ولاء سعيد السامرائي
ضجة خلافات قبل الانتخابات العراقية
مرّت أشهر عديدة والبرلمان العراقي يعيش حالةَ سبات غريبة، هو وأحزابه، إذ بعد تمخّض معارك برلمانية عن قرارات صُدّقت بطرائق غير قانونية، وبأساليب الابتزاز، وبتدخّل مباشر من "الإطار التنسيقي"، وبأساليب الضغط التي لا تمتّ إلى الديمقراطية بصلة، ساد المشهد السياسي الصمت، بينما اختفت المليشيات المسلّحة وتوارت عن الأنظار والاستعراض اللفظي، عقب مطالبات الإدارة الأميركية رئيس الوزراء، محمّد شيّاع السوداني، بنزع سلاحها وحلّها، وتقديم قانون تحرير العراق من إيران، من نائبَين، ديمقراطي وجمهوري، يُنتظر أن يتبنّاه الكونغرس في أيّ لحظة. وما قطع هذا السبات قبل أسابيع إلا بسبب الضجّة المتواصلة بشأن الخلافات التي تتصاعد يوماً بعد يوم، بين رئيس الوزراء وحكومة إقليم كردستان. فقد قرّرت وزيرة المالية، طيف سامي، نهاية الشهر الماضي (مايو/ أيار)، وبطلب (غير قانوني) من "الإطار التنسيقي"، قطع الرواتب عن موظفي الإقليم إلى أجل غير مسمّى. وفي إثر ذلك، دعا الحزب الديمقراطي الكردستاني أحزاب الإقليم إلى اجتماع طارئ، وهدّد حكومة المنطقة الخضراء بالتصعيد، والانسحاب من الحكومة، إذا لم تُصرف الرواتب قبل عيد الأضحى.
لقد تصاعدت ضجّة الخلاف هذه بين المركز والإقليم بعد توقيع رئيس حكومة إقليم كردستان، مسرور بارزاني، في الشهر الماضي، اتفاقيةً ضخمةً تصل إلى مائة مليار دولار، مع شركتَين أميركيَّتَين للطاقة، من دون علم الحكومة، وفي مخالفة للدستور العراقي. ليس ذلك فحسب، بل إن التوتّر والتصعيد يتعلّقان بأسباب أخرى، مثل الخلاف على موارد الجمارك في المنافذ الحدودية التي تنظّمها قرارات وزارة المالية، التي تعتبر عائدات هذه المنافذ الحدودية لحكومة المركز، وليس لحكومة الإقليم. الأمر الآخر، الذي أزعج حكومة السوداني، واعتبرته تجاوزاً لحكومة المنطقة الخضراء وإيران، هو المتعلّق بالملفّ الكردي. فقد رحّب بارزاني بموقف الرئيس السوري أحمد الشرع من الأكراد في سورية، واتفاقه وقوات سوريا الديمقراطية (قسد)، حين صرّح أن الاكراد جزء من الوطن، وشريكٌ في سوريه المستقبل. واعتبر الزعيم الكردي العراقي، في رسالة إلى الشرع، هذه الرؤية تجاه الكرد ومستقبل سورية موضع سرور وترحيب، و"بداية لتصحيح مسار التاريخ وإنهاء الممارسات الخاطئة والمجحفة... يمهّد لبناء سورية قوية. وعلى الكرد والعرب وجميع المكوّنات اغتنام الفرصة للمشاركة معاً في بناء سورية مستقرّة وحرة وديمقراطية".
الخلافات بين سلطات الإقليم وأحزابه مع حكومة بغداد، والضجّة حولها، ليست جديدة، بل مكرّرة، تبرز مع كلّ حكومة، وكلّ رئيس وزراء جديد، إذ يحاول كلّ طرف (رغم اتفاقهم الكامل في تقاسم العملية السياسية وتقاسم مغانمها)، عندما تسنح له الفرصة، أخذ المزيد له ولحزبه ولحاشيته، وينطبق ذلك على الأطراف الثلاثة التي "جاد" بها الاحتلال الأميركي الإيراني على العراق، خصوصاً مع قرب الانتخابات المزمعة في الخريف المقبل، فهي المناسبة المثالية لجميع الأطراف، ينتظرونها لتحقيق المكاسب بابتزاز الآخر، وتفعيل مختلف الأدوات الممكنة التي ترتب بدقّة مع مستشاري جارة العراق، من تهديد بفضح ملفّات فساد للآخر وأمور أخرى. موقف حكومة بغداد من توقيع رئيس الإقليم مسرور بارزاني اتفاقية الطاقة صحيح قانونياً ودستورياً، وكذلك الحال مع عائدية موارد المنافذ الحكومية وتسليم الإيرادات النفطية وتسليم نفط حقول الإقليم لشركة سومو، وحول الملفّ الكردي، لكن هذا الموقف، وتبريراته في القانون والدستور، كلام حقّ يُراد به باطل، لأن أطراف العملية السياسية الثلاثة غير آبهين، لا بالقانون ولا بالدستور، إلا عندما يتعلّق الأمر بمصالحهم ومصالح الدول التي يعملون من أجل تنفيذ مشاريعها وأجنداتها في العراق.
لماذا يفعّل رئيس الوزراء محمّد شيّاع السوداني القانون في هذا الملفّ، ويخرقه بالتدخّل شخصياً، هو ووزير الخارجية فؤاد حسين، لدى المحكمة الفيدرالية لمنع إصدارها قراراً صائباً لصالح العراق في ملفّ خورعبد الله الخطير، الذي تواطأ بعض السياسيين وقادة الفصائل من أصدقاء السوداني وحاشيته في تسليمها إلى الكويت، مقابل مليارات، وفي خرق، ليس للقانون العراقي فقط، بل للقانون البحري الدولي؟ يتناسى رئيس الوزراء أن ما يقوم به بيع وتواطؤ علني في انتهاك صارخ وواضح لكلّ القيم، رغم الرفض الشعبي الواسع في عدة محافظات، أهمها البصرة، التي خرج أبناؤها في تظاهراتٍ تستنكر تصرّفات سياسيّي حكومة الاحتلال المشينة التي تتجرأ على بيع أهم منفذ للعراق، وتسمح بابتلاع مينائه الكبير لصالح ميناء بنته الكويت في الأراضي العراقية، بعد رشوة سياسيين فاسدين من الكتل الثلاث، التي تجثم فوق صدر الشعب العراقي منذ 22 عاماً. هذه واحدة من مئات صفقات السوداني وأحزاب العملية السياسية التي تُفضح يومياً بالوثائق أمام الناس والقضاء والمحاكم، من دون أن تُحرَّك أيّ دعوى ضدّ أصحابها.
فضائح فساد لا يرى السوداني بأساً من تمريرها، بينما يتحجّج مع الشركاء، باسم القانون الذي يبحث عنه الشعب ولا يجده في أيّ مكان في العراق المحتلّ. وبدل حلّ الخلافات العالقة بين المركز والإقليم، التي طال انتظارها، مرّة واحدة، لغلق الملفات، والاتفاق أيضاً على قانون النفط والغاز، بدلاً من اعتماد سياسة التوتّر والخلافات الدائمة التي تناسب إيران وسياستها في العراق، يعتزم السوداني إصدار أمر بصرف رواتب موظفي الإقليم بصيغة "قرض مؤقّت" من الحكومة الاتحادية، وخارج الحسابات المالية الرسمية الخاصّة بالإقليم. هذا القرض ليس له علاقة بمستحقّات الإقليم، ما يعني أن على الإقليم تسديده للحكومة المركزية. الشرط الثاني، الذي وضعه السوداني، تشكيل لجنة عليا مشتركة بين أربيل وبغداد لوضع حلول جذرية لأزمة الرواتب المتراكمة من سبعة شهور، على أن يصار إلى تفاهمات قبل حلول عيد الأضحى. وهذا الشرط مقترح التسوية الذي يقترحه السوداني على الأطراف الكردية التي اجتمعت، وصعّدت من لهجتها، وهدّدت بمقاطعة الانتخابات. والعودة إلى طاولة المفاوضات مع حكومة المنطقة الخضراء تعني إعادة أحزاب الإقليم إلى التفاهمات مع باقي أحزاب العملية السياسية، والتلويح لها مرّة أخرى (ومن جديد) بملفّ إصدار قانون النفط والغاز، الذي تمسك به إيران، وليس حكومة السوداني، كي تبقى أحزاب الإقليم في العملية السياسية، ويتجنّب الجميع سقوط هذه العملية الهشّة وانهيارها.
هذه هي طبيعة خلافات أحزاب العملية السياسية، التي لم تتغيّر منذ أكثر من عقدين، تُدور ويعاد تسويقها للعراقيين منذ أن وضعها الاحتلال الأميركي الإيراني. خلافات لا تفسد للودّ قضيةً، بعيدة كلّ البعد عن هموم الشارع والحاجات الأساسية للشعب العراقي الذي يغلي منذ سنوات. حاجة الشعب العراقي إلى وطن ودولة وطنية، ديمقراطية حديثة، ما تزال قائمةً منذ ثورة تشرين (2019)، التي فجّرها الشباب الواعي، رجالاً ونساءً نهضوا يداً بيد ليهتفوا "نريد وطن"، وخلفهم ملايين من العراقيين الذين آزروهم في تظاهراتهم واحتجاجاتهم، التي تواصلت أكثر من عام ونصف العام، وذهب ضحيتها ألف من أجمل شباب العراق وأروعهم، وجرح منهم 29 ألفاً في ملحمة مواجهة وقتال سلمي لا مثيل لها، لا في تاريخ العراق ولا في تاريخ المنطقة، ولا حتى في العالم، ضدّ طغمة مدجّجة بأنواع الأسلحة، محمية من دول العالم الطامعة في أرض الرافدين، وفي كل منطقتنا، هي اليوم أضعف من أيّ وقت مضى مع قطع أهم أذرع إيران المجرمة من مليشيات، وبعد فرض العقوبات الأميركية على كلّ أدواتها في العراق، وبانتظار التصويت على قرار تحرير العراق من الكونغرس الأميركي.
يعي شعبنا العراقي بتجربته خلال عقدَين، وتجربته في ثورة تشرين، أن عليه أن يحرّر بلده بنفسه، وأن يخرج بشكل واسع في تظاهرات واحتجاجات عارمة، فهذه هي الفرصة الأهم بعد ثورة تشرين، التي عليه أن يغتنمها ليكنس طغمةَ الشرّ والقتل والفساد، التي جاء بها الاحتلال الأميركي الإيراني، ويستعيد من جديد شعار "نريد وطن"، وشعار "إيران وأميركا برا برا.. بغداد تبقى حرّة".
6/6/2025
689 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع