورش، فبني السد الحديدي لمنعها، وتُعد هذه البقعة الشمالية الشرقية الموطن الأصلي لقبائل يأجوج ومأجوج؛ وهي (منغوليا) وقبائلها الرحالة هم (المنغول).
مكان السد:
حدد (أبو الكلام آزاد) مكان السد بأنه في البقعة الواقعة بين بحر قزوين والبحر الأسود، حيث توجد سلسلة جبال القوقاز بينهما، وتكاد تفصل بين الشمال والجنوب إلا في ممر كان يهبط منه المغيرون من الشمال للجنوب، وفي هذا الممر بني كورش سده، كما فصله القرآن الكريم، وتحدثت عنه كتب الآثار والتاريخ.
ويؤكد (أبو الكلام آزاد) كلامه بأن الكتابات الأرمنية تسمي هذا الجدار أو هذا السد من قديم باسم (مضيق غورش) أو (ممر غورش)، كما سمي هذا المضيق باللغة الجورجية من الدهور الغابرة باسم (الباب الحديدي).
يأجوج ومأجوج:
يرد مصطلح (يأجوج ومأجوج) في التوراة والإنجيل، كما يرد في القرآن الكريم في سورة الكهف. لقد وصف رسول الله (ﷺ) (يأجوج ومأجوج) وهو عاصب رأسه من لدغة عقرب فقال: (إنكم تقولون لا عدو! وإنكم لن تزالوا تقاتلون حتى يأتي يأجوج ومأجوج: عراض الوجوه، صغار العيون، صهب الشغاف، ومن كل حدب ينسلون، كأن وجوههم المجان المطرقة).
وقوله (صهب الشغاف) يعني لون شعرهم أسود فيه حمرة، و(كأن وجوههم المجان المطرقة) المجن الترس وشبه وجوههم بالترس لبسطها وتدويرها وبالمطرقة لغلظها وكثرة لحمها، و(من كل حدب ينسلون) أي من كل مكان مرتفع يخرجون سراعا وينتشرون في الأرض.
روت أم المؤمنين السيدة زينب بنت جحش (رضي الله عنها) أن النبي (ﷺ) دخل عليها فزعا يقول: (ويلٌ للعرب من شرٍّ قد اقترب، فُتح اليومَ من ردمِ يأجُوج ومأجوج مثلُ هذه: وحلَّقَ بإصبعه الإبهام والتي تليها).
ومن علامات القيامة الكبرى خروج يأجوج ومأجوج بحيث لا تقدر البشرية بكل قوتها على صدّهم وردّهم، وصدق الله العظيم وصدق كتابه الكريم في كل كلمة من كلماته وكل حرف من حروفه.
https://www.youtube.com/watch?v=qMELanoIiPs&t=117s
554 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع