د يسر الغريسي حجازي
دكتوراه في الفلسفة وعلم النفس الاجتماعي
مستشارة نفسية ومدربة نظامية
20.12.2024
الحرب وثقافة القسوة
"نحن جميعا بحاجة للتعبير عن أنفسنا. التحدث هو حاجة نفسية أساسية، والاستماع إلينا دون الحاجة لإلقاء الاحكام المسبقة علينا هو أمر مريح حقًا. كيف يمكننا أن نتعامل مع مخاوفنا؟ لماذا السخرية والتنمر على من يعيش خيبات الأمل؟ لماذا يتطلب منا أن نخفي اليأس والحزن؟ الا انها صفات تعلمناها منذ الطفولة، وهي بمثابة قوالب نمطية علمتنا أن كل مشكلة نعيشها هي سوء حظ يمكن أن يجلب السعادة للآخرين. لهذا السبب علينا ان نتقبل القدر، لنعيش حياة مزدوجة وخفية عن الاخرين. هذا ما يجعلنا نخفي مشاعرنا ولا نستطيع التحدث عن الرهاب الذي نتعرض اليه، حتى لا نكسر هذه المعتقدات التي دمرت شعوبا بالكامل. بينما الحلول موجودة في عقل الانسان، الا فضلنا ان نعيش في المشاكل وان لا نجد الحلول. علي سبيل المثال: يمكن للحكومات ان تصنع حياة رغيدة لشعوبها، كما يمكنها ان تصنع الحزن والكآبة لهم بدل من ان تجعل من حياتهم ثقافة التفاؤل وفن العيش للجميع".
إن قول: "هنا يكمن الخلل" يعني أننا وجدنا سبب المعاناة (النفسية بشكل عام)، أو النقطة الحساسة لدي الانسان، أو تشخيص المشكلة بشكل عام.
ويعود هذا التعبير إلى العصور الوسطى، عندما كانت البغال والحمير تستخدم لنقل البضائع. وبالتالي فإن العبوة عبارة عن هيكل خشبي يوضع على ظهر الحيوان، ويسمح بربط الأحمال على كل جانب. والحيوانات التي كانت عبواتها فضفاضة أو محملة أكثر من اللازم، كانت تعاني من تقرحات تجعلها تتألم. ومن هذه القصة ظهرت عبارة "هنا يكمن الخلل". وفي الحقيقة، تم اعتماد هذا القول للتعبير عن المعاناة الإنسانية.
وهو في الحقيقة إشارة إلى جانب غامض في الشكل والتفسير، وكأن الإنسان لا يستطيع التغلب على مشكلته. علي سبيل المثال ان البهائم ليس لديهم خيار، سوى حمل البضائع على ظهورهم بسبب عدم القدرة على الرد والتعبير عن معاناتهم.
وهذا بالضبط ما يحدث للبشر، الذي من ناحية لديه القدرة على التعبير عن نفسه ومن ناحية اخري لا يري كيف يفعل ذلك. وبطريقة تلقائية، يوافق الانسان على تحمل الأعباء النفسية ووضعها على حسابه الخاص. ويتم التعبير عن الألم على أنه صدى يؤثر على الإنسان في قيمته الأخلاقية.
ومن هنا تم فرض الألم والعجز عن إيجاد الحل المناسب.
ما هو غير مقبول بالنسبة لنا؟ هو أن نجد أنفسنا متورطين في وضع غير مرغوب فيه، حتى لو كنا لا نريد ذلك. نحن لا نختار أن نجد أنفسنا في موقف يرثى له، تماما كما لا نختار تجربة التعذيب النفسي.
إن المعاناة التي تفرض نفسها علينا مثل الحروب ومعاناة النزوح، هي مؤلمة ومضاعفة لأنها تدمرنا داخليا. إنها تختزلنا إلى ظل أنفسنا، وتقودنا الي الاجترار، وتضربنا على رؤوسنا مثل المطرقة، وتعزلنا عن واقع العالم من حولنا. وهذا يمكن أن يؤدي بنا الي الشعور بمرارة الحياة، وحالة الكآبة وإلى فقدان حماس الحياة. نعلم جميعًا أن المعاناة النفسية مرتبطة أكثر شيء بالأحداث الصعبة مثل الكوارث، والخضوع الي سوء المعاملة والعنف، والجوع والدفيء، والتعرض الي الموت في كل ثانية. لمن بالضبط يجب أن نستمع؟ لمعاناتنا أم للمنطق السليم؟ وإذا تتفاقم المعاناة وتتحول إلى مرض نفسي، يمكنها أن تتطور الي الصدمة، والي رهاب، والي احباط نفسي إذا يتم الصمت عليها.
اما الانغماس في الذات، يمكن أن يسبب التسويف وقبول دور الضحية، مما يؤدي إلى تدهور الصحة العقلية والجسدية. ولهذا السبب، علينا التحرك قبل فوات الأوان.
سيؤدي هذا التسمم الفكري إلى التراجع تجاه مجتمعات مزقتها حكوماتها وسببت لها الأذى والمعاناة.
هناك ضرورة في ايجاد المساعدة والتحرك، وتعلم كيفية إدارة عواطفنا، من اجل التمييز بين الخير والشر ورفض الشر بدلا من ان نتعاش معه. فتاتي الأفكار، والحلول المناسبة، وتوقف المعاناة.
حتى لو قبلنا بالتعايش مع المعاناة فهي لن تختفي، بل على العكس ستظهر وبأكثر قوة كلما واجهنا صعوبة حياة جديدة. اما التجاهل ليس حلاً، بل وسيلة لتطوير الألم والمعاناة.
غالبًا ما تؤدي الصدمات النفسية إلى اضطرابات شخصية عند الانسان وفي مراحل حياته المختلفة. في مفهوم هوية الانسان: الهوية تعكس الشعور بالوجود، والشعور بالوحدة والتماسك الذي يمكن أن يحدده بشكل خاص في شخصيته، وجوهره، وأخلاقه، وفي المجتمع الذي ينتمي إليه. وفي حالات التوتر الشديد يشعر الانسان الذي يتعرض للصدمة، بإحساس تجريد كرامته، والإهانة، وفقدان سبب وجوده. وفي الوقت نفسه هناك انهيار في القيم الشخصية
والاجتماعية، بسبب أن خطر الوفاة مرتفع. ولذلك يعيد الفرد بناء نظام آخر من القيم ويغير أسلوب عيشه ويتعرف على نفسه في هوية جديدة (تاركوينيو، واكسيمري،2002: من الهوية الصادمة الي شخصيات متعددة).
من وجهة نظر فلسفية، “إن حالة اللاأخلاقية تكمن دائمًا في عدم الرغبة في الاعتراف بالتفكير على اننا نفكر، إضافة للحكم الداخلي” (إميل شارتي، 1968).
كيف يفكر البشر عندما يتعرض الي القسوة؟ في شكل الألم الشديد وفرض ممارسة القسوة على الضحايا كما هو الحال في الحروب، فإن شكل العجز عن الدفاع عن النفس يدمر الشعور بالهوية، بسبب ان قسوة العنف الجسدي والمعنوي يؤدي في النهاية إلى تدمير الثقة عند الانسان. إن القيم الأخلاقية عند الانسان، تتمثل بالاعتراف بالكرامة وقبول الاختلافات بين البشر، وذلك هو أمر ضروري للعيش في احترام وكرامة الحياة.
683 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع