جماليات اللغة اليومية والاتّكاءُ على السرد في نص لحميد سعيد

د.سلطان الزغلول / الأردن

جماليات اللغة اليومية والاتّكاءُ على السرد في نص لحميد سعيد

يُعدّ الشاعر العراقي حميد سعيد (1941-…) واحداً من أبرز الشعراء العرب في العصر الحديث؛ إذ بدأ إصدار مجموعاته الشعرية منذ عام 1968م، وهو يقيم في عمّان منذ عام 2003م، وكان قد شغل منصب الأمين العام لاتحاد الكتاب العرب، ورئاسة اتحاد الأدباء في العراق.

في مجموعته الشعرية الصادرة عن دار دجلة في عمّان عام 2019، وهي مجموعة “ما تأخر من القول” نطالع نصاً لافتاً للشاعر باتكائه على السرد، وتوظيفه لجماليات البساطة المتمثلة في اللغة اليومية، وهو قصيدة “رجل في السبعين.. وسيدة في ….؟” التي يفتتح بها الشاعر المجموعة.

يبدأ النصّ بجملة العنوان الاسمية الناقصة التي تكتمل في السطر الثاني عبر صيغة المضارع:

رجل في السبعين..وسيدة في …؟

يلتقيان..

بمشفى في عمان..

….

أتعرفني..؟

يفترقان..

وبذلك ينتهي المشهد الأول في القصيدة مُشكّلاً بناءً مكتملاً عبر تقديم شخصيتين في مرحلة الشيخوخة، وتحديد مكان لقائهما بوضوح، وهو مشفى، تم تحديد المدينة التي يقع فيها المشفى، وهي عمّان، ناهيك عن توظيف تقنية الحوار الذي يتضمّن صوت المرأة المتسائل يقابله صمت الرجل الذي يطول، وبذلك يبدأ الشاعر في هذه اللوحة التي تمتصّ لغة الحياة اليومية وتحيلها شعراً يخلص للموسيقى; فالنثر اليومي الذي لا يُلتفَت إليه عادة يَتموْسق، والقصيدة تفتح ذراعيها للمهمل والبسيط. هذا من جهة; ومن جهة أخرى، يوظف تقنيات السرد الأساس، إلى درجة أنّه يضعنا أمام نصّ يمكن أن نورده كقصة قصيرة جداً، ثم نتغنى باكتمالها واحتوائها على عناصر القصة الأساس، وتكثيفها، وتوظيف تقنية الفراغ فيها بشكل مدروس وإبداعي، ومضمونها الوجوديّ وإشاراتها بالغة الدلالة.

يتابع حميد سعيد عبر المشهد الثاني أسلوب القصّ الهادئ الذي لا يكاد يفصح عن شيء ذي بال، لكنّه أعمق ممّا تمنح الوهلة الأولى من تصوّر; فها هنا عالم مسكوت عنه، ضاجّ بالذكرى والحياة التي كانت:

في شارع فيصل فرحان الجربا.. حيث يقيم رآها

يتبعها كلبٌ جبليٌّ حذر..

أسرع..

فابتسمتْ..

وهي تقول..أحقا لا يتذكرني؟

يبدأ بتحديد مكان الحدث بدقة، إنه شارع فيصل فرحان الجربا، أحد شوارع غربيّ عمان حيث يقيم الرجل السبعينيّ، الذي يشكل مركز النصّ الشعريّ المتكئ على السرد، كما سبق أن أشرت، وهو اسم ذو دلالة، إذ أطلق تكريماً لشخصية عراقية بارزة كان لها مكانة مهمة في تاريخ العراق الحديث، وهي شخصية تربط عمان ببغداد، المكانين الذين يفعلان فعلهما في روح الشاعر وقلبه; إذ تشكل بغداد ملاذاً للشاعر على مستوى الذاكرة، فهي أرض الحدث الماضي المفصلي الفاعل في الحاضر ، على المستوى الشخصي والعام كما تشكل عمان ملاذاً واقعياً وسكناً يجلب الدفء والسكينة ويضمّدُ جراح الروح الغائرة.

في ذلك الشارع، رآها فأسرع في خطوه، ربما كان لا يحبّ الكلاب، أو أنّه يهرب من الذكرى. فابتسمت المرأة متسائلة: أحقاً لا يتذكرني؟ وبذلك تبدو المرأة في هذا المقطع واثقة أكثر، فهي تتذكره جيّداً بينما كانت في المقطع الأول تائهة في “مشفى في عمان”. لكن المرأة في الحالين تنطق، في الأول تسأله مباشرة: “أتعرفني؟” وفي الثاني تتساءل: “أحقا لا يتذكرني؟”. أما الرجل فيصمت في المشهد الأول، ويهرب في الثاني. وهو ما يتوافق مع حال امرأةٍ فقدت حبيباً ورجلٍ فقد وطناً!

في المشهد الثالث:

كان يراقبها..

وهي تحرّك جمر الأرجيلة

هل هي؟

أم تلك امرأة تشبهها..

وحين غادرت المقهى تذكّر خفق عباءتها فتأكدت له، هويتها، فعلّق متحسّراً:

شخنا وتغيّرت الدنيا

إلا خفق عباءتها ظلّ كما كانْ

بدأ الرجلُ يغادر مدارج الدهشة والصمت المحمّل بالتساؤلات إلى لحظة الكلام متسائلاً بشكّ، قبل أنْ ينطق بثقة عما يتغيّر وعمّا يبقى. ويترافق استخدام الأفعال المضارعة مع صمت الرجل وحيرته في المشهدين الأوّلين، أما في هذا المشهد فيأتي نطقه مع تتابع للأفعال الماضية. ولعل في ذلك إشارة غير واعية الى صخب الماضي وسكون الحاضر، إلى الحياة الغامرة المحمّلة بالأحلام والآمال هناك حيث كانا، والحاضر المترافق مع الشيخوخة والإحباط والصمت.

من المقهى، ينتقل في المشهد الرابع إلى دائرة الهجرة، إذ:

فاجأه صوت امرأة يأتي من زمن جدّ بعيد..

أأنتَ؟

بلى..

أو أنتِ؟

….

لقد كنتُ أحدّث أحفادي عنكَ..

وهذا أوسطهم..

سيزورك في المقهى..ذات صباحْ

في دائرة الهجرة، يتحاوران، ويكملان حديثاً حافلاً بإيماءات الماضي الصاخب بينهما، ثم ينتهي حوارهما بوعد بلقاء الحفيد، وهو وعد يحمل أملاً بجيل قادم سيكمل القصة القائمة على المحبة والتفاؤل والإخلاص.

أما في المشهد الخامس فنرى جارته تحدّثه عن لقائها بتلك المرأة:

في صالون التجميل

شاهدتُ امرأة بغدادية

وهي عجوز عجفاءُ.. تُحكّل عينيها

وتلوّن خدّيها وأظافرها والشّفتين

مثل صبيّهْ

تبادلنا القولَ..

ذكرتُ لها اسمَك..

قالت:

كانْ.

ينتهي المشهد بسكون الفعل (كان) بما يحمله هذا الفعل والسكون من دلالات الماضي، ودلالات الصمت ; لكنّه صمت يشي بحياة حافلة بالحب والصخب والآمال، ذلك ما نلاحظه على المرأة البغدادية التي تتصرّف مثل صيبة، رغم الزمن الذي فعل فعله بها، فهي تشي بجمال الماضي وعنفوانه، لكنه يبقى ماضياً ذهب إلى غير رجعة.

في المشهد السادس، ينتقل إلى الدوار الرابع في جبل عمان، فتمرُّ قربه “وهو يحاسب صاحبة المطعم”:

يا..

أنتَ هنا..؟

منذ سنين

وأنا أسكن في هذا الشارع..منذ سنين

وتشيرُ إلى بيت غير بعيد..بعصاها

زُرْني حين تشاء

……

……

وبعد أسابيع يجيء ليسأل عنها

يُخبره البواب..بأنّ الله توفّاها.

يعمد الشاعر عبر توظيف تقنية التكرار إلى تقديم مشاهد سردية متعددة تصبّ في معين لقاء الرجل السبعيني في عمان بامرأة سبعينية كانت له ببغداد، فأول مرة نراهما يلتقيان في مشفى، ثم نراهما يلتقيان في شارع فيصل الجربا، حيث يقيم هو، قبل أن يلتقيها في مقهى، ثم يتبادلان الحديث أخيراً في دائرة الهجرة، وبعد ذلك تحدّثه جارته عن لقائها بها في صالون التجميل فقد ذكرت لها ما كان بينهما ما إنْ ذُكر اسمه، ثم يلتقيان من جديد في مطعم قرب الدوار الرابع، حيث تقيم هي، وتدعوه لزيارتها في بيتها القريب. وحين يزورها بعد أسابيع يخبره البواب بأنّ الله توفّاها”.

لا تنتهي القصيدة بموت المرأة، بل يتدفّق سيل الذكرى، إذ يبدأ المشهد السابع بجملة مركزية “البرد شديد في عمان” ما يدفع عبر الحنين إلى استعادة الماضي:

يتذكّر أيام البرد ببغداد

وهي ترافقه.. أين هي الآن؟

كانت تضحك.. حين يناديها فرط الرمان

ثم يتساءل إنْ كان البرد في بغداد ظلّ كما كان “أم هاجرَ كي يبحث عنها في كل مكان؟” وبذلك تحضر بغداد حين يذكر البرد الشديد، ولا ندري من الذي هاجر ليبحث “عنها”، أهو البرد حقاً أم الرجل السبعيني؟ وهل يبحث عن امرأة فقدها في بغداد أم هو يبحث عن بغداد التي لم تعد بغداد؟

يتابع الشاعر بناء النصّ بحرفية على نظام المشاهد السردية المتتابعة، التي يصلح كل مشهد منها ليكوّن مقطعاً وجودياً معبّراً من مقاطع الحياة، كما أنه يشكّل لبنة في بناء متكامل في الوقت عينه. ففي المشهد الثامن، الذي يُبنى على المفارقة بما تحمله من سخرية مُرّة، يراقب الرجل السبعينيّ من شرفة منزله لوناً غامضاً يمرّ كلّ مساء ويدفعه إلى التساؤل:

… من هذا اللون الغامض؟

ثم تخيّله.. امرأة

أعطاها اسماً

واختار لها زمناً وحكايات

كان يقول.. لماذا لا تسأل عني؟

أوَ ما كُنَّا من قبل معاً؟

مرَّ اللون الغامض يوماً قبل غروب الشمس

فرآه الرجل السبعينيّ وكان

بستانيّ الجيرانْ

إضافة إلى ما يحمله المشهد من مفارقة وتكثيف عالٍ، نرى البعد النفسيّ في بنائه القائم على التوهّم المرضي، ثم الاستشفاء منه، والبعد الدراميّ والإيحائي الذي يقود إلى ماضٍ عابقٍ بحياةٍ كانت تتدفق ثم انهارت وتحولت إلى جفافٍ وعقم تماماً مثلما تحولت المرأة الحلم إلى بستانيّ الجيران نهاية المشهد. كما يُكمل هذا المشهد جانباً جديداً من جوانب قصة الرجل السبعينيّ وامرأته عبر لغة ذات مفردات بسيطة في ظاهرها، لكنها تحمل إشاراتها وإيحاءاتها عبر هذه البساطة الخلاقة، وذلك كله يأتي والشاعر لا يفارق جماليات قصيدة التفعيلة بإيقاعاتها المنسابة.

في المشهد التاسع يروي الشاعر قصة فعل الزمن عبر حديث الرجل والمرأة عن أثره فيهما متابعاً توظيف تقنية الفراغ المعبأ بالإيحاءات والدلالات:

ماذا تنتظرين

من رجل بعد السبعين؟

……….

ماذا يبقى من سيدة في…؟

والشاعر في هذا المشهد يتابع إعادة تدوير ما جاء في مشاهد النص المتتابعة عبر لقاء الرجل والمرأة في أماكن متعددة من حديث ناقص تكمله الذكريات التي توحي بها كلمات النص وفراغاته. لكنه في المشهد العاشر الأخير يكثّف القصة ويعيد تشكيلها على نحو جديد ومميز، فنرى قصيدة تتكئ على السرد، وهي عابقة بالإيحاءات ويمكن أن تحمل نفسها بنفسها، كما نرى لبنة البناء الأخيرة التي تدفعه إلى الاكتمال والتوهّج:

يحمله الوهم إلى ماضٍ كان

فيرى امرأة كانت، ثم طواها النسيان

تخرج من بيت يتخيّله..

وتحيِّيه

يردّ تحيّتها ويمدّ يداً ليصافحها..

……….

فينبهه صوت النادل في المقهى

وهو كما كانْ

يبني حميد سعيد هذا النصّ المذهل في بساطته المحمّلة بالعمق على تجربته الخاصة ومشاهداته، وهو نصّ يحمل حوارات شذيّة معبأة بالذكريات، وحنيناً يتخفّى، وألماً حوّله الزمن بقسوته وسطوة حضوره إلى قطعة من الروح; فلا ندري أتكسّر الألم أم ظلّ جزءاً منها. وتظهر تفاصيل الأمكنة بهدوء وانسياب دون تقصّد، فيبرز المقهى العمّاني بشارع فرحان الجربا والدوار الرابع.. وتلوح بغداد من بعيد ذكرى قاسية عبر جمال الماضي الذاهب بعيداً أما الرجل السبعينيّ والمرأة التي لا يصرّح بعمرها، وإن كان يلمّح إليه، فهما يؤثثان النص بفواصل من الصمت، وفراغات معبأة بالدلالات، وحوارات قصيرة لا تكتمل، لكنها موحية باتكائها على الذكرى، وهما يبدوان كما لو كانا قد استنزفا الحنين كلّه فترسخت الذكرى وغام الحاضر! وهذا الأسلوب في الحوارات الناقصة والفراغات الكثيرة يتناسق مع هذه المرحلة المتقدمة من العمر .

من جهة أخرى، يتكئ الشعر على السرد في هذا النصّ، وتروح اللغة إلى عالم البساطة لكنّها تحمل إيماءاتها وإيحاءاتها في جنبات الهامشي من الألفاظ، البعيد عن الاستعارات المدبّجة والبلاغة الفارغة. ويبدو جمال النصّ في فراغاته وإشاراته عبر لغة تحمل جماليات البساطة، ناهيك عن اتكائه على عوالم السرد، ما زاده جمالاً وغنى.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

نُشر المقال في مجلة “الجوبة” السعودية، دراسات ونقد، العدد 86 ، شتاء 1446هـ (2025م).

  

إذاعة وتلفزيون‏



الساعة حسب توقيت مدينة بغداد

أفلام من الذاكرة

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

1182 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع