تفسير آخر لتسمية القاضي الدكتور نواف سلام لرئاسة الوزراء في لبنان. وهل خسر اهم منصب قضائي في العالم لغرض مبيت؟ وهل اصبح لبنان اقرب للتطبيع؟

 د. سعد ناجي جواد

تفسير آخر لتسمية القاضي الدكتور نواف سلام لرئاسة الوزراء في لبنان. وهل خسر اهم منصب قضائي في العالم لغرض مبيت؟ وهل اصبح لبنان اقرب للتطبيع؟

مع كل الاحترام والتقدير للقاضي والسفير والأستاذ الجامعي المتميز الدكتور نواف سلام، والذي يستحق بحق منصب رئيس وزراء لبنان لكفاءته وتاريخه المشرف وتجربته الطويلة في العمل العام، إلا ان هناك علامة استفهام على هذا الترشيح وفي هذا الوقت بالذات، بعد ان كان هناك شبه اجماع على التجديد للسيد نجيب ميقاتي، الذي قيل انه تلقى ضمانات من الرئيس الفرنسي ماكرون بدعم كبير لإعادة بناء ما دمرته الاعتداءات الاسرائيلية الهمجية. حتى قال احد العارفين ببواطن الأمور في لبنان بان السيد ميقاتي ذهب للنوم مبكرا كي يكون على استعداد في اليوم التالي لبداية المشاورات لتشكيل وزارته الجديدة، لكن أطرافا اخرى لعبت دورا لولبيا في تغيير الاختيار في نفس الليلة. فما هو تفسير ما جرى في اللحظات الأخيرة من عملية الترشيح، والذي ربما لم ينتبه له البعض؟
من المعروف ان القاضي نواف سلام تراس محكمة العدل الدولية بجدارة، بعد ان كان احد قضاتها، وعمل بجد في سبيل ادانة اسرائيل على ما ترتكبه من جرائم في فلسطين، وهو القاضي الذي سار قدما مع زملائه في الدعوى التي أقامتها دولة جنوب أفريقيا (الشقيقة) ضد إسرائيل، وضد نتنياهو ووزير دفاعه السابق بالذات، متهمة اياهم (كيانا وأشخاصا) بارتكاب ابادة جماعية ضد ابناء غزة بصورة خاصة وأبناء فلسطين عامة. ورغم كل التهديدات والترغيبات الامريكية والاسرائيلية إلا ان المحكمة لم تتراجع. حتى وصل الأمر بالإدارة الأمريكية المنتهية ولايتها، وتلك القادمة، إلى تهديد قضاة المحكمة وكذلك قضاة المحكمة الجنائية الدولية الذين اصدروا أوامر إلقاء قبض بحق نتنياهو وغالانت، بانها ستدرجهم في قائمة سوداء وتمنع دخولهم إلى الولايات المتحدة وتجمد ارصدتهم، إلى غير ذلك من الأساليب التي اعتاد عليها العالم مع كل من يتحدى عنجهية وجرائم وسطوة واشنطن او تل ابيب. هذه المعطيات لابد وان تثير سؤالاً في اذهان الكثيرين، والكاتب منهم، هو هل ان هذا الترشيح جاء لأبعاد الدكتور نواف سلام عن المحكمة، كجزء من عملية عرقلة اصدار قرارها بشان قضية الابادة الجماعية؟ وهل ان قبول الدكتور هو للتخلص من هذه الضغوطات الهائلة التي بدات تبدو وكأنها لا تنتهي؟ والتي بالتاكيد ستتصاعد في عهد الرئيس الأمريكي القادم. وهذه التصرفات ليست بالغريبة عن اسرائيل التي عملت في فترات مختلفة على عرقلة عمل المحكمة، فمثلا انها تذرعت قبل فترة بان طلب الإعفاء الذي قدمته عضو المحكمة الجنائية، القاضية الرومانية، لاسباب شخصية، يتطلب اعادة الإجراءات التي اتّبعتها المحكمة وانها لا يمكن ان تتخذ اي اجراء او قرار حتى يتم استكمال نصاب هيئة القضاة. علما بان المحكمة لم تابه لذلك، وقامت مباشرة بتعيين القاضية السلوفينية، ولم يتاثر نصاب المحكمة، واصدرت مذكرات الاعتقال وسط تهديدات إسرائيل والولايات المتحدة. التي اعتبرتها المحكمة محاولات يائسة وغير ذات تاثير لتعطيل اصدار المذكرات. والتهديدات مازالت مستمرة للمدعي العام للجنائية الدولية ورفاقه والمحكمة العدل الدولية. والان جاء دور ترامب كي يهدد بها ويعد باتخاذ اجراءات صارمة بهذا الخصوص في لحظة وصوله إلى البيت الأبيض.
السبب الاخر لاثارة السوال هو وجود حادثة تكاد تكون متطابقة، وهي: عندما أقامت دولة جنوب أفريقيا دعوى الابادة الجماعية على إسرائيل اخبرني صديق أثق برأيه جدا، ان العقل المفكر واللولب المحرك وراء تلك القضية هو القاضي الدولي السيد عون الخصاونة من الاردن الشقيق، الذي عمل لفترة قاضيا في محكمة العدل الدولية (1999-2011) ثم نائبا لرئيسها، وكان واضحا انذاك انه نشط بجد في سبيل ادانة اسرائيل في قضايا مختلفة تخص الحق الفلسطيني والجرائم الاسرائيلية التي ترتكب بحقهم، وكان على وشك ان يتم اختياره رئيسا لمحكمة العدل الدولية. هذا الأمر اقلق الولايات المتحدة وإسرائيل بالطبع. وفجاءة وبدون سابق إنذار تم استدعاء القاضي الخصاونة وكُلِفَ بتشكيل الحكومة الأردنية في اكتوبر 2011، (بقي في منصبه ذاك ستة شهور فقط). ولم تنفع كل محاولاته للاعتذار. يعتقد الكثيرون ان الالحاح على اختيار الدكتور عون الخصاونة آنذاك لم يكن لكفائته التي لا تدانى وانما لغاية في نفس إسرائيل والولايات المتحدة. فهل واقعة اختيار الدكتور نواف سلام تقع في نفس الخانة؟ خاصة وان كل الأطراف التي صفقت كثيرا لعبارة (حصر السلاح بيد الدول اللبنانية) التي قالها الرئيس جوزيف عون في خطاب التنصيب، هي التي أصرّت على اختيار الدكتور نواف سلام.
شخصية الدكتور نواف الهادئة والمتزنة لا توحي بانه سيذهب إلى صدامات كالتي يتمناها من صوتوا له. وتجربته في محكمة العدل الدولية ومساهمته بإصدار قرارات ادانة لجرائم الاحتلال للأراضي اللبنانية او الفلسطينية، وإصدار المحكمة في فترة خدمته فيها توصيات جريئة بشان الاحتلال والاستيطان والجدار العازل والتي رفُعت إلى الامم المتحدة، تبقى تجربة مشرفة، ولا يمكن ان يفرط بها او يتنازل عنها، وما عليه سوى ان يستثمرها في بناء لبنان قوي يتساوى فيه الجميع في الحقوق والواجبات، والاهم ان يكون لبنان بعيدا عن الإملاءات والضغوطات الخارجية، لبنان يحافظ على كل مقومات القدرة على الدفاع عن نفسه بسواعد أبناءه، الذين اثبتوا ان كل القوة العسكرية الاسرائيلية الهائلة لم تتمكن من التقدم في اراضي لبنان إلا بمقدار كيلومترات لا تتعدى عدد أصابع اليد الواحدة. كما انه لا يمكن ان ينسى تاريخه ويفرط بالأراضي اللبنانية المحتلة، وهو الأعلم بالتجاوزات الاسرائيلية، بدعوى العمل على تهدئة الأوضاع وهذه الصفات تجعلنا نتصور انه لن يرضى لنفسه ان يرى علم دولة الاحتلال يرفرف في سماء بيروت الحبيبة مع كل الجرائم التي ارتكبتها ولا تزال ترتكبها وهو الأعلم بها. وكلماته التي قالها عند رئيس الجمهورية امس وبعدها تدلل على رجاحة عقل وحرص على ان لا يستبعد طرف (استخدم كلمة إقصاء)او يحابي طرف على حساب آخر، ولم يغفل الإشارة الى الاعتداءات الاسرائيلية والأراضي اللبنانية المحتلة. هناك من يقول ان الدكتور سلام يعاني من مشكلة هي انه عاش اغلب حياته خارج لبنان، خاصة في فترة الصراعات الداخلية بين حزب الله وتيار المقاومة من جهة والأحزاب الاخرى المعارضة له من الجهة الاخرى، وهذه المشكلة ستكون أصعب، مع وجود نفوذ السفيرة الأمريكية وسفراء اخرين تملك دولهم الاموال التي يحتاجها لبنان للبناء والخروج من الازمة الاقتصادية الخانقة، والأحزاب التي تريد انهاء وجود المقاومة التي حمت لبنان. ومهما كانت التفسيرات فان ما سيتخذه الرئيس نواف سلام من قرارات في هذا المجال ستكون المعيار لحكمته والوعود التي اطلقها ساعة التكليف وفهمه للواقع اللبناني الداخلي، وفيما إذا كان سيساوي بين من يحمل السلاح للدفاع عن لبنان ضد الاعتداءات الاسرائيلية وبين من يحمل السلاح لنفوذ داخل لبنان؟ والاهم هل سيكتشف بعد فترة وجيزة ان عقبات غير قليلة توضع في طريقه لافشال مهمته إذا لم ترض اطراف معينة، وربما سيكتشف مبكرا ان ضحى بأهم منصب قضائي دولي من اجل منصب اريد له ان يفشل به وفق اجندات معينة؟ كل هذه الأمور تجعل من مهمة الدكتور نواف سلام أصعب مما تصوره هو عند قبوله الترشيح. نتمنى ان تكون تقديراتنا خاطئة.
احزاب المقاومة من جانبها تصرفت هي الأخرى بعقلانية وقبلت الترشيح ولم تعترض عليه، وقالت انها ستنتظر لترى نتائج هذا الاختيار وسياسة الحكومة الجديدة، (علما بانها أظهرت قدرتها على افشال انتخاب رئيس الجمهورية في الجلسة الاولى). والأمر الان بيد رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء الجديدين، فهل ستكون الحكمة التي عُرِفا بها هي سياستهما التي سيسيران عليها، ام ان الضغوطات الخارجية والداخلية ستجعلهما يتخذان قرارت قد تؤدي إلى حرب اهلية جديدة، عنوانها الظاهر هو (حصر السلاح بيد الدولة) وهدفها الحقيقي السير في طريق التطبيع مع العدو الصهيوني.
كل التوفيق للرئيسين جوزيف عون ونواف سلام في مهامها الجديدة، وحمى الله لبنان الحبيب وشعبه من كل سوء.
*كاتب واكاديمي عراقي

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

962 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع