إبراهيم فاضل الناصري
صراع النفوذ في عباءة المعتقد ام صراع الوجود في قلنسوة الموروث:من تاريخ الإمبراطوريات إلى جغرافية المستعمرات
في كل مرة تشتعل فيها رقعة من رقاع العالم، تُرفع الشعارات ذاتها: "حماية المقدسات"، "مواجهة الأعداء"، "الدفاع عن القيم". او الدفاع عن الوجود، ولكن ما إن تهدأ أصوات المدافع حتى يتضح أن خلف تلك الشعارات اللامعة تكمن حسابات أعقد: تقاسم النفوذ، حماية المصالح، وإعادة رسم خرائط السيطرة.
فالتاريخ البشري، حين يُقرأ بعين واعية، يُظهر أن الصراع في جوهره ليس بين معتقدات أو قيم، بل غالبًا ما يدور حول الموقع والثروة والهيمنة. وهذا ما نراه جليًا منذ فجر التاريخ السياسي المدون، حين كانت الإمبراطوريات الكبرى تتنازع لا لتصدير نموذج حضاري، بل لضمان خطوط التجارة والموانئ والممرات الحيوية.
من روما إلى فارس: جذور الصراع تحت قشرة العقيدة وطي سرد التاريخ
أشدّ الأمثلة دلالة على هذه الحقيقة هو الصراع الطويل بين الإمبراطورية الرومانية البيزنطية ونظيرتها الفارسية الساسانية. لم يكن صدامًا دينيًا خالصًا كما قد يُروّج، بل كان سباقًا جيوسياسيًا بين قوتين عظميين على مناطق النفوذ والموارد من الشام إلى نينوى، ومن أرمينيا إلى آسيا الصغرى. وحتى حين رُفعت الرايات الدينية، لم تكن العقيدة في كثير من الأحيان إلا غطاءً لمشروع توسعي.
وفي خضم هذا الصراع، وثّق القرآن الكريم لحظة فارقة جاء فيها قوله تعالى:
"غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الْأَرْضِ * وَهُمْ مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ"
[الروم: 2–4]
كانت الهزيمة التي لحقت بالروم أمام الفرس صدمة حضارية وعسكرية، إذ فقدوا خلالها مساحات شاسعة من الشام ومصر وبلاد الرافدين. غير أن القرآن لم يُقدّس طرفًا ولم يُشيطن آخر، بل تناول الحدث في سياق سنن التاريخ: التداول، التحول، والتغير. والحق أن ما جاء به القرآن من تنبؤ بانتصار الروم في "بضع سنين" تحقق حرفيًا، حين قاد الإمبراطور هرقل حملة ناجحة تُوّجت بانتصار نينوى عام 627م، وأدت لاحقًا إلى انهيار الدولة الساسانية.
من فهم التاريخ إلى استيعاب الحاضر
إن هذا التناول القرآني لا يهدف فقط إلى سرد التاريخ، بل إلى ترسيخ وعي حضاري: أن القوة لا تُمنح إلى الأبد، وأن الغلبة لا تُؤسس على الشعارات، بل على موازين الإرادة والقدرة.
وإذا كان هذا هو حال الأمس، فماذا عن اليوم؟
في قلب المشهد الحديث: القدس والمقدسات كأدوات في الصراع
في أيامنا هذه، يُستعاد المشهد ولكن بأدوات جديدة، لا تقل دهاءً ولا طموحًا. تُستدعى "القدس" من جديد إلى صدارة الخطاب، لا باعتبارها غاية تُحمى، بل ورقة في لعبة النفوذ. تُرفع رايات "المقاومة" و"الدفاع عن المقدسات"، لكن غالبًا ما تُدار تلك الصراعات بمقتضى خرائط مصالح، لا خرائط إيمان.
لقد تحوّل الدين – في كثير من الحالات – من دافع للتحرر إلى أداة تبرير للهيمنة. الرموز الدينية، التي كان يُفترض أن توحد الشعوب، أصبحت وقودًا للنزاع، وذريعة لخطط جيوسياسية لا علاقة لها بجوهر المقدس.
التكرار الحديث: ثنائية "الروم والفرس" بأسماء جديدة
بعد ألفي عام، تتجدد ثنائية "الروم والفرس"، ولكن هذه المرة تحت عباءة النظام العالمي الحديث. الغرب الليبرالي، بقيادة الولايات المتحدة، يُجسد اليوم امتدادًا للروح الرومانية، يتسلح بخطاب الديمقراطية وحقوق الإنسان، لكنه يتحرك لحماية مصالحه، وتأمين هيمنته، ولو بوسائل ناعمة وخشنة.
في المقابل، تقف إيران بمشروع ديني–قومي يمزج بين الهوية الشيعية والطموحات القومية الفارسية، ويستدعي روح الإمبراطورية الساسانية القديمة تحت شعار "المقاومة". وبين هذين المشروعين المتقابلين، تقف المنطقة العربية مرة أخرى كجغرافيا متنازع عليها، لا كلاعب حاسم.
المنطقة العربية: من ساحة إلى فاعل؟
السؤال الحاسم الذي يطرق الأذهان:
إلى متى نظل مجرد ساحة تُدار فيها الصراعات؟
وإلى متى نكتفي برد الفعل بدلًا من الفعل؟
لا تحرير دون مشروع حضاري، ولا كرامة دون استقلال في القرار. الخطابات الحماسية وحدها لا تصنع نهضة، ولا تعيد أمجادًا. المطلوب رؤية استراتيجية تُبنى على قوة داخلية، على سيادة حقيقية، وعلى إرادة تُعبّر عن روح الأمة، لا عن مصالح الآخرين.
صراع نفوذ أم صراع وجود؟
قد يتساءل البعض: هل ما نشهده هو مجرد صراع نفوذ؟ أم صراع وجود؟
هل الهدف توسيع رقعة السيطرة؟ أم فرض أنماط تفكير؟
هل يسعى الطرف الأقوى إلى الهيمنة الاقتصادية فقط؟ أم إلى تفكيك الهويات، وإعادة تشكيل المجتمعات؟
إن قراءة المشهد بهذا العمق يُظهر أن ما يجري ليس مجرد تنافس سياسي، بل صراع حضاري متعدد الأبعاد، تتداخل فيه المصالح بالعقائد، والهويات بالتحالفات، والخطاب الديني بالخطط الاستراتيجية.
خاتمة: درس التاريخ ليس في إعادة تمثيله... بل في فهمه
إن استدعاء قصة الروم والفرس ليس حنينًا للماضي، بل جرس إنذار لفهم الحاضر. التاريخ لا يُكرر نفسه حرفيًا، لكنه يعيد إنتاج نفسه في صور جديدة.
فحين تملك أمة مشروعًا ورؤية، تستطيع أن تقرر موقعها في لعبة الأمم. أما حين تفقد ذلك، فإنها تتحول إلى ورقة تفاوض بين الغير، لا إلى لاعب يُحسب له حساب.
ويبقى السؤال:
هل نكتفي بالبكاء على الأطلال؟
أم نبدأ أخيرًا في صناعة الأطلال لغيرنا؟
وبصياغة أخرى لهذا الطرح المهم أقول: إن العالم العربي – تاريخيًا وجغرافيًا – كان دومًا نقطة ارتكاز للصراع بين القوى الكبرى، ليس لثرائه العقدي فقط، بل لكونه بوابة جيوسياسية بين الشرق والغرب، ومخزنًا للطاقة، ومسرحًا مفتوحًا لتجارب السيطرة.
السطح اللاهوتي والعمق الجيوسياسي: من روما وفارس إلى واشنطن وطهران
الصراع بين الروم والفرس في العصور القديمة، غالبًا ما يُختزل في ثنائية دينية. لكن التأمل في طبيعة النزاع بين الإمبراطورية البيزنطية المسيحية والإمبراطورية الساسانية الزرادشتية يكشف أنه لم يكن صراعًا تبشيريًا، بل تنازعًا على طرق التجارة، والمعابر الاستراتيجية، والبوابات الشرقية للبحر المتوسط.
والقرآن الكريم، حين وثّق لحظة هزيمة الروم أمام الفرس، لم يُقدّس طرفًا ولم يُشيطن آخر، بل أشار إلى دورة القوة في التاريخ:
واليوم، وبعد ألفي عام، تعود الثنائيات القديمة بأسماء جديدة:
• الولايات المتحدة، تمثّل "الروم" الحديث، ترفع رايات الديمقراطية وحقوق الإنسان، لكنها تخوض معاركها من أجل النفط، القواعد العسكرية، والممرات البحرية.
• إيران، تعيد إنتاج الهوية الساسانية في قالب ديني شيعي، مستحضرة رمزية "المقاومة" كغطاء لتمدد جيوسياسي واضح في العراق، سوريا، ولبنان.
القدس والرموز الدينية: أداة تحشيد أم غاية تحرر؟
في قلب هذا الصراع المعاصر، تحضر القدس كرمز جامع، لكن حضورها لم يعد بريئًا أو محايدًا. فبينما يرفعها البعض راية للتحرير، يستثمرها آخرون كأداة ضغط سياسي أو ذريعة تعبئة.
إن أخطر ما يواجهه "المقدّس" اليوم هو أن يُختزل إلى وظيفة سياسية:
• المقاومة تتحوّل من مشروع تحرر إلى بطاقة اصطفاف إيديولوجي.
• الخطاب الديني، الذي كان يفترض أن يوحد الأمة، صار أداة تمزيق طائفي.
• ومع غياب مشروع حضاري حقيقي، يصبح الدين نفسه ورقة تفاوض في صفقات جيوسياسية لا علاقة لها بجوهر الإيمان.
أين العرب من كل هذا؟ من الجغرافيا إلى الجيوسياسة
المنطقة العربية لم تعد فقط ساحة صراع، بل باتت ميدانًا مفككًا:
• الخليج يتحرك بمنطق التحالف مع القوة الغالبة.
• بلاد الشام بين نيران المشاريع الإقليمية.
• المغرب العربي في حالة شبه عزلة استراتيجية عن عمقه المشرقي.
الأخطر من هذا كلّه هو غياب الفعل. فـالعرب يتصرفون كضحايا دائمين للخرائط، لا كصناع لها. والنتيجة: أصبح القرار العربي إمّا مرتهنًا لواشنطن، أو محاصرًا بطهران، أو معلّقًا في انتظار "مخلّص خارجي".
من رد الفعل إلى الفعل: ماذا نحتاج؟
لكي تتحرر الأمة من كونها مجرد "ساحة"، وتتحول إلى "فاعل"، لا بد من مشروع جامع تتوفر فيه شروط أربعة:
1. التحرر من الهيمنة الرمزية: لا قداسة لراية تُرفع لتبرير القمع أو التبعية.
2. الاستقلال في القرار السياسي: لا نهضة بدون سيادة، ولا سيادة دون كسر ارتهاننا للمحاور.
3. إحياء العقل الحضاري: التجديد الديني ليس في الخطابة، بل في إنتاج وعي جديد للعلاقة بين المقدس والسياسة.
4. بناء تحالف عربي–إسلامي على أساس المصالح المشتركة لا المذهبيات والولاءات العابرة للحدود.
خاتمة: التاريخ لا يعيد نفسه... لكنه لا ينسى
حين نستحضر ثنائيات الماضي، فليس ذلك تمجيدًا له، بل استبصارًا بما يعيد إنتاج ذاته.
الصراع في ظاهره ديني، لكن في جوهره صراع على أنماط الهيمنة ومواقع القرار.
وإذا لم نمتلك مشروعًا حقيقيًا، فسيظل غيرنا يكتب حاضرنا ويعيد تشكيل هويتنا.
إما أن نُنتج مشروعًا يُحسب له حساب، أو نظل أوراقًا على طاولات لا ندعى إليها إلا بعد تحديد النتائج.
675 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع