ناجي جواد
حكايتي مع السجاد ... في بغداد
دَوّنَ المرحوم ناجي جواد الساعاتي في نهاية عقد الثمانينيات من القرن المنصرم هذه المقالة تم إعاد طباعتها وزينها بصورعراقية منقوشة على السجاد
ولده البكر شوقي
وصلت هذه الحكاية إلينا من:إبنة عمتي أحلام عبد الجبار عبد اللطيف الساعاتي
يقول ناجي جواد وكما هو مُؤيد من الصورة الملحقة في نهاية الحكاية
بدأت حكايتي ... منـذ كنت طفلا تهدهـد أجفاني حكايات جدتي ... عن السندباد البحري، وكيف حلق به (بساط الريح) فوق قباب بغداد ... فطار في سماzها الصافية، وعَبَر منها حول البحار والقفار.
وعندما صَحبتُ إخوتي إلى السوق، حيث تنتشر (دكاكينهم) رحت أقضي حوائجهم، فإذا ما نفحني أحدهم (اﻵنة: العملة المتداولة آنذاك) إتجهت بها إلى سوق (القبلانية) ﻷبتاع لي كُباية من أبو علي حيث يدس يَدهُ في (النجانة) البرنزية من خلال غطائها الجنفاص (الكونية) فيتصاعد البخار المشبع بعطر التوابل الهندية، فأقضمها (شوية ... شوية) وأتطعمها بشهية ... وعندما يتلذذ الفم واللسان، تنتشي النفس وتتفتح العيون ... عندها أُمتع ناظري بألوان السجاد (الزوالي) الفاخر، تُطرز محل الحاج طه السعيد. وبإعتقادي أنه الرائد اﻷول لتجارة السجاد في الثلاثينيات، ثم إنتقل إلى شارع الرشيد حيث إستقر محلّه الكبير الذي يَغص بالسجاد النادر مقابل سينما الحمراء (موقع البنك المركزي حالياً)، ثم تبعه ولداه (ناجي طه السعيد) في سوق اﻷمانة ذلك الضابط الشهم والصديق الندب، و(سعيد طه السعيد) التاجر الحقوقي رحمه ﷲ وأحسن اليه، في شارع السعدون.
وفي بداية اﻷربعينيات شاهدت محلات أخرى للسجاد (الزوالي) تنتشر حول (المدرسة المستنصرية) في (سوق الكمرك) و(خان الكمرك) و (خان جغان) و(سوق هرج) و(الصفافير) فأتذكر جيداً محلات (محمد علي فيلي) وأوﻻد شقيقه حسين وهم (عباس فيلي) و(حميد فيلي) وشركة (عبد اﻷمير علي وعبد الغني عباس) و(الحاج حسين الطعان) و(مصطفى عبد الحسين) و(عباس الرواف) طيب ﷲ ثراه، ثم محلات (الحاج حميد جنكي) و(عبد الرزاق اﻷطـرقجي) الذي إقتبس تجارته ولده (نوري)، وجارنا في المحل والدار (الحاج مجيد المغازجي) والد اﻹخوان (حميد المغازجي وكاظم وناجي وجواد) و (مغازة الحاج عبد المجيد أبو تراب) و (إسـماعيل الـزنكبتلي) و(الحاج نجم اﻷطرقجي) والد الصديق الفنان (حامد اﻷطرقجي) طيب ﷲ ثراه. وفي بداية الخمسينيات أفتتح الصديق (خضير عباس اﻷطرقجي) رحمه ﷲ محلات للسجاد في سوق الكمرك، كما أشتهر التاجر الشاب (جمشيد كاشي( بعرضه أفخر أنواع السجاد، فتدرب على يده صديقنا العقيد (إبراهيم حمادي الجنابي) ثم شجعه على تجارتها، حتى فتح له محلا أنيقاً في (شارع السعدون( إشتهر بعنوان (خان السجاد). وعندما عُين الجنابي مديرا للسجون عام 1963 طور معمل سجاد السجون وجلب الخبراء والمتخصصين في صنع السجاد، كما أدخل التراث على هذه الصناعة، إذ طعّمَ السجاد بمعالم العراق الأثرية التي ترمز الى حضارة وادي الرافدين العريقة، مثل اسد بابل، القيثارة، والملوية وملكة الحضر والثور المجنح.
ويتلو الجنابي في الدراسة والعناية في تجارة وصناعة السجاد التاجر المثقف يوسف رامز بيو، الذي إقتبس هذه الخبرة عن عمه اﻷسـتاذ قسطنطين بيو، حيث كانت هوايته السجاد اليدوي، فسرت التقاليـد العائلية إلى إبن أخيه يوسف الذي راح يجمع السجاد (الزوالي) من اﻷسـواق، كما أخذ يفتش عن الكتب والمظان التي تبحث عن فن صناعة السجاد اليدوي، فإبتاع أندرها وطالع أكثرها، حتى شاهدته يفتح محلا عام 1957 في شارع المستنصر ثم إنتقل إلى محله البديع في شارع السعدون الـذي يحتـوي إضافة إلى المجموعـة القيمة من السجاد، على مكتبة في الركن الهادئ تضم بين دفتيها نخبة من الكتب والمظان باللغة الفرنسية واﻹنكليزية، تبحث عن فن صناعة السجاد اليدوي، وأكثرها تحمل عنوان السجاد الشرقي، وهـذا مـا يعـزز الرأي القائل بأن السجاد اليدوي، صناعة شرقية. وكانت حصيلة مطالعته لهذه الكتب وتلك الخبرة بهذه الصنعة أن نَشر مقاﻻً في مجلة التراث الشعبي حول صناعة السجاد، كما ألقى محاضرات باللغة العربية والفرنسية واﻹنكليزية، وأطلعتني كريمته ليلى على مخطوط ديوان شعر باللغة الفرنسية نظمه والدها اﻷلمعي (ملحمة كلكامش) جارى فيه الملحمة التي عثر عليها شعراً باللغـة السومرية، وترجمها نثراً المرحوم طه باقر إلى اللغة العربية.
ولما طرق سـمعي عن نشاطات الصالة البغدادية الثقافية التراثية التي نظمها الدكتور طالب البغدادي، حيث أقام معرضاً للسجاد في فندق شـيراتون خلال مهرجان بابل الدولي، كما شـيد قاعـة خاصة للمزاد العلني على غـرار المزايدات العالمية التي تجري في العواصم اﻷوربية، كما يَعقدُ ندوات يتحدث خلالها عن التراث الشرقي وصناعة السجاد وتعـرض كذلك سلايدات توضيحية، راق لي زيارة البغدادي في صالته ﻷطلع على معروضاتها التراثية، وأقلب ناظري بين سجادها الشرقي، كما أجدد العهد بحكم الجيرة الصافية، وروابط الصداقة الصادقة التي ربطتني بخيط من حرير مع آل البغدادي منذ عشرات السنين.
وبالرغم من الشهرة العريضة التي تمتلكها إيران في صناعة السجاد، إﻻ أننا يجب أﻻ يغيب عن البال بأن هـذه الصناعة اليدوية لم تقتصر على إيران وحدها فحسب، فهناك السجاد الصيني والتركي والروسي في بخارى وأرمينيــة وقفقاسية وتركستان، كما يُصنع السجاد في أفغانستان وباكستان والهند حيث جلب شاه جهان عماﻻً وخبراءً ليدربوا شبانا من الهنود في كشمير كي يصنعوا سجاداً فاخراً لتاج محل حيث شيد مرقد زوجته ممتاز، ولذا نجد فن صناعة السجاد مزدهراً حتى يومنا هذا في هذه المدينة التي إمتازت بصوفها الناعم وسمي بإسمها (كشمير).
وعند زيارتي للمتحف الوطني في تونس شاهدت مجموعة من السجاد القديم عَثر َ عليها المنقبون اﻵثاريون، وقد خُصت في قاعة مكيفـة في المتحـف. كما أن فن صناعة السجاد اليدوي إنتشر في ليبيا والجزائر ومراكش. وقـد شاهدت عند زيارتي للقدس الشريف السجاد المراكشي الفاخر بلونه اﻷحمر القاني يطرز صحن المسجد اﻷقصى، كما وشيء مصلى جامع جنيف به.
وفي أثناء رحلاتي الشيقة، لفت نظري نماذج رائعة من السجاد النفيس تزينان مقر هيئة اﻷمم المتحدة في نيويورك، كما شاهدت سجادة صينية الصنع كبيرة الحجم بديعة اﻷلوان وشح بها أحد جدران المقر اﻷوربي لهيئة اﻷمم المتحدة في جنيف.
ونظراً ﻷهمية السجاد في العالم كصناعة يدوية وتجارة مُجدية، لذا نجد الكتاب الغربيين قـد أشبعوها بحثاً ودراسة، فألفوا فيها الكتب، وكتبوا فيها المقاﻻت في العديد من اللغات. ففي اللغة اﻹنكليزية ألف اﻷسـتاذ جارلس جاكوبسن كتابه الموسوم السجاد الشرقي، بعد دراسة دامت أربعين عاماً، وأهم كتاب نُشر في اللغة اﻹنكليزية أيضاً ألفه اﻷستاذ سيسيل أدورد.
وكم أتمنى أن يتصدى أحد الخبراء من التجار أو الهواة فيتحف مكتبتنا العربية بكتاب يشرح فيه تأريخ السجاد ودقة صناعته في العقد واﻷلوان، حيث يُقال بأن السجاد ولد مع حضارة اﻹنسان منذ تعلم حرفة الحياكة اليدوية لحياكة ملابسه، فاستغنى عن جلد الحيوان، ثم بدأ بحياكة البُسط التي برعت اليد العراقية بصناعتها منذ القدم، واليوم أدهشت اﻷوربيين بفنها التشكيلي وألوانها الفولكلورية، لذا تعد مورداً طيباً لصادراتنا العراقية، ومفخرة من مفاخر صناعاتنا الوطنية.
700 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع